قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "فصل في العبادات والفرق بين شرعيها وبدعيها: "فإن هذا الباب كثر فيه الاضطراب، كما كثر في # باب الحلال والحرام، فإن أقواما استحلوا بعض ما حرمه الله تعالى، وأقواما حرموا ما أحل الله تعالى، وكذلك أقوام أحدثوا عبادات لم يشرعها الله تعالى، بل نهى عنها. وأصل الدين أن الحلال ما أحله الله ورسوله في كتابه الكريم، والحرام: ما حرمه الله ورسوله في كتابه الكريم، ليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث الله تعالى به رسوله، قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} . [الأنعام: 153] . وفي حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} 1. وقد ذكر الله تعالى في سورة الأنعام، والأعراف، وغيرهما، ما ذم الله به المشركين، حيث حرموا ما لم يحرمه الله تعالى، كالبحيرة والسائبة، واستحلوا ما حرمه الله، كقتل أولادهم، وشرعوا دينا لم يأذن الله به، فقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21] .ومنه أشياء محرمة جعلوها عبادات، كالشرك والفواحش، مثل: الطواف بالبيت عراة، وغير ذلك. والكلام في الحلال والحرام له مواضع أخرى، والمقصود هاهنا العبادات، فنقول العبادات التي يتقرب بها إلى الله مفروض ومستحب، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه: "ما تقرب ألي عبدي بمثل ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته # كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه" 1، الحديث، ومعلوم أن الصلاة منها فرض، وهي الصلوات الخمس، ومناه نافلة، كقيام الليل، وكذلك السفر إلى المسجد الحرام فرض، وإلى المسجدين الآخرين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس مستحب، وكذلك الصدقة منها ما هو مفروض، ومنها ما هو مستحب، وهو العفو كما قال الله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219] . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا ابن آدم إنك إن تنفق الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول" 2، والفرق بين الواجب والمستحب له وضع غير هذا. والمقصود هنا: الفرق بين ما هو مشروع -سواء كان واجبا أو مستحبا-وما ليس بمشروع، فالمشروع: هو الذي يتقرب به إلى الله، وهو سبيل الله، يعني شرعه الله على لسان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فيكون خالصا صوابا فافهم، وهو البر والطاعة والحسنات والخير والمعروف، وهو طريق السائلين، ومنهاج القاصدين والعابدين، وهو الذي يسلكه كل من أراد الله وسلك طريق الزهد والعبادة، ونحو ذلك، ولا ريب أنه تدخل فيه الصلاة المشروعة، واجبها، ومستحبها، ويدخل في ذلك قيام الليل المشروع، وقراءة القرآن على الوجه المشروع، والأذكار، والدعوات # الشرعية، وما كان من ذلك، كالتلاوة، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستخارة، وما ورد من الأذكار والأدعية الشرعية في ذلك، وهذا يدخل في أمور كثيرة، وفي ذلك من الصفات ما يطول وصفه، وكذلك يدخل في الصيام الشرعي، كصيام نصف الدهر، وثلثه، أو ثلثيه، أو عشره، وهو صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ويدخل فيه الجهاد على اختلاف أنواعه، وأكثر الأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد، ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع.
صفحة ٥٢