فتح القدير
الناشر
دار ابن كثير،دار الكلم الطيب - دمشق
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤١٤ هـ
مكان النشر
بيروت
عَلَى الْمُقَيَّدِ، لِأَنَّ مَا خُلِطَ بِاللَّحْمِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّهَا كَانَتْ تَطْبُخُ اللَّحْمَ فَتَعْلُو الصُّفْرَةُ عَلَى الْبُرْمَةِ مِنَ الدَّمِ، فَيَأْكُلُ ذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ ولا ينكره. وقوله: وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَةِ الْأُخْرَى أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ «١» أَنَّ الْمُحَرَّمَ إِنَّمَا هُوَ اللَّحْمُ فَقَطْ. وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ كَمَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ اللَّحْمَ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الشَّحْمُ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْخِنْزِيرِ مُحَرَّمَةٌ إِلَّا الشَّعَرَ فإنه تجوز الخرازة به. وقوله: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ الْإِهْلَالُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، يُقَالُ: أَهَلَّ بِكَذَا، أَيْ: رَفَعَ صَوْتَهُ قال الشاعر يصف فلاة:
يهلّ بِالْفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا ... كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرُ
وَقَالَ النَّابِغَةُ:
أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا ... بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلَّ وَيَسْجُدِ
وَمِنْهُ: إِهْلَالُ الصَّبِيِّ، وَاسْتِهْلَالُهُ، وَهُوَ: صِيَاحُهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى إذا كان الذباح وَثَنِيًّا، وَالنَّارِ إِذَا كَانَ الذَّابِحُ مَجُوسِيًّا. وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ، وَمِثْلُهُ مَا يَقَعُ مِنَ الْمُعْتَقِدِينَ لِلْأَمْوَاتِ مِنَ الذَّبْحِ عَلَى قُبُورِهِمْ، فَإِنَّهُ مِمَّا أُهِلَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذَّبْحِ لِلْوَثَنِ.
قَوْلُهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ قريء بِضَمِّ النُّونِ لِلْإِتْبَاعِ، وَبِكَسْرِهَا عَلَى الْأَصْلِ فِي الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ: فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإِدْغَامِ الضَّادِ فِي الطَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو السمال بِكَسْرِ الطَّاءِ. وَالْمُرَادُ مَنْ صَيَّرَهُ الْجُوعُ وَالْعَدَمُ إلى الاضطرار إلى الميتة. وقوله: غَيْرَ باغٍ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ.
قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَاغِي: مَنْ يَأْكُلُ فَوْقَ حَاجَتِهِ، وَالْعَادِي: مَنْ يَأْكُلُ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ يَجِدُ عَنْهَا مَنْدُوحَةً وَقِيلَ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَادٍ عَلَيْهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَاغِي وَالْعَادِي: قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وَالْخَارِجُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ، وَنَحْوُهُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ وَلَا عَادٍ سَدَّ الْجَوْعَةَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ قَالَ: مِنَ الْحَلَالِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي الْآيَةِ: طَيِّبُ الْكَسْبِ لَا طَيِّبُ الطَّعَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهَا حَلَالُ الرِّزْقِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحًا إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ «٢» وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ «٣» ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ:
يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أُهِلَّ قَالَ: ذُبِحَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جرير عنه قال: وَما أُهِلَّ لِلطَّوَاغِيتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ
(١) . الأنعام: ١٤٥. (٢) . المؤمنون: ٥١. (٣) . البقرة: ١٧٢.
1 / 196