فصول في الثقافة والأدب

علي بن مصطفى الطنطاوي ت. 1420 هجري
164

فصول في الثقافة والأدب

الناشر

دار المنارة للنشر والتوزيع

رقم الإصدار

الأولى

سنة النشر

١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م

مكان النشر

جدة - المملكة العربية السعودية

تصانيف

فيقول إن التسجيل قد أُجِّل، فأحس كأن حِمْلًا ثقيلًا كان على عاتقي وأُنزل عنه. حديث اليوم للطلاب، ولكني أَعِدُهم بأني لن ألبس جُبّة المعلم ولن أحمل عصاه (وإن لم يعد للمعلم اليومَ جُبّة يلبسها ولا عصا يحملها) ولن أخاطبهم من الأعالي، من فوق مِنَصّة التدريس، ولن آتيهم بالنصائح التي ماتت ودُفنت في الكتب من سنين طِوال، أستخرج جُثَثها فألقيها على رؤوسهم؛ لأن النصيحة لا تفيد إلا إن جاءت حيّة تمشي على الأرض كما يمشي الأحياء من الناس، تعيش معهم، تستمدّ من حياتهم، تُصوّر مجتمعهم. ثم إنها تُعطى مثلما يعطي الطبيبُ الدواءَ، كل يوم ثلاثة أقراص. ولو أنك وجدت النفع فيها فأخذت حبّات القارورة كلها معًا لانقلب النفع إلى ضرر، بل ربما صار الشفاء المرجوّ هلاكًا محقَّقًا. والذين يتكلمون في الرائي أو يخطبون على المنابر فيصبّون الوعظ صبًّا على رؤوس الناس لا يكادون ينفعون الناس، بل إنهم يخالفون سنة الإسلام. لمّا بعث عمرُ بن الخطاب عبدَ الله ابن مسعود إلى العراق داعيًا ومعلمًا جعل لهم مجلسًا للوعظ والتذكير، فقالوا له: زدنا. قال: لا، إني أخاف أن تَمَلّوا، فقد كان الرسول ﵊ يتخوّلنا بالموعظة حتى لا نَمَلّ. فإذا كان الصحابة، وهم -كما سماهم خالي محب الدين الخطيب- «الجيل المثالي» الذي لم تَرَ عينُ التاريخ جيلًا خيرًا منه يمكن أن يُمِلَّهم استمرارُ الجِدّ وتوالي المواعظ، فكيف لا يمل من مثل ذلك طلاب المدرسة وسامعو الإذاعة ومشاهدو الرائي؟ * * *

1 / 170