فصل في السماع
هو طيب الأنفس، وراحة القلوب، وغذاء الأرواح، وهو من أجل الطب الروحاني، وسبب السرور حتى لبعض الحيوانات.
والسرور المعتدل يذكي الحرارة ويقوي أفعال القوى ويبطئ الهرم، ويدفع أمراضا، ويحسن ويخصب البدن.
كما أنه: (من كثر همه كثر سقمه) رواه أبو نعيم في (الطب النبوي) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وتزداد فوائد السماع بفهم معاني المسموع قال تعالى: {فبشر عباد. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}.
وعن أبي هريرة مرفوعا: (ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به).
أذن: أي استمع، ويتغنى أي يتلو بلحن طيب.
وقال عليه الصلاة والسلام: (زينوا القرآن بأصواتكم).
صفحة ٣١٥
وجاء في قوله تعالى: {يزيد في الخلق ما يشاء}: هو الصوت الحسن.
وسئل ذو النون عن السماع فقال: وارد حق يزعج القلوب إلى الحق. وسئل عن الصوت الطيب فقال: مخاطبات وإشارات أودعها الله تعالى كل طيب.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ترنم يوما في منزله، فقيل له في ذلك، فقال: أنا إذا خلونا ترنمنا كعادة الناس. وقال: الغناء زاد المسافر.
وكان عبد الله بن جعفر مولعا بالسماع.
قيل للزهري: تكره السماع؟ فقال: نعم، إذا كان غير طيب، وإنما المنكر اللعب واللهو في السماع.
ولما حدا ابن رواحة في بعض طرق المدينة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : (رفقا بالقوارير) أي رفقا بالنساء لئلا يفتتن بصوتك.
وكان داود عليه السلام حسن الصوت بالنياحة على خطيئته، وكان لما يتلو الزبور يجتمع عليه الجن والإنس والطير والوحش.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: (لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود).
وقال أفلاطون: لذات الدنيا أربع: الطعام والشراب والجماع والسماع.
وأنت ترى أهل كل صناعة متعبة كالقصار والعتال يستخرجون لأنفسهم ألحانا يخففون بها عن أنفسهم، وترى الطفل إذا بكى سكن بالحداء، والإبل تطوي الفلاة بالحداء.
صفحة ٣١٦
وحكي أن أعرابيا كان له عبد طيب الصوت، فحدا له إبلا وهي مثقلة، فقطعت مسيرة ثلاثة أيام في يوم واحد، فلما وصلت تبطحت وماتت، فهذه الإبل أثر فيها الصوت الطيب دون فهم المعاني، فما ظنك في الصوت الشجي بمعان رائعة يسمعه أهل الذوق والمعرفة، وترى الهزار والشحرور يلقي بنفسه في الأماكن التي فيها سماع مطرب.
وقد اختلف فيه: فأباحه قوم وحرمه آخرون.
وقال ابن قتيبة: يروق الذهن، ويلين العريكة، ويهيج النفس ويحل الدم، ويلائم أصحاب العلل الغليظة وينفعهم، ويزيد في فضائل النفس، ويوصف لبعض الأمراض السوداوية.
قال المؤلف: الشيخ الإمام العالم المحدث الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن عثمان الذهبي في مسألته في السماع: منه محرم، ومنه واجب، ومنه مباح، ومنه مستحب، ومنه مكروه.
والمحرم: سماع غناء الصبية المليحة الأجنبية التي يخاف منها الفتنة، وقد يباح صوتها في العرس ولا يخلو من كراهة، وكذلك صوت الأمرد المليح، وهو أشد تحريما، فإذا أضيف إلى ذلك دفوف وشبابات تأكد التحريم وعمال السماع الذين كالفقهاء فهذا أدين الله بتحريمه.
صفحة ٣١٧
ولا يكاد يوجد ذلك إلا من الفسقة، ومن له عادة من تبذير الدراهم وذلك محرم، ومن الأسافل الغفلة، وهو محرم، ومن أن غالب من يغني فسقة أراذل، ومن أن المجلس بحضره مردان ولاطة عشاق وفساق وترقص الملاح، وتتحرك الشهوة فينبغي لك أن تجتنب حضور ذلك جملة.
والواجب: هو سماع القرآن في الفرائض، فما أنفعه من إمام خاشع قانت لله، طيب الصوت بالتجويد، وأين يوجد ذلك؟!
والمباح: سماع الحداء الطيب، وسماع الشعر، وسماع التسبيح، وسماع غناء الرجل لنفسه وغناء المرأة لزوجها، والجارية لمالكها، وسماع النسوة اللاتي لا يوصفن بملاحة ليلة العرس للنساء، والعرايس وفي العيد ونحو ذلك.
وسماع الرجل الذي يغني لأصحابه ينشد أبياتا ملحنة، هو ورسيله.
ولكن يصير مكروها إذا أكثروا من ذلك، واتخذوه عادة.
والمستحب: له صور منها: جماعة يقرأ لها قارئ طيب الصوت، بتلحين سائغ وهم يتلذذون بصوته وبكلام ربهم ويتدبرونه ويخشعون أو يبكون، أو يقرأ لهم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه في الرقائق ونحوها والإكثار من ذلك حسن.
ومن صور المستحب: رجل صالح له صوت مطرب ينشد أبيانا ملحنة موزونة الضرب في الخوف والزهد والحزن على البطالة والبعد عن جناب الحق، والسامعون أخيار أبرار متقون ينشطهم ذلك، ويعقبهم إقبالا على التوبة والإنابة والعبادة.
وهذا مستب بشروط: أحدهما أن يعمل ذلك في الشهر أو الشهرين ساعة، أو نحوها، وأن يسلم من حضور مليح، وأن يسلم من وجد يغيب العقل، وأن يسلم من شطح ودعوى، وأن يسلم من اعتقاده عبادة لذاته إلى غير ذلك مما يخرجه من الاستحباب إلى المعصية أو الكراهة.
وأما المكروه: فبالإكثار من حضور السماع بالكف وبالدف.
صفحة ٣١٨
وأما حضوره بالشبابة فإنه متوقف في تحريمه بعد، مع اعتقادي بأنها مكروهة وغالب السماع من الباطل لا من الحق في شيء، ولكن الباطل: منه مباح، ومنه مكروه ومنه محرم.
فتدبر هذا ولا تبادر إلى تحريم ما وسع الله على عباده فيه وعفا عنهم.
ومن صور السماع التي يكون فيها عبادة ليلة العرس لمن يحتسبه، وفي يوم العيد لمن يتخذه تأسيا بنبيه صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: {لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله}.
يعني عن صلاتكم، وعبادتكم.
فمن ألهاه الغناء عن عبادة الله وعن الصلاة فهو من الخاسرين، وقد خاطب سبحانه وتعالى المؤمنين بقوله: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما}.
فما عنفهم عز وجل على التجارة المباحة واللهو الذي لم يحرمه علينا، إلا إذا تركوا الجمعة والجماعة، والصلاة المفروضة لذلك، وسكت عما عدا ذلك فهو مما عفا عنه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الملة الحنيفية السمحة يتبسم ويضحك، وربما مزح وجازى زوجته، وأركب ابني بنته الحسن والحسين على ظهره وقال: (نعم الرجل جملكما).
صفحة ٣١٩
ويركب الفرس عريانا.
ودخل يوم الفتح على ناقته وهو يرفع عقيرته بأبي وأمي، ويحسن صوته بقراءة سورة الفتح ويرجع ويقول:
(أأأأ) ويقول: (يا عامر، أسمعنا من هنيهاتك).
ويتفرج على لعب الحبشة وزفتهم وإلى غير ذلك.
وأين القحالة والكلاحة والقطوبة من شمائله الكاملة؟ وهو محب للنساء اللاتي هن من زينة الدنيا، والطيب والثياب النقية الجميلة والحلوى، والعسل والحم، والصوت الطيب لا سيما بأصدق الكلام وأفصحه وأطيبه.
وكان عليه الصلاة والسلام يحب الطيبات ولا يكثر منها، إذ الإكثار من المباحات يضيع الأوقات عن فعل القرب والطاعات.
فإنه كان عليه الصلاة والسلام مع وصفه بما ذكرنا، صواما قواما بكاء من عظمة الله، أواها، منيبا، حليما، وقورا، إليه قد انتهى الحلم والعلم، والسخاء والنبالة والشجاعة له، وفيه جمعت المحاسن والأخلاق الحميدة المرضية، وبمجموع ما ذكرنا وبأمثاله صار أكمل الخلق كلهم صلى الله عليه وسلم ، آمين.
صفحة ٣٢٠
PARATEXT|
انتهى
تم كلام الذهبي، وبتمامه تم الكتاب المبارك بحمد الله وعونه. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، في تاريخ يوم الثلاثاء المبارك الثاني عشر من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثماني مائة أحسن الله عاقبتها آمين، وذلك بمصر المحروسة، على يد ماشقه أحمد بن علي الأنصاري، غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه وكشف كروبه وفرج همه وغمه وبرحمته عمه آمين.
صفحة ٣٢١