الفصل الأول: البعث
مدخل
...
الفصل الأول: البعث
1- قبيل البعث:
ظلت مصر وبلاد العروبة ثلاثة قرون تحت حكم الأتراك، وهي في ظلام دامس، وجهل فاضح، تعاني مرارة الظلم، وقسوة البغي.
قلب ما شئت من أسفار التاريخ, فلن ترى إلا صفحات سوداء قاتمة، تنبعث منها روائح الاستبداد والبطش، وستسمع صراخ المظلومين يضم الآذان، وتلمح دماء الفلاحين في كل صقع تسيل تحت سياط الجباة، وتتمثل لك بلاد العروبة تخنقها يد غاشمة، أصابعها: الفقر, والمرض، والجهل، والذلة، والانحلال.
لم يكن لولاة الأتراك هم إلا استدرار الأموال بأية وسيلة، غير معيرين صرخات الشعوب العربية التفاتا، وغير مهتمين بما يقاسونه من ضنك وبؤس وفاقة وجهل، واشتد الخلف بين أمراء المماليك، وسلبوا الوالي سلطته، وشنوها حربا شعواء كل على أخيه، ينازعه السلطة والجاه، والضحية في هذا النزاع كله هم أبناء البلاد، فلا غرو إذا أقفرت من أهلها، وقد جاء القرن التاسع عشر، وسكان مصر أقل من ثلاثة ملايين، أكثرهم من العرب المسلمين، ويليهم الأقباط, ثم الأتراك، وكان الحاكم يفيد من الأستانة, ويقيم بالقلعة, ويدعو للخليفة، ويضرب باسمه النقود.
ولكن السلطة الفعلية كانت في يد المماليك، وهم أخلاط من الأتراك والشراكسة، وجميع ثروة البلاد وإداراتها في أيديهم، ولم يكن لهم عصبية؛ لأنهم لم يتوارثوا الملك إلا نادرا، وإنما الغلبة للقوي، فضربة موفقة من حسام أحدهم, تكسبه الصدارة بين أبناء جلدته، ولم يكن حظه السعيد يغير من أخلاقه، فهو في منصب الوالي تتقمصه روح العبد الوضيع، وليس له من هم إلا الاستيلاء على النساء والخيل والأموال.
صفحة ١٣