وقد ثبت من غير وجه: "لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد يحذر مثل ما فعلوا" 1. ومعلوم أن هذا النهي عنه لأنه ذريعة إلى الشرك، وإرادة أن تكون المساجد خالصة لله تعالى، تبنى لأجل عبادته فقط، لا يشرك في ذلك مخلوق، فإذا بني المسجد لأجل ميت كان حراما، فكذلك إذا كان لأثر آخر، فإن الشرك في الموضعين حاصل. ولهذا كانت النصارى يبنون الكنائس على قبر الرجل الصالح، وعلى أثره، وباسمه، وهو الذي خاف عمر أن يقع فيه المسلمون، وهو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم منع أمته منه، قال الله تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا} . [الجن: 18] . وقال تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} . [الأعراف:29] . ولو كان هذا مستحبا؛ لكان يستحب للصحابة والتابعين أن يصلوا في جميع حجر أزواجه، وفي مكان نزل فيه في غزواته، وأسفاره، ولكان يستحب أن يبنوا هناك مسجدا، ولم يفعل السلف شيئا من ذلك، ولم يشرع الله تعالى للمسلمين مكانا يقصد للصلاة إلا المسجد، ولا مكانا يقصد للعبادة إلا المشاعر، فمشاعر الحج كعرفة ومزدلفة ومنى، تقصد للعبادة، والذكر، والدعاء، والتكبير، لا للصلاة، بخلاف المساجد فإنها هي التي تقصد للصلاة، وما ثم مكان يقصد بعينه، إلا المساجد، والمشاعر، وفيها الصلاة والنسك، قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين, لا شريك له وبذلك أمرت} . [الأنعام: 162،163] . وما سوى ذلك فإنه لا يستحب قصد بقعة بعينها # للصلاة ولا للدعاء ولا للذكر، إذا لم يكن شرع الله ورسوله قصدها لذلك، وإن كان مسكنا لنبي، أو منزلا، أو ممرا، فإن الدين أصله متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وموافقته، بفعل ما أمرنا به، وشرعه لنا، وسنه لنا، ونقتدي به في أفعاله التي يشرع لنا الاقتداء به فيها، بخلاف ما كان من خصائصه، فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلا، سن لنا أن نتأسى به فيه فهذا ليس من العبادات والقربة، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلى الله عليه وسلم، وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد، يجوز لنا أن نفعله مباحا كما فعله مباحا.
ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة؟ فيه قولان كما تقدم، وأكثر السلف والعلماء على أن لا نجعله عبادة وقربة، بل نتبع فيه، وأهل العبادات البدعية يزين لهم الشيطان تلك العبادة، ويبغض إليهم السبل الشرعية، حتى قد يبغضهم العلم والقرآن والحديث. -ثم ذكر كلاما طويلا في تنوع هؤلاء إلى أن قال رحمه الله تعالى-: ثم إن هؤلاء لما ظنوا أن هذا يحصل لهم من الله بلا واسطة، صاروا عند أنفسهم أعظم من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول أحدهم: فلان أعطي على يد محمد وأنا عطيتي من الله بلا واسطة. ويقول أيضا: فلان يأخذ عن الكتاب وهذا الشيخ يأخذ عن الله. وأمثال هذا، قول القائل: يأخذ عن الله وأعطاني الله، قول مجمل فإن أراد به الإعطاء والأخذ العام وهو الكوني والخلقي، أي بمشيئة الله تعالى وقدرته حصل لي، فهذا حق، ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا، وإن أراد أن هذا الذي حصل لي هو ما يحبه الله ويرضاه ويقربه إليه، وهذا الخطاب الذي يلقى إلي هو كلام الله، فهنا طريقان:
صفحة ٥٦