بسم الله الرحمن الرحيم
قال محمد بن محمد رضى الله عنهما
اسم العقل يقال على انحاء كثيرة
.ا. الشىء الذى به يقول الجمهور فى الانسان انه عاقل
.ب. العقل الذى يردده المتكلمون على السنتهم فيقولون هذا مما يوجبه العقل او ينفيه العقل
.ج. العقل الذى يذكره الاستاد ارسطاليس فى كتاب البرهان
صفحة ٣
.د. العقل الذى يذكره فى المقالة السادسة من كتاب الاخلاق
.ه. العقل الذى يذكره فى كتاب النفس
.و. العقل الذى يذكره فى كتاب ما بعد الطبيعة
اما العقل الذى به يقول الجمهور فى الانسان انه عاقل فان مرجع ما يعنون به هو الى التعقل وذلك انه ربما قالوا فى مثل معوية انه كان عاقلا وربما امتنعوا ان يسموه عاقلا ويقولون العاقل يحتاج الى دين والدين عندهم هو الذى يظنون هم انه هو
صفحة ٤
الفضيلة فهولاء انما يعنون بالعاقل من كان فاضلا وجيد الروية فى استنباط ما ينبغى ان يؤثر من خير او يتجنب من شر ويمتنعون ان يوقعوا هذا الاسم على من كان جيد الروية فى استنباط ما هو شر بل يسمونه نكرا وداهية واشباه هذه الاسماء وجودة الروية فى استنباط ما هو فى الحقيقة خير ليفعل وفى استنباط ما هو شر ليتجنب هو تعقل فهولاء انما يعنون بالعقل على المعنى
صفحة ٥
الكلى ما يعنيه ارسطو بالتعقل واما من سمى معوية عاقلا فانه اراد به جودة الروية فى استنباط ما ينبغى ان يؤثر او يتجنب على الاطلاق وهولاء متى تواقفوا فى امر معوية او امثاله بان يراجعوا فى من هو عاقل عندهم هل يسمون بهذا الاسم من كان شريرا وكان يستعمل جودة رويته فيما هو عندهم شر توقفوا او امتنعوا ان يسموه عاقلا واذا سئلوا عن من يستعمل جودة رويته فى فعل الشر هل يسمى داهيا او نكرا او ما اشبه هذه الاسماء لم يمنعوه هذا الاسم فمن قول هولاء ايضا يلزم ان يكون العاقل انما يكون عاقلا مع جودة رويته اذا كان فاضلا يستعمل جودة رويته فى افعال الفضيلة ليفعل وفى
صفحة ٦
افعال الرذيلة ليجتنب وهذا هو المتعقل فالجمهور لما كانوا فيمن يعنونه بهذا الاسم طائفتين طائفة تعطى من قبل انفسها ان العاقل ليس يكون عاقلا ما لم يكن له دين وان الشرير وان بلغ فى جودة الروية فى استنباط الشرور ما بلغ لم يسموه عاقلا والطائفة الاخرى التى تسمى الانسان لجودة رويته فيما ينبغى ان يفعل بالجملة عاقلا فانها متى روجعت فيمن هو شرير وله جودة روية فيما ينبغى ان يفعل من شر هل يسمى عاقلا توقفوا او امتنعوا صار مرجع
الجمهور باسرهم فيما يعنونه بالعاقل الى معنى المتعقل ومعنى المتعقل عند ارسطو هو الجيد الروية فى استنباط ما ينبغى ان يفعل من افعال الفضيلة فى حين ما يفعل فى عارض عارض اذا كان مع ذلك فاضلا بالخلقة
صفحة ٧
واما العقل الذى يردده المتكلمون على السنتهم فيقولون فى الشىء هذا مما يوجبه العقل او ينفيه العقل او يقبله العقل او لا يقبله العقل فانما يعنون به المشهور فى بادئ راى الجميع فان بادئ الراى الرأى المشترك عند الجميع او الاكثر يسمونه العقل وانت تتبين ذلك متى استقريت كلامهم شيئا شيئا مما يتخاطبون فيه وبه او مما يكتبونه فى كتبهم ويستعملون فيه هذه اللفظة
صفحة ٨
واما العقل الذى يذكره ارسطو فى كتاب البرهان فانه انما يعنى به قوة النفس التى بها يحصل للانسان اليقين بالمقدمات الكلية الصادقة الضرورية لا عن قياس اصلا ولا عن فكر بل بالفطرة والطبع او من صباه او من حيث لا يشعر من اين حصلت وكيف حصلت فان هذه القوة جزء ما من النفس يحصل لها المعرفة الاولى لا بفكر ولا بتأمل اصلا واليقين بالمقدمات التى صفتها الصفة التى ذكرناها وتلك المقدمات هى مبادى العلوم النظرية
واما العقل الذى يذكره فى المقالة السادسة من كتاب الاخلاق فانه يريد به جزء النفس الذى يحصل فيه بالمواظبة على اعتياد شىء شىء مما هو فى جنس جنس من الامور وطول تجربة شىء شىء مما هو فى جنس جنس من الامور على طول الزمان اليقين بقضايا ومقدمات فى الامور الارادية التى شانها ان تؤثر او تجتنب فان ذلك الجزء من النفس سماه العقل فى المقالة السادسة من كتاب
صفحة ٩
الاخلاق. والقضايا التى تحصل للانسان بهذا الوجه وفى ذلك الجزء من اجزاء النفس هى مبادى المتعقل والداهى فيما سبيله ان يستنبط من الامور الارادية التى شانها ان تؤثر او تتجنب ونسبة هذه القضايا الى ما يستنبط بالتعقل كنسبة تلك القضايا الاول التى هى مذكورة فى كتاب البرهان الى ما يستنبط بها فكما ان تلك مبادئ لاصحاب العلوم النظرية يستنبطون بها ما شانه شأنه من الامور النظرية ان يعلم ولا يفعل كذلك هذه هى مبادئ للمتعقل والداهى فيما شانه ان يستنبط من الامور الارادية العملية
صفحة ١٠
وهذا العقل المذكور فى المقالة السادسة من كتاب الاخلاق يتزيد مع الانسان طول عمره وتتمكن فيه تلك القضايا وينضاف اليها فى كل زمان قضايا لم تكن عنده فيما تقدم ويتفاضل الناس فى هذا الجزء من النفس الذى سماه عقلا تفاضلا متفاوتا ومن تكاملت فيه هذه القضايا فى جنس ما من الامور صار ذا راى فى ذلك الجنس ومعنى ذى الراى هو الذى اذا اشار بشىء ما قبل رايه ذلك من غير ان يطالب بالبرهان عليه ولا يراجع وتكون مشوراته مقبولة وان لم يقم على شىء منها برهانا ولذلك قلما يصير انسان بهذه الصفة الا اذا شاب لاجل حاجة هذا الجزء من النفس الى طول التجارب الذى ليس يكون الا فى طول الزمان ولان تتمكن فيه تلك القضايا
صفحة ١١
والمتكلمون يظنون بالعقل الذى يرددونه فيما بينهم انه هو العقل الذى ذكره ارسطو فى كتاب البرهان ونحو هذا يومون ولكنك اذا استقريت ما يستعملونه من المقدمات الاول تجدها كلها بلا استثناء مقدمات مأخوذة عن بادئ الرأى المشترك فلذلك صاروا يومون شيئا ويستعملون غيره
واما العقل الذى يذكره فى كتاب النفس فانه جعله على اربعة انحاء عقل بالقوة وعقل بالفعل وعقل مستفاد والعقل الفعال
صفحة ١٢
فالعقل الذى هو بالقوة هو نفس ما او جزء نفس او قوة من قوى النفس او شىء ما ذاته معدة او مستعدة لان تنتزع ماهيات الموجودات كلها وصورها دون موادها فتجعلها كلها صورة لها او صورا لها وتلك الصور المنتزعة عن المواد ليست تصير منتزعة عن موادها التى فيها وجودها الا بان تصير صورا لهذه الذات وتلك الصور المنتزعة عن موادها الصائرة صورا فى هذه الذات هى المعقولات واشتق لها هذا الاسم من اسم تلك الذات التى
صفحة ١٣
انتزعت صور الموجودات فصارت صورا لها. وتلك الذات شبيهة بمادة تحصل فيها صور الا انك اذا توهمت مادة ما جسمانية مثل شمعة ما نقش فيها نقش فصار ذلك النقش وتلك الصورة فى سطحها وعمقها واحتوت تلك الصورة على المادة باسرها حتى صارت المادة بجملتها كما هى باسرها هى تلك الصورة بان شاعت فيها الصورة قرب وهمك من تفهم معنى حصول صور الاشياء فى تلك الذات التى تشبه مادة وموضوعا لتلك الصورة وتفارق سائر المواد الجسمانية بان المواد الجسمانية انما تقبل الصور فى
سطوحها فقط دون اعماقها وهذه الذات ليست تبقى ذاتها متميزة عن صور المعقولات حتى يكون لها ماهية منحازة وللصور التى فيها ماهية منحازة بل هذه الذات نفسها تصير تلك الصور كما لو توهمت النقش والخلقة التى تخلق بها شمعة ما مكعبة او مدورة فتغوص تلك الخلقة فيها وتشيع وتحتوى على طولها وعرضها وعمقها باسرها فحينئذ تكون تلك الشمعة قد صارت هى تلك الخلقة بعينها من غير ان يكون لها انحياز بماهيتها دون ماهية تلك الخلقة
صفحة ١٤
فعلى هذا المثال ينبغى ان تتفهم حصول صور الموجودات فى تلك الذات التى سماها ارسطو فى كتاب النفس عقلا بالقوة فهى ما دامت ليس فيها شىء من صور الموجودات فهى عقل بالقوة فاذا حصلت فيها صور الموجودات على المثال الذى ذكرناه صارت تلك
صفحة ١٥
الذات عقلا بالفعل فهذا معنى العقل بالفعل فاذا حصلت فيه المعقولات التى انتزعها عن المواد صارت تلك المعقولات معقولات بالفعل وقد كانت من قبل ان تنتزع عن موادها معقولات بالقوة وهى اذا انتزعت حصلت معقولات بالفعل بان حصلت صورا لتلك الذات وتلك الذات انما صارت عقلا بالفعل بالتى هى بالفعل معقولات فأنها معقولات بالفعل وانها عقل بالفعل شىء واحد بعينه ومعنى قولنا فيها انها عاقلة ليس هو شىء غير ان المعقولات صارت صورا لها على انها صارت هى بعينها تلك الصور فاذا معنى انها عاقلة بالفعل وعقل بالفعل ومعقول بالفعل معنى واحد بعينه ولمعنى واحد
بعينه والمعقولات هى التى كانت بالقوة معقولات فهى من قبل ان تصير معقولات بالفعل هى صور فى مواد هى خارج النفس واذا حصلت معقولات بالفعل فليس وجودها من حيث هى معقولات بالفعل هو وجودها من حيث هى صور فى مواد ووجودها فى نفسها
صفحة ١٦
ليس هو وجودها من حيث هى معقولات بالفعل ووجودها فى نفسها هو تابع لسائر ما يقترن بها فهى مرة اين ومرة متى ومرة وضع واحيانا هى كم واحيانا هى مكيفة بكيفيات جسمانية واحيانا يفعل واحيانا ينفعل واذا حصلت معقولات بالفعل ارتفع عنها كثير من تلك المقولات الاخر فصار وجودها وجودا اخر ليس ذلك الوجود وصارت هذه المقولات او كثير منها يفهم معانيها فيها على انحاء اخر غير تلك الانحاء مثال ذلك الاين المفهوم فيها فانك اذا تاملت معنى الاين فيها اما ان لا تجد فيها شيئا من معانى الاين اصلا واما ان تجعل اسم الاين يفهمك فيها معنى اخر وذلك المعنى على نحو اخر
صفحة ١٧
فاذا حصلت المعقولات بالفعل صارت حينئذ احد موجودات العالم وعدت من حيث هى معقولات فى جملة الموجودات وشأن الموجودات كلها ان تعقل وتحصل صورا لتلك الذات فاذا كان كذلك لم يمتنع ان تكون المعقولات من حيث هى معقولات
بالفعل وهى عقل بالفعل ان تعقل ايضا فيكون الذى يعقل حينئذ ليس هو شيئا غير الذى هو بالفعل عقل لكن الذى هو بالفعل عقل لاجل ان معقولا ما قد صار صورة له قد يكون عقلا بالفعل بالاضافة الى تلك الصورة فقط وبالقوة بالاضافة الى معقول اخر لم يحصل له بعد بالفعل فاذا حصل له المعقول الثانى صار عقلا بالفعل بالمعقول الاول وبالمعقول الثانى واما اذا حصل عقلا بالفعل بالاضافة الى المعقولات كلها وصار احد الموجودات بان صار هو المعقولات بالفعل فانه متى عقل الموجود الذى هو عقل بالفعل لم يعقل موجودا
صفحة ١٨
خارجا عن ذاته بل انما عقل ذاته وبين انه اذا عقل ذاته من حيث ذاته عقل بالفعل لم يحصل له مما عقل من ذاته شىء موجود وجوده فى ذاته غير وجوده وهو معقول بالفعل بل يكون قد عقل من ذاته موجودا ما وجوده وهو معقول هو وجوده فى ذاته فاذا تصير هذه الذات معقولة بالفعل وان لم تكن فيما قبل ان تعقل معقولة بالقوة بل كانت معقولة بالفعل الا انها عقلت بالفعل على ان وجودها فى نفسها عقل بالفعل ومعقول بالفعل على خلاف ما عقلت هذه الاشياء باعيانها اولا فانها عقلت اولا على انها انتزعت عن موادها التى كان فيها وجودها وعلى انها كانت معقولات بالقوة وعقلت ثانيا ووجودها ليس ذلك الوجود المتقدم بل وجودها مفارق لموادها على انها صور لا فى موادها وعلى انها
صفحة ١٩
معقولات بالفعل فالعقل بالفعل متى عقل المعقولات التى هى صور له من حيث هى معقولة بالفعل صار العقل الذى كنا نقول اولا انه العقل بالفعل هو الان العقل المستفاد
صفحة ٢٠
فاذا كانت هاهنا موجودات هى صور لا فى مواد ولم تكن قط صورا فى مواد فان تلك اذا عقلت صارت موجودة وهى معقولة الوجود الذى كان لها من قبل ان تعقل فان قولنا ان يعقل الشىء اولا هو ان تنتزع الصور التى فى المواد عن موادها ويصير لها وجود آخر غير وجودها الاول فاذا كانت هاهنا اشياء هى صور لا مواد لها لم تحتج تلك الذات الى ان تنتزعها عن مواد اصلا بل تصادفها منتزعة فتعقلها على مثال ما يصادف ذاته من حيث هى عقل بالفعل معقولات لا فى موادها فتعقلها فيصير وجودها من حيث هى معقولة عقلا ثانيا هو وجودها الذى كان لها من قبل ان تعقل هذا العقل وهذا بعينه ينبغى ان يفهم فى التى هى صور لا فى مواد انها اذا عقلت كان وجودها فى
انفسها هو وجودها وهى معقولة لنا فالقول فى الذى هو منا بالفعل عقل والذى هو فينا بالفعل عقل هو القول بعينه فى تلك الصور التى ليست فى مواد ولا كانت فيها اصلا فان الوجه الذى به نقول فيما هو منا بالفعل عقل انه فينا فعلى ذلك المثال
ينبغى ان يقال فى تلك انها فى العالم وتلك الصور انما يمكن ان تعقل على التمام بعد ان تحصل المعقولات كلها معقولة بالفعل او
صفحة ٢١
جلها ويحصل العقل المستفاد فحينئذ تحصل تلك الصور معقولة فتصير تلك كانها صور للعقل من حيث هو عقل مستفاد والعقل
المستفاد شبيه بموضوع لتلك ويكون العقل المستفاد شبيها بالصورة للعقل الذى بالفعل والعقل الذى بالفعل شبه موضوع ومادة للعقل المستفاد والعقل الذى بالفعل صورة لتلك الذات وتلك الذات شبه مادة فعند ذلك تبتدى الصور فى الانحطاط الى الصور الجسمانية الهيولانية ومن قبل ذلك ما كانت تترقى قليلا قليلا الى ان تفارق المواد شيئا شيئا وقليلا قليلا بانحاء من المفارقة متفاضلة
صفحة ٢٢