علي الطنطاوي
فصول
في الدعوة والإصلاح
جمع وترتيب حفيد المؤلف
مجاهد مأمون ديرانية
دار المنارة
للنشر والتوزيع
1 / 3
حقوق الطبع محفوظة
يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر
الطبعة الأولى
٢٠٠٨
دار المنارة
للنشر والتوزيع
ص ب ١٢٥٠ جدة ٢١٤٣١ المملكة العربية السعودية
هاتف ٦٦٠٣٦٥٢ فاكس ٦٦٠٣٢٣٨ المستودع ٦٦٧٥٨٦٤
1 / 4
مقدّمة
إن من الأَعلام من تغلب عليه صِفَةٌ فهو يُعرَف بها، أو سِمَةٌ فهو يُنسَب إليها؛ فإذا ذُكر لك الإسكندر -مثلًا- أو صلاح الدين تصوّرتَ حياة حافلة بالمعارك والفتوح، وإذا سمعت بالطبري أو النووي تخيّلتَ حياة غنية بالدَّرس والتأليف، وهكذا. فأي شيء يخطر ببالك إذا فكرت بعلي الطنطاوي؟
قد يقول قائل: العلم الوَفير والثقافة المتنوعة، ويقول آخر: الكلمة الحلوة والأسلوب الجميل، ويقول ثالث ورابع: الحديث الجذّاب والإلقاء الساحر، وروح الفكاهة والشخصية الآسرة ... وكل واحد من هؤلاء مُصيب، غير أنه لم يمسّ إلا عَرَضًا وفاته الجوهر. لقد كان علي الطنطاوي صاحبَ علم وفير وأسلوب جميل وحديث جذّاب، إلى غير ذلك، ولكن هذه جميعًا كانت أدوات سخَّرَها واستعملها في دعوته إلى الله وسعيه إلى الإصلاح.
فلو أن سائلًا سألني: "كيف تلخّص حياة علي الطنطاوي؟ صِفْها في عشر كلمات". لقلت له: لا أحتاج إلى عشر، آخذ ثلاثًا وأردّ لك سبعًا. لقد صرف حياته «في الدعوة والإصلاح»، ﵀ وأجزل له الثواب.
* * *
1 / 5
لقد سعى علي الطنطاوي خلال حياته كلها إلى الإصلاح، وجَهَدَ واجتهد وجاهد في سبيله: إصلاح العقيدة والعبادة، وإصلاح السلوك والأخلاق، وإصلاح التعليم والتربية، وإصلاح اللغة والأدب، وإصلاح حياة الناس الاجتماعية والأُسَرية، وإصلاح الحكومات والمحكومين.
في الدين والاعتقاد حارب الدعوات الباطلة والنِّحَل الباطنة والبدع والخرافات ودعا إلى الإسلام النقيّ الصحيح، وفي المجتمع والحياة العامة حارب التحلل والتكشف والفجور والاختلاط ودافع عن الاستقامة والعِفّة والفضيلة، وفي الأخلاق الاجتماعية حارب الكذب والغش والنفاق والالتواء والظلم والعدوان والرذائل كلها ودعا إلى نقائضها من الفضائل وكرائم الأخلاق، وفي اللغة والأدب حارب الضعف والحداثة ودافع عن العربية وانتصر للأسلوب العالي والبيان الراقي والشعر الأصيل الموزون ... وأنّى ذهبتَ في مجالات الحياة وجدت يده ممدودة فيه بالإصلاح.
لقد كان حربًا على الآثام كلها وداعيًا إلى كل فضيلة، وحيثما كانت الخِيرَة بين خير وشر كان حربًا على الشر نصيرًا للخير داعيًا إليه مدافعًا عنه.
ولئن أعانه على جهاده الطويل هذا ما آتاه الله من أسلوب وفصاحة وبيان، وما حباه به من اندفاع وشجاعة وجرأة وصلت به أحيانًا إلى درجة التهوّر، وما درج عليه من الثورة على العادات ومخالفة المألوف، فإن الذي دفعه في هذا الطريق في المقام الأول هو الإيمان العميق الذي غُرس في قلبه، والروح المتوثِّبة التي حملها بين جَنْبَيه، وموهبته النادرة في الانتباه إلى الخطأ مهما
1 / 6
دقَّ وصَغُر، والإحساس بالخطر مهما خفي وبَعُد؛ فكان من دأبه أن ينبّه الناس إلى الخطر قبل أن يدنو منهم الخطر، ويحذّرهم من السيل قبل أن يدهمهم السيل، وكان كالمنارة التي تصرف السفن عن اقتحام صخور البر في الليلة العاصفة الظَّلْماء، أو الشعاع الذي ينير الطريق للجَمْع المضطرب في الفتنة الغاشية الدَّهْماء، وكان في قومه النّذيرَ العُرْيان.
* * *
وبعد، فهذا هو الكتاب السابع الذي وفّقَ الله -بفضله وكرمه- إلى إصداره بعد وفاة جدي ﵀. ولئن كنت قد اخترت له هذا العنوان، «فصول في الدعوة والإصلاح»، فإنني أعترف بأن ما فيه من أحاديث ومقالات ليس سوى عينة صغيرة مما أنفقه في حياته من جهد في الدعوة وفي الإصلاح. ولو أنّي توسعت لجعلت عنوان هذا الكتاب اسمًا جامعًا لمؤلَّفات علي الطنطاوي كلها، بل لكتبه وأحاديثه وخطبه ومحاضراته جميعًا؛ فهو كان داعيًا مُصلحًا في كل ما حدّث وحاضر وخطب وكتب.
وقد جمعت مادة هذا الكتاب من مقالات نُشرت في الصحف والمجلات وأحاديث أُلقِيَت على المنابر أو أُذيعَت في الإذاعات بين عامَي ١٩٣٦ و١٩٩٠، أي في مدى يزيد على نصف قرن من الزمان، وبعض مقالاته كتبها جدي ﵀ ثم لم يُذِعْها ولم ينشُرْها قط.
وكما يحصل معي في كل مرة، وجدت -وأنا أُعِدّ مادته وأرتّبها- مقالات وأحاديث عديدة فيها مشابَهة وتكرار، فاخترت
1 / 7
من كل متشابهَين أفضلَهما وضحّيت بالآخر، وبقي -بعد ذلك- من المقالات والأحاديث ما يمكن أن يجد القارئ في بعضه تشابهًا في اللفظ أو تكرارًا في المعنى، لكنني وجدته أقل من أن يجرّ إلى حذف المقالة كلها فكان مصيرها البقاء.
وهأنذا أقدّم اليوم هذا الكتاب وأنا أسأل الله أن يكتب الثواب لي على إخراجه، ولناشره على نشره بين الناس، وأن يثيب جدي عليه أحسن الثواب، ويجعل كلَّ كلمة فيه وكلَّ حرف في ميزان حسناته يوم الحساب.
مجاهد مأمون ديرانية
غرة المحرّم ١٤٢٩
1 / 8
التقدمية والرجعية
نشرت سنة ١٩٦٦
رآني صديق لي وأنا أكتب هذا المقال، فقال لي مازحًا: اجعلها مقالات تقدّمية، لا تجعلها مقالات رجعية.
قلت: ما التقدمية، وما الرجعية؟
قال: ألا تعرف؟
قلت: لا والله، ولكني أعرف أن لكل عصر كلمات تمشي فيه على الألسن، يُقبل عليها الشباب ويُفتَنون بها من غير بحث عن حقيقة معناها، كما يتلقف النساء (أعني بعض النساء) الموضات في الثياب، ويقلّدْنَها ويحرصنَ عليها من غير أن يدركن الفائدة منها! ولقد كانت الموضة السائرة ونحن صغار كلمة «عصري»، وكانوا يتّهمون كل متمسك بالدين بأنه متعصب وغير عصري. وقبلها كانت الموضة كلمة «منوَّر»، فالذي يخالف ما عليه الشباب يتهمونه بأنه غير منوَّر. وكان كثيرون من ضعاف الإيمان يتظاهرون بترك الدين (وهم متديّنون في الواقع) خوفًا من أن يقال إنهم غير منورين أو إنهم متعصبون غير عصريين!
وقد بطلت اليوم هذه الكلمات وحلّت محلها كلمات جديدة
1 / 9
صارت هي موضة العصر، هي كلمات «التقدمي» و«التقدمية» و«الرجعي» و«الرجعية». ولقد كنت أكتب من تسع عشرة سنة كلمات قِصارًا في جريدة شامية بعنوان «كل يوم كلمة صغيرة» (١)، فكتبت يومًا أسأل أهل التقدمية عن تعريفها الذي يبيّن حقيقتها وعن تعريف الرجعية الذي يوضح حدودها، وانتظرت طويلًا فلم أجد عندهم الجواب الشافي (٢).
الذي أعرفه أن التقدمية مشتقة من التقدّم، وأن العرب قالوا «التقدمية» في مثل هذا المعنى. وتستطيعون أن تراجعوا معناها في «أساس البلاغة» وفي المعاجم. وأعرف أن الرجعية من الرجوع. فإذا وقفت في جدّة ووجهك إلى البحر وتقدمت فأنت بهذا المعنى تقدمي، تزداد «تقدّمية» كلما اقتربت من الشاطئ، وإذا جعلت ظهرك إلى البحر وتقدمت فأنت تقدمي أيضًا، تزداد «تقدّمية» كلما ابتعدت عن البحر. فكلاهما تقدمي، فمن منكما
_________
(١) وهي المقالات التي جُمِع عدد منها من بعدُ في كتاب «مقالات في كلمات»، الذي أصدره جدي ﵀ سنة ١٩٥٩، وأصدرتُ جزأه الثاني -بفضل الله- بعد وفاته بسنة. وقد نشر هذه المقالات في جريدة «النصر» أولًا ثم انتقل بها إلى جريدة «الأيام» من بعد، واستمرّ فيها سنين (مجاهد).
(٢) انظر مقالة «ما هي التقدمية؟» في كتاب «مقالات في كلمات»، قال في أولها: "ما هي هذه التقدمية التي صار النطق بها موضة العصر وعلامة التمدن والفهم؟ هل يتكرم أحدٌ فيعرّفها لنا تعريفًا جامعًا مانعًا، فيكون له الأجر والشكر، أم أن «التقدميين» -مثلنا نحن «الرجعيين» - لا يعرفون لها تعريفًا ولا يدرون لها معنى محدودًا؟ " (مجاهد).
1 / 10
التقدمي الحقيقي؟
فأنت لا تعرّف «التقدمية» إذن إلا إذا حدّدتَ الوجهة التي تتوجه إليها. هذا هو التفريق المادي بالنسبة إلى الرجل الذي يمشي، فما هو التفريق المعنوي بين «التقدمية» التي يَدْعون إليها و«الرجعية» التي يخوّفون الناس بها؟
هل يريدون بالتقدمي الرجل الذي يدعو إلى الجديد، إلى عصر الذرة والصاروخ، وبالرجعي الرجل الذي يتمسك بالقديم ويريد أن نعود إلى عهد الجمل والسِّراج؟ إن كان هذا هو الذي يريدون فليس بشيء، لأن الأمور لا تقسَّم إلى جديد وقديم، بل إلى حق وباطل وخير وشر. وإذا كان كل قديم -على رأي هؤلاء- عتيقًا باليًا واجبًا تركُه فإن العقل أقدم من الدين، فإذا تركتم الدين لقِدَمِه فاتركوا العقل لأنه أقدم منه، وعودوا مجانين هاربين من مستشفى المجاذيب! والحب قديم، فاتركوا الحب. والزواج قديم، فأبطلوا الزواج. وآباؤكم وأجدادكم صاروا من أهل القديم، فتبرّؤوا من آبائكم وأجدادكم ... أفهذا كلام يا ناس؟!
كلا، ما هذا هو المقياس الصحيح. وإذا كان في هذا العصر تقدّم العلم وازدهار الحضارة، فإن فيه الحروب المدمرة والقنابل المبيدة والتهتك والفساد، وفي هذا العصر تركنا اليهود يسلبوننا قطعة من قلب بلادنا ويستأثرون بها دوننا، ويشرّدون أبناءها حتى يتفرقوا فوق كل أرض وتحت كل نجم، وقبل ألف سنة كان أسلافنا يركبون الإبل لا يعرفون السيارات ولا الطيارات، ويعيشون على السُّرُج ومصابيح الزيت، ولكنهم كانوا سادة الدنيا وكانوا أعزّ الأمم.
1 / 11
فإذا قلتم إننا رجعيون فنحن معكم، ونفتخر بأننا من الرجعيين. لكننا لا نريد الرجعة إلى عهود الاستعمار ولا إلى أيام الانحطاط والتأخر، بل نريد الرجوع إلى العهد الذي كنا فيه ملوك الأرض وكنا أساتذة العالم، وكان في أيدينا صَوْلجان الحكم وكان في أيدينا منار العلم. إلى عهد الصدر الأول، العهد الذي خرجت فيه الجيوش العربية المسلمة من هذا البلد تحمل راية محمد ﷺ، فركزتها على كل جبل وفوق كل قلعة، من قلب فرنسا إلى قلب الصين.
على أننا إذا تلفَّتْنا إلى الماضي فلا نلتفت إليه لنرجع القهقرى ونمشي إلى الوراء، بل لنستمد منه القوة على السير سعيًا إلى الأمام، إلى الأمام لنربط بين الماضي المجيد والمستقبل المجيد، إلى الأمام لنصل مجدنا الجديد بمجدنا التليد.
* * *
إننا نعلم أن الاستغراقَ في الماضي وحدَه نومٌ أو جمود، والاستغراقَ في المستقبل وحده هوسٌ وجنون، والاستغراقَ في الحاضر وحده عجزٌ وقعود. ونحن نريد أن نستمدّ من الماضي دافعًا وحافزًا، ومن المستقبل موجّهًا ومرشدًا، ومن الحاضر عمادًا وسنادًا.
إننا ندعو إلى العودة إلى الماضي، ولكن ما معنى هذا؟ هل معناه أن نعود القرون الماضية ونرجع الكرة الأرضية في دورانها، ونسقط من حساب الزمان هذه القرون الطويلة حتى نعيش في القرن الأول الهجري مرة أخرى؟ هذا مستحيل.
1 / 12
هل معناه أن نعود إلى حياة القرن الأول فنركب الإبل وندع السيارة، ونسكن الخيام ونترك البيوت، ونعود إلى طب الحارث بن كَلَدَة أو أبي بكر الرازي ونترك الطب الحديث؟ هذا ما لا يقول به أحد؛ بل نريد العودة إلى مثل ما كان عليه أجدادنا من العلم والمجد والقوة والسلطان.
ونحن نعلم أن هذا المجد لا يعود بالأحاديث والخطب، ونعلم أن السجين المصفَّد بالأغلال لا يطلقه تذكر الحرية والتغني بلذاتها، وأن الجائع لا يشبعه تذكر موائد الماضي واستعراض ألوانها، وأن الفقير لا يغنيه تذكر زمان غناه والزهو بما صنع فيه، وأن الذلة لا تُدفَع عن الذليل بنظم قصائد الفخر بعزة جده وأبيه.
ولكننا نعلم أيضًا أن السجين الذي ينسى أيام الحرية يستريح إلى القيد ولا يجد حافزًا إلى الانطلاق، وأن الفقير الذي ينسى زمان الغنى يطمئن إلى الفقر ولا يجد دافعًا إلى الاستغناء، وأن الذليل الذي ينسى عزة أبيه يألف الذل ولا يجد قوة على دفعه.
فإذا اطمأننّا إلى جلال ماضينا وحسبنا أن خطبة بتمجيده ومقالة بالإشادة به تغنينا وتكفينا فلن يعود لنا هذا الجلال أبدًا، وإن نسينا أننا أبناء سادة الأرض وأساتذة الدنيا لم يحرك أعصابنا شيء إلى استعادة هذا المجد.
فلنأخذ من الماضي بقَدْر، نأخذ منه ما يدفع ويرفع وينفع، وندع منه ما يثبط ويُقعد ويُنيم. إننا لا نريد أن نعود إلى الزمان الماضي، فالزمان يمشي أبدًا لا يقف ولا يعود، ولا نعود إلى مثل معيشة الزمان الماضي ونترك ثمرات الحضارة، ولكن نعود إلى
1 / 13
المُثُل العليا وإلى الفضائل التي لا تفقد قيمتها بمرور الزمن؛ فكما أن الذهب والألماس لا يضرّه القِدَم ولا يصدأ كما يصدأ الحديد، فإن في المعاني ما هو كالألماس والذهب في المعادن.
* * *
نحن نريد أن نعود إلى هذه الحياة؛ هذه هي رجعيتنا التي لا ننكرها بل نفتخر بها، قد عرّفناها ووضّحناها، فما هي تقدميتكم يا أيها السادة التقدميون؟
هل معناها التقدم من أهل الغرب وتقليدهم في كل شيء، بل تقليدهم في الشر الذي يشكون منه ويتمنون الابتعاد عنه؟ وأن نهمل عقولنا ونترك شرع ربنا ونتبرأ من آبائنا وأجدادنا، ونمشي وراء الغربيين فنقول بمقالهم ونفعل فعلهم، فإن كشفوا العورات كان سترها رجعية، وإن أعلنوا الزنا كان إعلانه تقدمية، وإن لبسوا السراويل في أذرعهم والمعاطف في أرجلهم، أو قعدوا على الأرض وأجلسوا الكراسي فوقهم، أو أكلوا الحساء (الشوربة) بالشوكة والبطيخ بالملعقة، فقد وجب في شرعة التقدمية أن نفعل فعلهم وإلا كنا رجعيين؟!
إذا كان هو المراد بالتقدمية فتشجّعوا وقولوه، ولا تدعونا نطالعه من خلال السطور ومن بين الكلمات.
* * *
1 / 14
الإسلام والحياة
نشرت سنة ١٩٣٧
لما كنت طفلًا صغيرًا كنت أذهب مع أبي يوم المولد إلى منزل المحدّث الكبير السيد الكتاني ﵀، فكنت أجد فيه حشدًا من الناس وقد تفرقوا في قاعاته وأبهائه، فتحلقوا فيها حول جِفان الرز الموشَّاة بالصنوبر واللوز والمغطاة باللحم، فأكلوا حتى شبعوا ثم قاموا ليأكل غيرهم. فإذا انتهى الطعام ذهب منهم من ذهب وبقي من بقى يستمع قصة المولد.
أو أذهبُ إلى المسجد الأموي فأجد فيه خلائق مجتمعة حول تالٍ يتلو شيئًا يسميه «قصة المولد»، ومنشدين يغنّون أغاني يدعونها أناشيد نبوية، فإذا انتهى الغناء واكتملت القراءة بدأ الصراخ والصراع على السكاكر والملبَّس.
وكان هذا هو الاحتفال بالمولد!
وفي ذات صباح خرجت من داري، فإذا في المدينة شيء جديد، إذا البلد قد اكتست حلّة من أغصان الشجر مزينة بأزهار الغوطة، ولبست ثوبًا من السجاد العجمي مزدانًا بالصور، صور شتى لا تجمعها فكرة ولا تدل على شيء، فمن صورة عنترة بن
1 / 15
شداد على فرسه بشواربه التي تشبه سواري مركب إلى صورة السلطان عبد الحميد، ومن صورة الملك حسين إلى صورة فيل من فيلة الهند ... ومن فوقها الأعلام من كل لون وشكل، من علم البلاد إلى علم الطريقة الشاذلية إلى علم إيران! وخلال ذلك العشرات من المصابيح الكهربائية تضيء في عين الشمس، فتُغْني الشركة الأجنبية وتفقر الشعب (١).
فسألت: فيمَ هذا كله؟
قالوا: هذا كله للاحتفال بالمولد!
ومرَّت الأيام، وارتقينا فأصبح كل حيّ يقيم حفلة في المسجد، وغدت الحفلات تقام في البيوت وعلى قوارع الطرق. ولكن ماذا في هذه الحفلات؟ قصة حياته ﵌. غير أن قصة الحياة تبدأ عند الولادة، والناس يختمون القصة إذا وُلِد، فكأنهم لم يقرؤوا منها شيئًا.
ثم ماذا؟ أغانٍ وأناشيد، وأحلف لكم -أيها السادة- أنني سمعت مرة منشدًا يقرأ في حفلة مولد أغنية غزلية معروفة، فلما انتهى منها قال: اللهم صلِّ وسلّمْ وبارك عليه، فقال الناس الأذكياء: اللهمّ صل وسلم وبارك عليه!
ومرّت الأيام، وانتبه الناس فدَعَوا الخطباء يخطبون. هذا جيد أيها السادة، ولكن ما هي جدواه؟ يسمع الناس هذه الخطب، وتفيض لها حماستهم وتخفق قلوبهم، وتنطلق أيديهم
_________
(١) كانت شركة الكهرباء بلجيكية في تلك الأيام (مجاهد).
1 / 16
بالتصفيق وحناجرهم بالثناء، ثم تمر أيام الاحتفال وينغمس الناس كرّة أخرى في لجّة الحياة، فينسون الحفلة والخطب، ولا يبقى لها في نفوسهم إلا ذكرى ضئيلة أو صورة واهية لعبقرية خطيب أو براعة شاعر.
هذا ما فكرت فيه ساعة أخذت كتاب جمعية «التمدّن الإسلامي» الذي تكلفني فيه بالكلام في هذه الحفلة؛ قلت في نفسي: لقد خطبت كثيرًا من الخطب الحماسية المجلجلة وهززت الناس بها هزًا، فأين أثرها؟ لم يبق منه شيء. إذن فلن أعيد على الناس حديث الحماسة، ولن أقرأ عليهم صفحات التاريخ، ولكني سأحدثهم حديث الحياة.
أوَلم يكن مولده ﷺ حياة لهذا العالَم، وحياة الفضائل البشرية والمثل العليا؟ فلماذا لا تكون ذكرى هذا المولد مطلع حياة جديدة لنا؟
إذن فليكن موضوعي: «الإسلام والحياة».
* * *
أيها السادة، ليس الخطيب الجريء هو الذي يهزّ عواطف الجمهور بكلمات سطحية فارغة ولكنها رنّانة مثل الطبل، ولا الذي يصرّخ فيهم ويرفع صوته يزيّن لهم ما هم فيه ويحسّن لهم حاضرهم، ولكن الخطيب الجريء هو الذي يبحث بحثًا عقليًا، ويدرس ناحية من الموضوع درسًا عميقًا، ويقول للجمهور: إن ما أنت عليه باطل، إن الحق هو ما سأسوقه إليك.
1 / 17
وأنا أعترف بأن الجماهير لم تألف عندنا هذا النوع من الخطباء، وأعترف أني لم أجرب أن أكون من قبلُ خطيبًا من هذا الطراز، ولكني سأمتحن جرأتي وأضحّي بإعجابكم بي، ذلك الإعجاب الذي أناله بسهولة إذا خطبت فيكم خطبة حماسية وأثرت أعصابكم بذكرى الماضي الفخم، ولكني أكون خادعًا لكم لأني أُنسيكم بوصف هذا الماضي وعظمته أنكم في حاضر ليس فيه من تلك العظمة شيء.
وبعد، فلندخل إلى الموضوع.
إننا اليوم في مطلع نهضة جديدة تشمل أقطار هذا الشرق الإسلامي، ما في ذلك شك، وإن المبدأ الذي يمكن أن نصدر عنه في هذه النهضة هو الإسلام. ولقد يعترض علينا دعاة للوطنية الضيقة التي لا تتجاوز سوريا بحدودها السياسية، ويعترض علينا من يدعو إلى قومية سورية مستقلة، كما يعترض علينا دعاة الوحدة العربية، ويعترض غيرهم اعتراضات كثيرة ... ولكن هذه الاعتراضات كلها مردودة، ولقد فصلت هذا الموضوع في مقالة ترونها في الجزء الأول من مجلة «التمدن الإسلامي» الذي صدر في هذا الشهر الأنوَر، فلن أعيدها الآن عليكم.
إن الإسلام -أيها السادة- يجب أن يكون الصلة الكبرى في نهضتنا الحاضرة، ولكن ذلك يحتاج إلى عمل، يحتاج إلى جماعة من العلماء يدرسون الكتاب والسنة درسًا علميًا، ويفهمون حاجة العصر فهمًا صحيحًا، ويستنبطون لنا ما نحتاج إليه من القوانين والنظم. فمن يقوم بهذه المهمة؟
1 / 18
إننا -أيها السادة- حيال طبقتين من المتعلمين: طبقة المتعلمين في المدارس النظامية والأجنبية، وطبقة المتعلمين على المشايخ وفي المدارس القديمة، وإذا شئتم التجوّز أقول: إن أمامنا شيوخًا وشبانًا، وبين هاتين الطبقتين فرق كبير لا يُدرَك للوهلة الأولى؛ ذلك أن أسلوب التفكير عند الشباب يخالف تمامًا أسلوب تفكير الشيوخ.
أما الشباب: فقد تعلموا إلى حدّ ما طريقة الشك والبحث العلمي، فالشاب لا يطمئن إلا إذا شكّ أولًا، وحاكم المسألة وأدارها على وجوهها وشغل بها عقله، ولكنه يغلو في هذا الشك ويبالغ في تقدير قيمة العقل، فيريد أن يحكم به على كل شيء، مع أن العقل لا يستطيع أن يحكم على ما وراء المادة، والعلم لا دخل له في مسائل الغيبيات.
وأما الشيوخ فعلى النقيض من ذلك: يعرفون روح الاتّباع، ويفزعون من الخروج على المألوف، فما قاله المؤلف أو الشارح فهو عندهم الصواب! مع أن نظرة واحدة إلى تاريخنا التشريعي والسياسي تكفي للدلالة على خطأ هذا الجمود.
كان العرب أمة بدوية جاهلة لا شأن لها في الدنيا ولا خطر، فرفعها الإسلام، الإسلام وحده، حتى جعل منها أمة تعاونت مع الأمم التي شرفت بالإسلام، فأقامت حضارة تعدّ الحضارة العالمية الثانية بين ثلاث حضارات، الأولى حضارة اليونان، والثالثة أوربا. فإذا نحن ذكرنا هذه الحقيقة وآمنّا بأن الإسلام ابن حضارة وتمدن، ثم رأينا مكاننا اليوم من سُلّم الحضارة ونسبتنا
1 / 19
إلى الأمم المتمدنة، أيقَنّا بأن التقصير منا لا من الإسلام ذاته.
الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن الإسلام ليس محصورًا في كتب الفقه وإنما هو في القرآن وفي السنة الصحيحة. ولقد قام أجدادنا الأولون بالواجب عليهم، أخذوا القرآن فقرؤوه وفهموه واستنبطوا منه (ومن السنة الصحيحة) القوانينَ الشخصية والحقوقية والجزائية والقانون الأساسي والأنظمة الإدارية والشرع الدولي، وتركوا لنا هذه المجموعة الفقهية النادرة المثال، التي تضمن حلّ كل مشكلة اجتماعية أو حقوقية عَرَضت لهؤلاء الفقهاء. ولكن الفلك دار -من بعدُ- دورات والزمان تبدل، فتغير العُرْف، وتحولت أوضاع المجتمع وأساليب التجارة وأشكال الحياة، ونشأ للإسلام خصوم من المبشرين والملحدين وعُبّاد العلم والجاهلين ودعاة الفجور والخلاعة، فماذا صنع العلماء حيال ذلك كله؟
هل تتسع صدوركم لسماع طائفة من الحوادث الصغيرة الواقعة؟
ذهبت إلى عالم فعرضت له طرفًا من المفاسد المنتشرة والحانات المفتوحة والمدارس المضلِّلة، وطلبت منه أن يساهم بعلمه في الإصلاح الخلقي والاجتماعي، فقطع عليّ حديثي وقال لي: "لقد أخبر النبي ﷺ بهذا كله، صار آخر الزمان فلن يفيد شيء". وأخذ سبحته، وقام ليذهب إلى رئيس الحكومة ليهنّئه بالعيد ويتزلف إليه لئلا يقطع راتبه الذي يأخذه بلا عمل.
وذهبت إلى الثاني فحدثته، فقال: "هذا كله من الشيخ فلان،
1 / 20
هذا الوهابي الذي بثّ في نفوس الناس الفساد" ... فتركته. وذهبت إلى الثالث فسألته عن مسألة مما يعترض به أعداؤنا علينا، فأسكتني بشدة وقال لي: "لا تقل هذا، يُخشَى عليك"! قلت: يا سيدي، أنا أنقل كلامهم لأعرف ردّه، وناقل الكفر ليس بكافر. فقال: "أعوذ بالله من هذا الجيل"، وأعرض عني.
لا تغضبوا أيها السادة، فلا أريد أن أقول إن العلماء كلهم على هذا النمط، ولكني أريد أن أقول إن أكثر علمائنا يعيشون بيننا وكأنهم يعيشون في القرن التاسع الهجري، ويفكرون بعقول أهل ذلك القرن، وهم بعيدون عن فهم روح العصر وعلومه لا يستطيعون أن يتفاهموا مع الشباب.
أما الشباب فاسمعوا حديث الشباب: الشباب يقبلون كل شيء يجدون عليه طابع أوربا، ولو كان الفجور والكذب والحماقة والبلاء الأزرق، ويردّون كل ما عليه شارة الشرق وطابع الدين. وكل كلمة يقولها عالم من أوربا حق لا غبار عليه، وكل ما يقول علماؤنا سخف وجمود!
* * *
هذه هي حالنا؛ نحن نحتاج إلى من يفهم روح الإسلام ويدرك حاجة العصر، ثم ينقطع لدرس مسألة واحدة على أسلوب البحث العلمي وفي ضوء علم أصول الفقه، على نحو ما درس العلامة المصري الشيخ أحمد شاكر مسألة الطلاق، وهي من المعضلات، فوُفِّق في كتابه «نظام الطلاق في الإسلام» إلى أحسن حلّ لها مُستنبَط من الكتاب والسنة.
1 / 21
نريد من كل عالم أن ينتج لنا شيئًا. إننا نحتاج إلى كثير ... نحتاج إلى شباب ينقلون إلينا علوم الغرب التي برعوا فيها على نحو ما نقل التراجمةُ علومَ اليونان في مطلع العهد العباسي، ونحتاج إلى شيوخ يفهمون هذه الكتب ويبيّنون لنا حكم الدين فيها.
نحتاج إلى شيوخ يؤلفون لنا كتبًا جديدة بأسلوب علمي مفهوم، في الفقه والتوحيد والأصول والمصطلح وسائر العلوم الإسلامية، ونحتاج إلى شبان يقرؤون هذه الكتب ويتفهمونها.
نحتاج إلى فقهاء يجدّدون لنا باب المعاملات في الفقه. وأرجو ألاّ تفهموا كلمتي على غير وجهها، فأنا أريد أن ننظر في أحكام الفقه، فما كان منها مستندًا إلى نص قاطع من كتاب أو سنة يبقى على حاله لأنه لا سبيل إلى تبديله مطلقًا، وما كان مستندًا إلى شيء من العُرف الذي كان سائدًا في وقت من الأوقات، وتغيَّر اليوم هذا العرف، يتغير الحكم تبعًا له. وهذا هو مدلول القاعدة الفقهية: «لا يُنكَر تغير الأحكام بتغير الأزمان»، لا كما يفهمها بعض الببغاوات ممن درسوا «المجلة» في الحقوق، فيريدون أن يغيروا أحكام القرآن تبعًا لهذه القاعدة.
* * *
أنا لا أحب أن أجعل محاضرتي في الفقه والأصول، ولا أريد أن أسوق لكم أمثلة كثيرة أرهقكم بسماعها، ولكني أريد أن أقول: إن الزمان قد استدار كيوم بدأت الحضارة الإسلامية، وإن علينا أن ننشئ حضارة جديدة، لا هي بالغربية الخالصة ولا هي حضارة أجدادنا بكل فروعها، بل هي حضارة مقتبَسة من
1 / 22