المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمد لله) الذي شهدت الكائنات بوجوده وشمل الموجودات عميم كرمه وجوده ونطقت الجادات بقدرته وأعربت العجمات عن حكمته وتخاطبت الحيوانات بلطيف صنعته وتناغت الأطيار بتوحيده وتلاغت وحوش القفار بتفريده كل باذل جهده وأن من شيء إلا يسبح بحمده بل المكان ومن فيه والزمان وما يحويه من نام وحامد ومشهود وشاهد تشهد بأنه إله واحد منزه عن الشريك والمعاند مقدس عن الزوجة والوالد مبرأ عن المعاند والمنادد مسبح بأصناف المحامد (أحمده) حمد تنطق به الشعور والجوارح وأشكره شكرًا يصيد نعمه صيد المصيد بالجوارح (وأشهد) أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب أودع أسرار بوبيته في بريته وأظهر أنوار صمديته في جواني بحره وبريته فبعض يعرب بلسان قاله وبعض يعرب بلسان حاله وتسبحه السموات باطيطها والأرض بغطيطها والأبحر بخريرها والأسد بزئيرها والحمام بهديرها والطير بتغريدها والرياح بهبوبها والبهائم بهبيبها والهوام بكشيشها والقدور بنشيشها والخيل بضجها والكلاب
1 / 21
بنبحها والأقلام بصريرها والنيران بزفيرها والرغود بعجيبها والبغال بشحيحها والانعام برغائها والذباب بطنينها والقسى برنينها والنياق بحنينها كل قد علم صلاته وتسبيحه ولازم في ذلك غبوقه وصبوحه وعمروا بذلك أجسادهم وأرواحهم ولكن لا تفقهون تسبيحهم (وأشهد) أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي من صدقه تم سوله أفضل من بعث بالرسالة وسلمت عليه الغزالة وكلمه الحجر وآمن به المدر وانشق له القمر ولبت دعوته الشجر واشتجار به الجمل وشكا إليه
1 / 22
شدة العمل وحن إليه الجذع ودر عليه يابس الضرع وسجت في كفه الحصباء ونبع من بين أصابعه الماء وصدقه ضب البرية وخاطبته الشاة المصلية صلى الله عليه صلاة تنطق بالاخلاص وتسعى بالخلاص وعلى آله أسود المعارك وأصحابه شموس المسالك وسلم تسليما وزاده شرفًا وتعظيمًا (أما بعد) فان الله المقدس في ذاته المنزه عن سمات النقص في صفاته قد أودع في كل ذرة مخلوقاته من بديع صنعه ولطيف آياته ومن الحكم والعبر مالا يدركه البصر ولا تكاد تهتدي إليه الفكر ولا يصل إليه ذوي النظر ولكن بعض ذلك للبصر بالرصد ظاهر يدركه كل
1 / 23
أحد قال الله تعالى وجل ثناؤه جلالًا وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وقال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وقال عز من قائل في كلامه الطائل أن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون وقال الشاعر:
ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
لكن لما كثرت هذه الآيات والحكم وانتشرت أزهار رياضها في وهاد العقول والاكم وترادف ما فيها من العجائب والعبر وتكرر ورود مراسيمها على رعايا السمع والبصر وعادتها النفوس ولم يكترث بوقوعها القلب الشموس ولم يستهن من وجودها ولم يلتفتن إلى حدودها فكثر في ذلك أقوال الحكماء وتكررت مقالات العلماء فلم تصغ الأسماع إليها ولا عولت الأفكار عليها فقصد طائفة من الأذكياء وجماعة من حكماء العلماء ممن يعلم طرق المسالك إبراز شيء من ذلك على ألسنة الوحوش وسكان الجبال والعروش وما غير مألوف من البهائم والسباع وأصناف الأطيار وحيتان
1 / 24
البحار وسائر الهوام فيسندون إليها الكلام لتمثيل لسماعه الأسماع وترغب في مطالعته الطباع لأن الوحوش والبهائم والهوام والسوائم غير معتادة لشيء من الحكمة ولا يسند إليها أدب ولا فطنه ولا معرفة ولا تعرف ولا قول ولا فعل ولا تكليف لأن طبعها الشماس والأذى والافتراس والإفساد والنفور والعدران والشرور والكسر والتغريق والنهش والتمزيق فإذا أسند إليها مكارم الأخلاق وأخبر بأنها تعاملت فيما بينها بموجب العقل والوفاق وسلكت وهي مجبولة على الخيانة سبل الوفاء ولازمت وهي مطبوعة على الكدورة طرق الصفاء أصغت الآذان إلى استماع أخبارها ومالت الطباع إلى استكشاف آثارها وتلقتها القلوب بالقبول والصدور بالانشراح والبصائر بالاستبصار والأرواح بالارتياح لكونها أخبارًا منسوجة على منوال عجيب وآثارًا أسديت لحتها في صنع بديع غريب لا سيما الملوك والأمراء وأرباب العدل والرؤساء والسادة والكبراء وأبناء الترفه والنعم وذو والمكارم والكرم إذا قرع سمعهم قول القائل صار البغل قاضيًا والنمر طائعا لا عاصيا والقرد رئيس الممالك والثعلب وزيرًا لذلك والذئب مؤرخًا أديبًا والحمار منجمًا طبيبًا والكلب كريمًا والحجل نديمًا والغراب دليلًا والعقاب خليلًا والجدأة صاحبة الأمانة والفأرة كاتبة الخزانة والحية راقية والبومة ساقية وضحك النمر متواضعًا وغدا الأسد لإرشاد الذئب سامعًا ورقص الغزال في عرس القنفد وغنى الجدي فطرب
1 / 25
الجدجد وتصادق القط والجرذات وصار السرحات راعي الضان وعانق الليث الحمل والذئب الجمل ورفع الباشق الحمامة على رقبته وحمل ارتاحت لذلك نفوسهم وزال عبوسهم وانشرحت خواطرهم وسرت سرائرهم وأصغت إليه أسماعهم ومالت طباعهم وأدى طيشهم إلى أن طاب عيشهم ولكن أهل السعادة وأرباب السيادة ومن هو متصد لفصل الحكومات والذي رفعه الله لدرجات فانتصب لإغاثة الملهوفين وخلاص المظلومين من الطالمين والمتنبهون بتوفيق الله تعالى لدقائق الأمور وحقائق ما تجري به الدهور إذا تاملوا في لطائف الحكم والفرائد التي أودعت في هذه الكلم ثم تفكروا في نكت العبر وصفات العدل والسير والأخلاق الحسنة والقضايا المستحسنة المسندة إلى ما لا يعقل ولا يفهم وهم من أهل القول الذي يشرف به الإنسان ويكرم يزدادون ويسلكون بها الطرق المنيرة فتتوفر مسراتهم وتتضاعف لذاتهم وربما أدى بهم فكرهم وانتهى بهم في أنفسهم أمرهم أن مثل هذه الحيوانات مع كونها عجماوات إذا اتصفت بهذه الصفة وهي غير مكلفة وصدر منها مثل هذه الأمور الغريبة والقضايا الحسنة العجيبة فنحن أولى بذلك فيسلكون تلك المسالك وقد ضرب الله ذو الجلال في كلامه العزيز الأمثال فقال مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وأن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كان يعلمون
1 / 26
وقال سبحانه بعد ذلك وتلك الأمثال نضربها للناسوما يعقلها إلا العالمون وقال سبحانه ما أعظم شأنه يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لنم يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيأ لا يستنفذوه منه ضعف الطالب والمطلوب وقال تعالى إن الله لا يستحي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها وقال تعالى وأوحى ربك إلى النحل أن أتخذي من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللًا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون وقال تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملها وأشفقن منها وحملها الإنسان أنه كان ظلومًا جهولًا وقال تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين أسند
﷾ الأفعال والأقوال إلى الجمادات بعدما وجه الخطاب إليها وقال تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم وكل ما جاء في هذه الطريقة فأنه بالنسبة إليه تعالى حقيقة لأنه قادر على كل شيء وسواء عنده الميت والحي ولا فرق في كمال قدرته بالنظر إلى قدرته ومشيئته وتصوير كمال عظمته وهيبة بين الناطق والصامت والنامي والجامد والشاهد والغائب والآتي والذاهب كما لا فرق في هذا الكمال بين الماضي والاستقبال
1 / 27
وقال تعالى فما بكت عليهم السماء والأرض وقال فوجدوا فيها جدارًا يريد أن ينقض وقال تعالى قالت نملة يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم وقال في الهدهد فقال أحطت بما لم تحط به وقال الشاعر (ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب) وقالت العرب في أمثالها قال الجدار للوتد تشقني قال سل من يدقني قل لمن ورائي يتركني ورائي وقالوا من الأسد ومن أشهر أمثالهم قالوا أن الأرنب التطقت تمرة فاختلسها الثعلب فأكلها فانطلقا إلى الضب فقالت الأرنب يا أبا الحصين قال سميعا دعوت قالت أتيناك لنختصم إليك قال عاد لا يحكما قالت أخرج قال في بيته يؤتى الحكم قالت أني وجدت تمرة قال حلوة فكليها قالت فاختلسها مني الثعلب قال لنفسه بغى الخير قالت فلطمته قال بحقك أخذت قالت فلطمني قال حر انتصر لنفسه قالت فاقض بيننا قال قد قضيت فذهبت هذه الأقوال كلها أمثالًا وقالوا اتحككت العقرب بالأفعى وقال الشاعر
قام الحمام إلى البازي يهدد ... واستصرخت بأسود البر أضبعه
وهذا أمره مستغيض مشهور معروف بين الأنام غير منكور والحصر في هذا المعنى يتعسر والاستقصاء يتعذر وإنتما الأوفق التمثيل
1 / 28
والتنظير والاستدلال بالقليل على الكثير فيتفكه السامع تارة ويتفكر أخرى ويتتقل في ذلك من الأخفى إلى الأجلى ويتوصل بالتأمل من الأدنى إلى الأعلى ومن جملة ما صنف في ذلك واشتهر فيما هنالك وفاق على نظائره بمخبره ومنظره وحاز فنون الغطنه كليله ودمنه والمتمثل بحكمة الطباع كتاب سلوان المطاع والمفحم بنظمه العجيب كل شاعر وأديب معجز الضراغم الصادج والباغم وفي غير لسان العرب ممن يتعاطى فن الأدب جماعة رضعوا أفاويقه وسلكوا من هذا النمط طريقة لكن تقادم عصرهم واشتهر أمرهم وتكرر ذكرهم وصارت مصنفاتهم مطروقة وعتاق نجائبها في ميدان التأمل عتيقة ففلذت من دهري فلذه وعملت بموجب لكل جديد لذة وسيرت فارس الأفكار في ميدان هذا المضمار وقصدت من الفائدة ما قصدوه ومن العائدة في الدارين ما رصدوه وجمعت ما بلغني عن نقله الأخبار وحملة الآثار ورواة الأسفار على لسان شيخ اللطائف ومنبع المعارف وإمام الطوائف ومجمع العوارف ذي الفضل والإحسان أبي المحاسن حسان ووضعت هذا الكتاب نزهة لبني الآداب وعمدة لأولي الألباب من الملوك والنواب والأمراء والحجاب وجعلته عشرة أبوابومن الله أسمد الصواب وأستغفره من الخطأ في الجواب أنه رحيم تواب كريم وهاب (وسميته فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء)
1 / 29
شعر:
فان يغض بحر علمي تهدمنه على ... در ينير عيون العقل في السدف
ألبسته من خلاعات النهى خلعا ... وربما ازدان عقد الدر بالخزف
والفضل يحتاج في ترويج سلعته ... إلى الخرافة والمعقول للخرف
فاعبر إلى البحر تجن الدر منه ولا ... يلهيك عن دره أضحوكة الصدف
1 / 30
الباب الأول
في ذكر ملك العرب الذي كان لوضع هذا الكتاب السبب
1 / 31
(قال) الشيخ أبو المحاسن بلغني عن ذي فضل غير آسن أنه كان فيما غير من الزمان قيل من الأقيال غزير الأفضال عزيز الأمثال وارث المعارف حائز الفضائل واللطائف وافر السيادة كامل السعادة ذو حكم مطاع وجند وأتباع وممالك واسعة ذات أطراف شاسعة تحت أوامره ملوك عده ذو سطوات ونجده وله من الأولاد الذكور خمسة أنفار كل بالسيادة مذكور وبالعلم والحلم والحكم مشهور ومشكور متوشح للسلطنة متول من والده مكانًا من الأمكنة وكان أسعدهم عند أبيه وهو متميز على أخوته وذويه سمسي المنظر اياسي المخبر ذا فهم مصيب واسمه في فضله حسيب قد حصل أنواعًا من العلوم وأدركها من طريقي المنطوق والمفهوم وكان لهذا الفضل الجسيم يدعى بين الصغير والكبير الحكيم فلما دعا أباهم داعي الرحيل وعحك إلى دار البقاء أجمال التحميل استولى على السرير أكبر أولاده وأطاعه أخوته ورؤس أمرائه وأجناده وصار السعد يراقبه والملك بلسان الحال يخاطبه شعر:
نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكب
1 / 33
ثم عش واسلم وتيقن واعلم يا ملك الزمان أن أفضل شيء حل في وجود الإنسان وأحسن جوهرة تزين بها عقد تركيبه العقل الداعي إلى كيفية تهذيبه في أساليبه وأفضل درة ترصع بها تاج العقل في تزيينه وترتيبه الخلق الحسن الذي فضل الله به خير خلقه في تعليمه وتأديبه وخاطب بذلك نبيه الكريم فقال وأنك لعلى خلق عظيم وبالخلق الحسن ينال شرف الذكر في الدارين ولا يضع الله الخلق الحسن إلا فيمن اصطفاه من الثقلين وأفضل جنس الإنسان بعد رسول الله الرفيع الشان الملك الذي يحيى أحكام شريعته ويمشي على سنته وطريقته وإذا كان الملك حسن الخلق والفعال فهو الدرجة العليا من الكمال قال الرسول النجيب صاحب التاج والقضيب محمد المصطفى الحبيب ﷺ صلاة يتمسك بأذيالها الطبيب ويترنح لنسمات قبولها الغصن الرطيب ألا أخبركم على من تحرم النار على كل هين لين سهل قريب
1 / 39
وروى أن ذلك السيد السديد الكامل المكمل الرشيد أتى برجل فكامه فارعد فقال هون عليك فأني لست بملك ولا جبار وأنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ومن جملة حسن الخلقالعدل والشفقة على الرعية والفضل وإذا حسن خلق الملوك العلية صلحت بالضرورة الرعية طائعة وكارهة وسعت في ميدان الطاعة فارهة فان الناس على دين ملوكهم وسالكون طرائق سلوكهم واردل عادة الملوك الطيش والخفة وأن يكون ميزان عقله خالي الكفية وأن عدم الثبات والوقار من عادة الأطفال والصغار والرجل الخفيف القليل الحيلة لا يقدر على تدبير الأمور الجليلة ولا باب يوجد له ولا طاقة للدخول في الأشغال الشاقة ولا يستطيع أن يتحمل ثقل الرياسة ويتعاطى الايالة والسياسة ولا قدرة على فصل الحكومات المشكلة والقضايا العريضة المعضلة ولا الوصول إلى إثبات السيادة ولا الدخول في أبواب السعادة فان تدبير الممالك وسلوك هذه المسالك يحتاج إلى رجل كالجبل في السكون والوقار أو أن الثبات وكالبحر الهائج والسيل الهامر أو أن الحركات وأعلم يا ذا العلا والمالك المال والدما أنه يجب على الملك الكبير اجتناب الإسراف والتبذير فانه حافظ دماء الناس وأموالهم مراقب مصالحهم في حالتي حالهم وما آلهم والمال الذي في خزائنه قد اجتمع ومن وجوه مكانه ومن خراج مملكته ومن أعدائه ومعادنه إنما هو للرعية ليذهب عنهم البلية ويصرفه في مصالحهم وما يحدث من
1 / 40
حوائجهم وجوائحهم فهو في يده أمانة وصرفه في غير وجهه خيانة فكما لا ينبغي أن يتصرف في مال نفسه بالتبذير كذلك لا يتصرف في أموالهم بالأسراف والتقتير ومصداق هذا المقال قول ذي الجلال جل كلامًا وعز مقامًا والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا فينبغي للملك بل يجب أن لا يسترعن الرعية ولا يحتجب وأن لا يبادر بمرسوم إلا بعد تحقيق العلوم ولا يبرز مرسومه ما لم يتحقق فيه معلومه وذلك بعد التأمل والتدبر وستر عورة القضية والتفكر وهذا الآن مرسوم السلطان على فم أبناء الزمان وهو بمنزلة القضاء النازل من السماء وإذا نزل القضاء وفتحت أبواب السماء فلا يرد ولا يصد ولا يعوقه عن مضيه عدد ولا عد ولا حيلة في منعه لأحد وأمر أولى الأمر على زيد وعمرو كالسهم الخارج من الوتر بل شبه القضاء والقدر تعجز عن أدراك سره قوى البشر فكما أنه إذا نفذ سهم القضاء والقدر لا يمنعه ترس حيلة ولا يصده درع حذر فكذلك أمر السلطان لا يثبت لوده حيوان ولا يمكن تلقيه إلا بالإمضاء والإذعان فإذا لم يتدبر قبل إبرازه في عواقب ما آله وأعجازه ربما أدى إلى الندم والتأسف حيث زلت القدم ولا يفيد التلافي بعد التلاف ولا يرد السهم إلى القوس وقد خرق الشغاف وكما أن الملك سلطان الأنام كذلك كلامه سلطان الكلام وكل ما ينسب إليه فهو سلطان جنسه فيجب عليه حفظ كلامه كحفظ نفسه.
(وحسبك يا ملك الزمان لطيفة للملك أنوشروان) فبرزت المراسيم الشريفة ببيان تلك اللطيفة فقال الحكيم ذكر أهل السير ونقله الأثر أن الملك أنوشروان كان راكبًا في السيران فجمع به فرسه وقوى عليه نفسه فاستخف شانه
1 / 41
وجبذ عنانه فهمزه ولكزه وضربه ووخزه فزاد جموحًا وماد جموحًا فتجاذبا العنان فانقطع وكاد أنوشروان أن يقع فلاطف الفرس فاستكان ونجا بعد أن كاد يدخل في خبر كان فلما وصل إلى محل ولايته واستقر راجف قلبه من مخافته دعا بسائس المركوب فلبى دعوته وهو مرعوب فلعنه وشمته وأراد أن يقطع يده وقدمه وقال تلجم هذه الداهية بلجام سيوره واهية فانقطعت في يميني وكاد الفحل يرميني ثم دعا بالمقارع وبالجلاد ليقطع منه الاكارع فقال السائس المسكين أيها الملك المكين وصاحب العدل والتمكين أسألك بالله الذي رفعك إلى هذا المقام أن تسمع لي هذا الكلام فقال قل ولا تطل قال كأن هذا العنان يقول وكلامه فصل لا فضول ومقوله قريب من العقول الملك أنوشران وأن سلطان الأنس وفرسه سلطان هذا الجنس وقد تجاذبني قوة سلطانين فاين لي طاقة هذا الثبات لهما ومن أين لا جرم ذهب مني الحبل فتمزقت بين سلطان الأنس والخيل فأعجبأنوشروان من السائس هذا البيان فانعم عليه وأطلقه ومن رق عقابه وعذابه أعتقه وإنما أوردت هذا البيان ليتحقق مولانا السلطان أن حركاته ملكه الحركات وصفاته سلطانه الصفات وكلامه ملك الكلام فلا يصرفه في كل مقام وليصنعه بالتأمل قبل القول وليحتط لبروزه ويحفظه بالصدق والطول وإذا أمر بأمر فلا يرجع فيه بل يستمر على ما أمر به لئلا يقال سفيه
1 / 42
ثم اعلم يا ملك الرقاب أن كلًا من الثواب والعقاب له حد ومقدار مفهوم ينبغي للملك أن لا يتعدى لذلك حدًا وعلى الملك أن يصغي للنصيحة ممن مودته صحيحه وقد جرب منه الصدق وعلم منه الإخلاص في النطق لاسيما إذا كان ذا عقل صحيح وود صريح ولا ينفر من خشونة النصيحة ومرارتها فبرودة الخاطر وسلامة القلب حرقة حرارتها فان الناصح المشفق كالطبيب الحاذق فان المريض الكئيب إذا شكا إلى الطبيب شدة ألمه من مرارة يصف له دواء مرًا فيزيد حرارته فلا يجد بدًا من شربه وأن كان في الحال ينهض بكربه لعلمه بصدق الطبيب وأنه في الرأي مصيب وما قصد بالدواء المر الضر وإنما قصد بألمه عودًا الحلاوة إلى فمه ولا يستحقر النصيحة أن كانت صادقة صحيحة ولا الناصح خصوصًا الرجل الصالح فان سليمان وهو من أجل الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وأحد من ملك الدنيا وحكم على الجن والأنس والطير والوحش والهوام استشار نملة حقيرة فنجح في أمره وخالف وزيره آصف بن برخيا فابتلى بفقره وسلب من جميع ما ملك وصار كما قيل أجير الصياد السمك ثم قال الحكيم حسيب أيها الملك الحسيب وأنا لما رأيت أمور المملكة قد اختلت ومباشرى مصالح الرعية قلوبهم اعتلت ولعبوا بالثقيل والخفيف واستطال القوي منهم على الضعيف ومدوا أيديهم إلى الأموال بالباطل وأظهروا الحالي في حلية العاطل وخرجوا عن دائرة العدل واطرحوا أهل العلم والدين وتولى المناصب غير أهلها ونزلت المراتب إلى
1 / 43
غير محلها وحرم المستحقون وأبطل المحققون إلى أن وقع الاختلال وعم الفساد والضلال وقويت أعضاد الظلمة على العباد وسائر القرى والبلاد وهذا لا يليق بشرف مولانا الملك ولا بأصله ولا يجوز في شرع المروأة أن يكون الظلم طراز عدله إذ قدره العلي وأصله الزكي أعظم مقامًا من ذلك ولا يحسن أن ينتشر الأصيت رأفته في الممالك وعلى الخير مضى سلفه الكرام وانطوى على مآثرهم صحائف الأيام وقد قيل:
فان الظلم من كل قبيح ... وأقبح ما يكون من التنبيه
وقيل:
ولم أر في عيوب الناس شيئًا ... كنقص القادرين على التمام
ما وسعني إلا الانحياز إلى العزلة والتعلق بذيل الانفراد والوحدة وما أمكنني أن أعمل شيا ولا أقطع دون العرض على الآراء الشريفة وامتثال ما تبرزه مراسيمها المنيفة فغد قال الناصح في بعض النصائح لا تخاطب الملوك فيما لم يسألوك ولا تقدم على ما لم يامروك فلما أذن في الكلام قمت هذا المقام فقلت قطرة من بحور وذرة من طيور ورأيت ذلك واجبًا عليّ ونفعه عائدًا إليّ وذكرت بعض ما وجب على سائر الناصحين ولزم ذكره جميع المسلمين من طريق واحدة ولزمني أنا من طرق متعددة أدناها طريق المروة وأعلاها بل أغلاها وثيق الأخوة التي هي أقوى الأسباب وأعظم الوصلات في هذا الباب فان لحمة القرابة عي السبب الذي لا يقطعه سيف الحدثان والبنيان الذي لا يهدمه معول الزمان وأساس الأخوة عنوان الفتوة قال الله تعالى وعز وجمالًا وتقدس كمالًا سنشد عضدك بأخيك
1 / 44
وقال القائل:
أخاك أخاك أن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
(وناهيك يا زين الملاح بقصة الولهى مع الضحاك) قال أخبرنا أيها الحكيم بذلك الحديث القديم
قال الحكيم بلغنا عن التاريخ الباذخ الشماريخ أن الضحاك كان من أحسن الناس سيرة وأصفاهم سريرةقد فاق الناس فضلًا وبلغ ذكره الآفاق عدلًا فتزياله ابليس في صورة الدهاء والتلبيس فزعم ذلك الطباخ انه طباخ وصار كل يوم يهيئ له من أطيب الأطعمة ولذيذ الأغذية ما يعجزه غيره ولا يقدر أحد أن يسير سيره ولم يأخذ على ذلك جراية فبلغت مرتبته عنده النهاية واستمر على ذلك مدة مديدة وأيامًا عديدة والناس تكمره أن تخدم بغير أجرة خصوصًا في هذا الزمان رؤساء الأعيان فقال له الإمام في بعض الأيام لقد أوجبت علينا يدا وشكرًا وما سألتنا على ذلك أجرًا فاقترح ما تختار أكافئك يا مهار فقال تمنيت عليك أن أقبل بين كتفيك فأني لي بذاك أن يقال قبل بدن الضحاك فأعجبه ذلك وأجابه وحسر عن بدنه ثيابه وأدار ظهره إليه فاقبل لوحي كتفيه ثم غاب عن عينيه ولم يقف على أثره ولا عينه فبمجرد ما لثمه ومس فمه جسمه أخذته حكة وشكه موضع لثمه شكه ثم خرج من موضع فيه سلعة تلذعه شر لذعة وتلسعه أحر لسعة ثم صارا حيتين
1 / 45
أشبهتا كيتين فصار يستغيث ولا مغيث فطلب الأطباء فأعياهم هذا الداء ثم لم يقوله قرار ولم يأخذه سكون ولا اصطبار إلا بدماغ الإنسان دون سائر الحيوان فمديد الفتك ولأجل الأدمغة استعمل السفك فضجر الناس لهذا البأس وصاحوا وناحوا وغدوا مستغيثين وراحوا فوقع الاتفاق بعد الشقاق على الاقتراع لدفع النزاع فمن خرجت قرعته كسرت قرعته وأخذ دماغه وحصل لغيره فراغه فعالجوا به الكيتين وغذوا به الحيتين فيبرد الألم ويخف السقم ففي بعض الأدوار خرجت القرعة على ثلاث أنفار فربطوا بالأغلال ودفعوا إلى الشكال ليجري عليهم ما جرى على الأمثال فبينما هم في الحبس بين طالع نحس وعكس وقف للضحاك امرأة وضيعة واستغاثت به في هذه القضية فأدناها وسأل ما دهاها فقالت ثلاثة أنفار من دار لا صبر لي عنهم ولا قرار وحاشى عدل السلطان أن يرضى بهذا العدوان ولدي كبدي وأخي عضدي وزوجي معتمدي وكل مسجون يسقي كأس المنون فرق لها الضحاك وقال لا يعمهم الهلاك فاذهبي يا مغاثة واختاري واحد من الثلاثة وجهزها إلى الحبس ليقع اختيارها على من يدفع اللبس فتصدى لها الزوج وتمنى الخلاص من ذلك البوج فتذكرت ما مضى من عيشها معه وانقضى واستحضرت طيب اللذات والأوقات المستلذات فأتت إليه ومالت عليه فتحركت الأنفس الإنسانية والشهوة الحيوانية فهمت بطلبه وتعلقت بسببه فوقع بصرها على ولدها فلذة كبدها فرأت صباحة خده ورشاقة قده فتذكرت طفوليته وصباه وترتيبها إياه وحمله وإرضاعه وتناغيه وأوضاعه فعطفت عليه جوارحها ومالت إليه جوانحها فقصدت أن تختاره وتريح
1 / 46