الكتاب : رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي
دار النشر : المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت / لبنان - 1987 م
الطبعة : الثانية
تحقيق : د . إحسان عباس
صفحة ١٧٠
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ] """""" صفحة رقم 171 """"""
- 5 - رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها ( 1
صفحة ١٧١
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وعلى أصحابه الأكرمين ، وأزواجه أمهات المؤمنين ، وذريته الفاضلين الطيبين . 1 - أما بعد يا أخي يا أبا بكر ( 2 ) سلام عليك ، سلام أخ مشوق طالت بينه وبينك الأميال والفراسخ ، وكثرت الأيام والليالي ، ثم لقيك في حال سفر ونقلة ، ووادك في خلال جولة ورحلة ، فلم يقض من مجاورتك أربا ، ولا بلغ في محاورتك مطلبا . وإني لما احتللت بك ، وجالت يدي في مكنون كتبك ، ومضمون دواوينك ، لمحت عيني في تضاعيفها درجا فتأملته ، فإذا فيه خطاب لبعض الكتاب من مصاقبينا في الدار ، أهل إفريقية ، ثم ممن ضمته حضرة قيروانهم ، إلى رجل أندلسي لم يعينه باسمه ، ولا ذكر بنسبه ( 3 ) ، يذكر له فيها أن علماء بلدنا بالأندلس ، وإن كانوا على الذروة العليا من التمكن بأفانين العلوم ، وفي الغاية القصوى من التحكم على وجوه المعارف ، فإن هممهم قد قصرت عن تخليد مآثر بلدهم ، ومكارم ملوكهم ، ومحاسن فقهائهم ، ومناقب قضاتهم ، ومفاخر كتابهم ، وفضائل علمائهم ، ثم تعدى ذلك إلى أن أخلى أرباب العلوم منا من أن يكون لهم تأليف يحيي ذكرهم ، ويبقي علمهم ، بل قطع على أن كل واحد منهم قد مات فدفن علمه معه ، وحقق ظنه في ذلك ، واستدل على صحته عند نفسه ، بأن شيئا من هذه التآليف لو كان منا موجودا لكان إليهم منقولا ، """""" صفحة رقم 172 """"""
صفحة ١٧٢
وعندهم ظاهرا ، لقرب المزار وكثرة السفار ، وترددهم إليهم ، وتكررهم علينا . 2 - ثم لما ضمنا المجلس الحافل بأصناف الآداب ، والمشهد الآهل بأنواع العلوم ، والقصر المعمور بأنواع الفضائل ، والمنزل المحفوف بكل لطيفة وسيعة من دقيق المعاني وجليل المعالي ، قرارة المجد ومحل السؤدد ، ومحط رحال الخائفين ، وملقى عصا التسيار ، عند الرئيس الأجل الشريف قديمه وحسبه ، الرفيع حديثه ومكتسبه ، الذي أجله عن كل خطة يشركه فيها من لا توازي قومته نومته ، ولا ينال حضره ( 1 ) هويناه ، وأربأ به عن كل مرتبة يلحقه فيها من لا يسمو إلى المكارم سموه ، ولا يدنو من المعالي دنوه ، ولا يعلو في حميد الخلال علوه ، بل أكتفي من مدحه باسمه المشهور ، وأجتزي من الإطالة في تقريظه بمنتماه المذكور ، فحسبي بذينك العلمين دليلا على سعيه المشكور وفضله المشهور ، أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم صاحب البونت ( 2 ) ، أطال الله بقاءه ، وأدام اعتلاءه ، ولا عطل الحامدين من تحليهم بحلاه ، ولا أخلى الأيام من تزينها بعلاه ، فرأيته أعزه الله تعالى حريصا على أن يجاوب هذا المخاطب ، وراغبا في أن يبين له ما لعله قد رآه فنسي ، أو بعد عنه فخفي ، فتناولت الجواب المذكور ، بعد أن بلغني أن ذلك المخاطب قد مات ، رحمنا الله تعالى وإياه ، فلم يكن لقصده بالجواب معنى ، وقد صارت المقابر له مغنى ، فلسنا بمسمعين من في القبور ، فصرفت عنان الخطاب إليك ، إذ من قبلك صرت إلى الكتاب المجاوب عنه ، ومن لدنك وصلت إلي الرسالة المعارضة ، وفي صول كتابي على هذه الهيئة حيثما وصل كناية لمن غاب عنه من أخبار تآليف أهل بلدنا ، مثلما غاب عن هذا الباحث الأول ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، وإن كنت في إخباري إياك بما أرسمه في كتابي هذا ' كمهد إلى البركان نار الحباحب ' ، وباني صوى في مهيع القصد اللاحب ، فإنك وإن كنت المقصود والمواجه فإنما المراد من أهل تلك الناحية من نأي عنهم علم ما استجلبه السائل الماضي ، وما توفيقي إلا بالله سبحانه . 3 - فأما مآثر بلدنا فقد ألف في ذلك أحمد بن محمد الرازي ( 3 ) التاريخي كتبا """""" صفحة رقم 173 """"""
صفحة ١٧٣
جمة منها كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها وأمهات مدنها وأجنادها الستة ( 1 ) ، وخواص كل بلد منها ، وما فيه مما ليس في غيره ، وهو كتاب مريح مليح . وأنا أقول لو لم يكن لأندلسنا إلا ما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بشر به ، ووصف أسلافنا المجاهدين فيه ، بصفات الملوك على الأسرة ، في الحديث الذي رويناه من طريق أبي حمزة أنس بن مالك أن خالته أم حرام بنت ملحان ، زوج أبي الوليد عبادة ابن الصامت ، رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين ، حدثته به عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أخبرها بذلك لكفى شرفا بذلك ( 2 ) ، يسر عاجله ويغبط آجله . فإن قال قائل : لعله صلوات الله تعالى عليه إنما عنى بذلك الحديث أهل صقلية وإقريطش ، وما الدليل على ما ادعيته من أنه ( صلى الله عليه وسلم ) عنى الأندلس حتما ، ومثل هذا من التأويل لا يتساهل فيه ذو ورع دون برهان واضح وبيان لائح ، لا يحتمل التوجيه ، ولا يقبل التجريح . فالجواب ، وبالله التوفيق ، أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب ، وأمر بالبيان لما أوحي إليه ، وقد أخبر في ذلك الحديث المتصل سنده بالعدول عن العدول بطائفتين من أمته يركبون ثبج البحر غزاة واحدة بعد واحدة ، فسألته أم حرام أن يدعو ربه تعالى أن يجعلها منهم ، فأخبرها ( صلى الله عليه وسلم ) ، وخبرة الحق ، بأنها من الأولين ، وهذا من أعلام نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو إخباره بالشيء قبل كونه ، وصح البرهان على رسالته بذلك ، وكانت من الغزاة إلى قبرس ، وخرت عن بغلتها هناك ، فتوفيت رحمها الله تعالى ، وهي أول غزاة ركب فيها المسلمون البحر ، فثبت يقينا أن الغزاة إلى قبرس هم الأولون الذين بشر بهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانت أم حرام منهم ، كما أخبرت صلوات الله تعالى وسلامه عليه ، ولا سبيل أن يظن به ، وقد أوتي ما أوتي من البلاغة والبيان ، أنه يذكر طائفتين قد سمى إحداهما أولى ، إلا والتالية لها ثانية ، فهذا من باب الإضافة وتركيب العدد ، وهذا مقتضى طبيعة صناعة المنطق ، إذ لا تكون الأولى أولى إلا لثانية ، ولا الثانية ثانية """""" صفحة رقم 174 """"""
صفحة ١٧٤
إلا لأولى ، فلا سبيل إلى ذكر ثالث بعد ثان ضرورة ، وهو ( صلى الله عليه وسلم ) إنما ذكر طائفتين ، وبشر بفئتين ، وسمى إحداهما الأولين ، فاقتضى ذلك بالقضاء الصدق آخرين ، والآخر من الأول هو الثاني الذي أخبر ( صلى الله عليه وسلم ) أنه خير القرون بعد قرنه ، وأول القرون بكل فضل بشهادة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه خير من كل قرن بعده . ثم ركب البحر بعد ذلك أيام سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية ، وكان الأمير بها في تلك السفن هبيرة الفزاري ، وأما صقلية فإنها فتحت صدر أيام الأغالبة سنة 212 ، أيام قاد إليها السفن غازيا أسد بن الفرات القاضي صاحب أبي يوسف رحمه الله تعالى ، وبها مات ، وأما إقريطش فإنها فتحت بعد الثلاث والمائتين ( 1 ) ، افتتحها أبو حفص عمر بن شعيب ( 2 ) ، المعروف بابن الغليظ ( 3 ) ، من أهل قرية بطروج ( 4 ) ، من عمل فحص البلوط ، المجاور لقرطبة من بلاد الأندلس ، وكان من فل الربضيين ( 5 ) ، وتداولها بنوه بعده إلى أن كان آخرهم عبد العزيز بن شعيب الذي غنمها في ايامه أرمانوس بن قسطنطين ملك الروم سنة 350 ( 6 ) ، وكان أكثر المفتتحين لها أهل الأندلس . 4 - وأما في قسم الأقاليم فإن قرطبة ، مسقط رؤوسنا ومعق تمائمنا ، مع سر من رأى في إقليم واحد ، فلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه إقليمنا ، وإن كانت الأنوار لا تأتينا إلا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور . وذلك عند المحسنين للأحكام التي تدل عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها ، فلها من ذلك ، على كل حال ، حظ يفوق حظ أكثر البلاد ، بارتفاع أحد النيرين بها تسعين درجة ، وذلك من أدلة التمكن في العلوم ، والنفاذ فيها عند من ذكرنا ، وقد صدق ذلك الخبر ، وأبانته التجربة ، فكان أهلها من التمكن في علوم القراءات والروايات ، وحفظ كثير من الفقه ، والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم ، بمكان رحب الفناء ، واسع """""" صفحة رقم 175 """"""
صفحة ١٧٥
العطن ، متنائي الأقطار ، فسيح المجال . 5 - والذي نعاه علينا الكاتب المذكور ، لو كان كما ذكر ، لكنا فيه شركاء لأكثر أمهات الحواضر ، وجلائل البلاد ، ومتسعات الأعمال ، فهذه القيروان بلد المخاطب لنا ، ما أذكر أني رأيت في أخبارها تأليفا غير ' المعرب عن أخبار المغرب ' وحاشا تآليف محمد بن يوسف الوراق ( 1 ) ، فإنه ألف للمستنصر رحمه الله تعالى في مسالك إفريقية وممالكها ديوانا ضخما ، وفي أخبار ملوكها وحروبهم والقائمين عليهم ( 2 ) كتبا جمة ، وكذلك ألف أيضا في أخبار تيهرت ووهران وتونس ( 3 ) وسجلماسة ونكور والبصرة ( 4 ) وغيرها تآليف حسانا . ومحمد هذا أندلسي الأصل والفرع ، آباؤه من وادي الحجارة ( 5 ) ومدفنه بقرطبة وهجرته إليها ، وإن كانت نشأته بالقيروان . 6 - ولا بد من إقامة الدليل على ما أشرت إليه هاهنا ، إذ مرادنا أن نأتي منه بالمطلب ، فيما يستأنف ، إن شاء الله تعالى ، وذلك أن جميع المؤرخين من أئمتنا السالفين والباقين ، دون محاشاة أحد ، بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك ، متفقون على أن ينسبوا الرجل إلى مكان هجرته التي استقر بها ، ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكناها إلى أن مات ، فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة رضي الله تعالى عنهم ، وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام وأشهرا ( 6 ) ، وقد بقي 58 عاما وأشهرا بمكة والمدينة شرفهما الله تعالى ، وكذلك أيضا أكثر أعمار من ذكرنا . وإن ذكروا البصريين بدأوا بعمران بن حصين ، وأنس بن مالك ، وهشام بن عامر ، وأبي بكرة ، وهؤلاء : مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة والطائف ، وجمهرة أعمارهم خلت هنالك . وإن ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ ومعاوية ، والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم . وكذلك في المصريين : عمرو بن العاص وخارجة بن حذافة العدوي ، وفي المكيين : عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ( 7 ) ، والحكم في هؤلاء كالحكم """""" صفحة رقم 176 """"""
صفحة ١٧٦
في من قصصنا . فمن هاجر إلينا من سائر البلاد ، فنحن أحق به ، وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا ، الذين إجماعهم فرض اتباعه ، وخلافه محرم اقترافه ، ومن هاجر منا إلى غيرنا فلا حظ لنا فيه ، والمكان الذي اختاره أسعد به ، فكما لا ندع إسماعيل بن القاسم ( 1 ) ، فكذلك لا ننازع في محمد بن هانئ سوانا ، والعدل أولى ما حرص عليه ، والنصف أفضل ما دعي إليه ، بعد التفصيل الذي ليس هذا موضعه ، وعلى ما ذكرنا من الإنصاف تراضى الكل . 7 - وهذه بغداد حاضرة الدنيا ، ومعدن كل فضيلة ، والمحلة التي سبق أهلها إلى حمل ألوية المعارف ، والتدقيق في تصريف العلوم ، ورقة الأخلاق والنباهة والذكاء وحدة الأفكار ونفاذ الخواطر ، وهذه البصرة وهي عين المعمور في كل ما ذكرنا : وما أعلم في أخبار بغداد تأليفا غير كتاب أحمد بن أبي طاهر ( 2 ) . وأما سائر التواريخ التي ألفها أهلها ، فلم يخصوا بلدتهم بها دون سائر البلاد ، ولا أعلم في أخبار البصرة غير كتاب عمر بن شبة ( 3 ) ، وكتاب لرجل من ولد الربيع بن زياد المنسوب إلى أبي سفيان ، في خطط البصرة وقطائعها ، وكتابين لرجلين من أهلها يسمى أحدهما عبد القاهر ، كريزي النسب ، [ في ] صفاتها وذكر أسواقها ومحالها وشوارعها . ولا أعلم في أخبار الكوفة غير كتاب عمر بن شبة ( 4 ) . وأما الجبال وخراسان وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان والسند والري وأرمينية وأذربيجان وتلك الممالك الكثيرة الضخمة فلا أعلم في شيء منها تأليفا قصد به أخبار ملوك تلك النواحي وعلمائها وشعرائها وأطبائها ( 5 ) ، ولقد تاقت النفوس إلى أن يتصل بها تأليف في أخبار فقهاء بغداد ، وما علمناه علم ، على أنهم العلية الرؤساء والأكابر العظماء . ولو كان في شيء من ذلك تأليف لكان الحكم في الأغلب أن يبلغنا كما بلغ سائر تآليفهم ، وكما بلغنا كتاب """""" صفحة رقم 177 """"""
صفحة ١٧٧
حمزة بن الحسن الأصبهاني في أخبار أصبهان ( 1 ) ، وكتاب الموصلي وغيره في أخبار مصر ، وكما بلغنا سائر تآليفهم في أنحاء العلوم . وقد بلغنا تأليف القاضي أبي العباس محمد بن عبدون القيرواني في الشروط واعتراضه على الشافعي رحمه الله تعالى ( 2 ) ، وكذلك بلغنا رد القاضي [ عبد الله بن ] أحمد بن طالب التميمي على أبي حنيفة وتشنيعه على الشافعي ( 3 ) ، وكتب ابن عبدوس ومحمد بن سحنون ( 4 ) وغير ذلك من خوامل تآليفهم دون مشهورها . 8 - وأما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر ' أزهد الناس في عالم أهله ' . وقرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال : ' لا يفقد النبي حرمته إلأ في بلده ' . وقد تيقنا ذلك بما لقي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع قريش ، وهم أوفر الناس أحلاما ، وأصحهم عقولا ، وأشدهم تثبتا ، مع ما خصوا به من سكناهم أفضل البقاع ، وتغذيتهم بأكرم المياه ، حتى خص الله الأوس والخزرج بالفضيلة التي أبانهم بها عن جميع الناس ، والله يؤتي فضله من يشاء . ولا سيما أندلسنا ، فإنها خصت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم ، الماهر منهم ، واستقلالهم ، كثير ما يأتي به ، واستهجانهم حسناته ، وتتبعهم سقطاته وعثراته ، وأكثر ذلك مدة حياته ، بأضعاف ما في سائر البلاد . إن أجاد قالوا : سارق مغير ، ومنتحل مدع ، وإن توسط قالوا : غث بارد وضعيف ساقط ، وإن باكر الحيازة لقصب السبق قالوا : متى كان هذا ومتى تعلم وفي أي زمان قرأ ولأمه الهبل . وبعد ذلك إن ولجت به الأقدار أحد طريقين إما شفوفا بائنا يعليه على نظرائه ، أو سلوكا في غير السبيل التي عهدوها ، فهنالك حمي الوطيس على البائس ، وصار غرضا للأقوال ، وهدفا للمطالب ، ونصبا للتسبب إليه ، ونهبا للألسنة ، وعرضة للتطرق إلى عرضه ، وربما نحل ما لم يقل ، وطوق ما لم يتقلد ، وألحق به ما لم يفه به ولا اعتقده قلبه ، وبالحرى ، وهو السابق المبرز إن لم يتعلق من """""" صفحة رقم 178 """"""
صفحة ١٧٨
السلطان بحظ ، أن يسلم من المتالف ، وينجو من المخالف . فإن تعرض لتأليف غمز ولمز ، وتعرض وهمز ، واشتط عليه ، وعظم يسير خطبه ، واستشنع هين سقطه ، وذهبت محاسنه ، وسترت فضائله ، وهتف ونودي بما أغفل ، فتنكس لذلك همته ، وتكل نفسه وتبرد حميته ، وهكذا عندنا نصيب من ابتدأ يحوك شعرا ، أو يعمل رسالة ، فإنه لا يفلت من هذه الحبائل ، ولا يتخلص من هذا النصب ، إلا الناهض الفائت ، والمطفف المستولي على الأمد . 9 - وعلى ذلك ، فقد جمع ما ظنه الظان غير مجموع ، وألفت عندنا تآليف في غاية الحسن ، لنا خطر السبق في بعضها ، فمنها : كتاب الهداية لعيسى بن دينار ( 1 ) ، وهي أرفع كتب جمعت في معناها على مذهب مالك وابن القاسم ، وأجمعها للمعاني الفقهية على المذهب ، فمنها كتاب الصلاة وكتاب البيوع وكتاب الجدار في الأقضية وكتاب النكاح والطلاق . ومن الكتب المالكية التي ألفت بالأندلس : كتاب القطني مالك بن علي ( 2 ) ، وهو رجل قرشي من بني فهر ، لقي أصحاب مالك ، وأصحاب أصحابه ، وهو كتاب حسن فيه غرائب ومستحسنات من الرسائل والمولدات . ومنها كتاب أبي إسحاق [ يحيى بن ] إبراهيم بن مزين ( 3 ) في تفسير الموطإ ، والكتب المستقصية لمعاني الموطإ وتوصيل مقطوعاته من تآليف ابن مزين أيضا . وكتابه في رجال الموطإ وما لمالك عن كل واحد منهم من الآثار في موطإه . وفي تفسير القرآن : كتاب أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد ( 4 ) ؛ فهو الكتاب الذي أقطع قطعا لا أستثني فيه انه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله ، ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره . ومنها في الحديث مصنفه الكبير الذي رتبه على أسماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف . ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام ، فهو مصنف ومسند ، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله ، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه ، فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة وثمانين رجلا ليس فيهم عشرة ضعفاء ، وسائرهم أعلام """""" صفحة رقم 179 """"""
صفحة ١٧٩
مشاهير ، زمنها مصنفه في فضل ( 1 ) الصحابة والتابعين ومن دونهم ، الذي أربى فيه على مصنف أبي بكر ابن أبي شيبة وصمنف عبد الرزاق بن همام ومصنف سعيد بن منصور وغيرها ، وانتظم علما عظيما لم يقع في شيء من هذه ، فصارت تآليف هذا الإمام الفاضل قواعد للإسلام لا نظير لها . وكان متخيرا لا يقلد أحدا ، وكان ذا خاصة من أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه [ وجاريا في مضمار أبي عبد الله البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري وأبي عبد الرحمن النسائي رحمة الله عليهم ] ( 2 ) . ومنها في أحكام القرآن : كتب ابن آمة الحجاري ( 3 ) ، وكان شافعي المذهب بصيرا بالكلام على اختياره ، وكتاب القاضي أبي الحكم منذر بن سعيد ( 4 ) وكان داودي المذهب ، قويا على الانتصار له ، وكلاهما في أحكام القرآن غاية ، ولمنذر مصنفات : منها كتاب الإبانة عن حقائق أصول الديانة . ومنها في الحديث : مصنف أبي محمد قاسم بن أصبغ بن يوسف بن ناصح ( 5 ) ، ومصنف محمد بن عبد الملك بن أيمن ( 6 ) ، وهما مصنفان رفيعان احتويا من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات ، ولقاسم بن أصبغ هذا تآليف حسان جدا ، منها أحكام القرآن على أبواب كتاب إسماعيل ( 7 ) وكلامه ، ومنها كتاب المجتبى على أبواب كتاب ابن الجارود المنتقى وهو خير منه [ انتقاء ] ( 8 ) وأنقى حديثا وأعلى سندا وأكثر فائدة . ومنها كتاب في فضائل قريش وكنانة ، وكتاب في الناسخ والمنسوخ ، وكتاب [ في ] غرائب حديث مالك بن أنس مما ليس في الموطإ ، ومنها كتاب التمهيد لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبد البر ( 9 ) ، وهو الآن في الحياة ، لم يبلغ سن الشيخوخة ، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلا ، فكيف أحسن منه . ومنها كتاب """""" صفحة رقم 180 """"""
صفحة ١٨٠
الاستذكار وهو اختصار التمهيد المذكور . ولصاحبنا أبي عمر ابن عبد البر المذكور كتب لا مثل لها . منها كتابه المسمى بالكافي في الفقه على مذهب مالك وأصحابه خمسة عشر كتابا ( 1 ) اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه وبوه وقربه فصار مغنيا عن التصنيفات الطوال في معناه . ومنها كتابه في الصحابة [ سماه كتاب الاستيعاب في أسماء المذكورين في الروايات والسير والمصنفات من الصحابة رضي الله عنهم والتعريف بهم وتلخيص أحوالهم ومنازلهم وعيون أخبارهم على حروف المعجم ، اثنا عشر جزءا ] ( 2 ) ليس لأحد من المتقدمين مثله ، على كثرة ما صنفوا في ذلك ، ومنها كتاب بهجة المجالس وأنس المجالس مما يجري في المذاكرات من غرر الأبيات ونوادر الحكايات . ومنها كتاب جامع بيان العلم وفضله ، وما ينبغي في روايته ( 3 ) . ومنها كتاب شيخنا القاضي أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن الفرضي ( 4 ) في المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال ، - ولم يبلغ عبد الغني الحافظ البصري في ذلك إلا كتابين ، وبلغ أبو الوليد رحمه الله تعالى نحو الثلاثين - لا أعلم مثله في فنه البتة . ومنها تاريخ أحمد بن سعيد ( 5 ) ، ما وضع في الرجال أحد مثله ، إلا ما بلغنا من تاريخ محمد بن موسى العقيلي البغدادي ، لم أره . وأحمد بن سعيد هو المتقدم في التأليف القائم في ذلك . ومنها كتب محمد بن [ أحمد بن ] يحيى بن مفرج القاضي ( 6 ) وهي كثيرة ، منها أسفار سبعة جمع فيها فقه الحسن البصري ، وكتب كثيرة جمع فيها فقه الزهري . ومما يتعلق بذلك شرح الحديث لقاسم بن ثابت السرقسطي ( 7 ) فما شآه أبو عبيد إلا """""" صفحة رقم 181 """"""
صفحة ١٨١
بتقدم العصر فقط . ومنها في الفقه الواضحة ، والمالكيون لا تمانع بينهم في فضلها واستحسانهم إياها . ومنها المستخرجة من الأسمعة وهي المعروفة ب ' العتبية ' ( 1 ) ولها عند أهل أفريقية القدر العالي والطيران الحثيث . والكتاب الذي جمعه أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام ( 2 ) الإشبيلي المعروف بابن المكوي ( 3 ) ، والقرشي أبو مروان المعيطي ( 4 ) ، في جمع أقاويل مالك ، كلها على نحو الكتاب الباهر الذي جمع فيه القاضي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد المصري أقاويل الشافعي كلها . ومنها كتاب المنتخب الذي ألفه القاضي محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة ( 5 ) ، وما رأيت لمالكي قط كتابا أنبل منه في جمع روايات المذهب [ وتأليفها ] وشرح مستغلقها ، وتفريع وجوهها . وتآليف قاسم بن محمد ( 6 ) المعروف بصاحب الوثائق ، وكلها حسن في معناه ، وكان شافعي المذهب نظارا ، جاريا في ميدان البغداديين . 11 - ومنها في اللغة الكتاب البارع ( 7 ) الذي ألفه إسماعيل بن القاسم يحتوي على لغة العرب ، وكتابه في المقصور والممدود والمهموز لم يؤلف مثله في بابه ، وكتاب الأفعال لمحمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بابن القوطية ( 8 ) ، بزيادات ابن طريف ( 9 ) ، مولى العبديين ، فلم يوضع في فنه مثله ، وكتاب جمعه أبو غالب تمام بن """""" صفحة رقم 182 """"""
صفحة ١٨٢
غالب المعروف بابن التياني في اللغة ( 1 ) ، لم يؤلف مثله اختصارا وإكثارا وثقة نقل ، وهو أظن في الحياة بعد . وهاهنا قصة لا ينبغي أن تخلو رسالتنا منها ، وهي : أن أبا الوليد عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الفرضي حدثني أن أبا الجيش مجاهدا صاحب الجزائر ودانية وجه إلى أبي غالب أيام غلبته على مرسية ، وأبو غالب ساكن بها ، ألف دينار أندلسية ، على أن يزيد في ترجمة الكتاب المذكور ' مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد ' فرد الدنانير وأبى من ذلك ولم يفتح في هذا بابا البتة وقال : والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلت ، ولا استجزت الكذب ، لأني لم أجمعه له خاصة ، بل لكل طالب [ عامة ] ( 2 ) فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها ، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها . ومنها كتاب أحمد بن أبان بن سيد ( 3 ) في اللغة المعروف بكتاب ' العالم ' نحو مائة سفر على الأجناس ، في غاية الايعاب ، بدأ بالفلك ، وختم بالذرة ، وكتاب النوادر ( 4 ) لأبي علي إسماعيل بن القاسم وهو مبار لكتاب الكامل لأبي العباس المبرد ، ولعمري لئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحوا وخبرا ، فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعرا . وكتاب الفصوص لصاعد بن الحسن الربعي ( 5 ) وهو جار في مضمار الكتابين المذكورين . ومن الانحاء تفسير الجرفي ( 6 ) لكتاب الكسائي حسن في معناه ، وكتاب ابن سيده في ذلك المنبوز ب ' العالم والمتعلم ' وشرح له لكتاب الأخفش ( 7 ) . 12 - ومما ألف في الشعر ( 8 ) : كتاب عبادة بن ماء السماء في أخبار شعراء """""" صفحة رقم 183 """"""
صفحة ١٨٣
الأندلس ( 1 ) ، كتاب حسن ، وكتاب الحدائق لأبي عمر أحمد بن فرج ( 2 ) ، عارض به كتاب الزهرة لأبي [ بكر ] محمد [ بن ] داود رحمه الله تعالى ، إلا أن أبا بكر إنما أدخل مائة باب ، في كل باب مائة بيت ، وأبو عمر أورد مائتي باب في كل باب مائة بيت ، ليس منها باب تكرر اسمه لأبي بكر ، ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئا ، وأحسن الاختيار ما شاء وأجاد ، فبلغ الغاية ، وأتى الكتاب فردا في معناه . ومنها كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس جمعه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسين الكاتب ( 3 ) وهو حي بعد . ومما يتعلق بذلك : شرح أبي القاسم إبراهيم بن محمد الافليلي لشعر المتنبي ، وهو حسن جدا ( 4 ) . 13 - ومن الأخبار : تواريخ أحمد بن محمد بن موسى الرازي ( 5 ) في أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم وذلك كثيرا جدا ، وكتاب له في صفة قرطبة وخططها ومنازل الأعيان بها ، على نحو ما بدأ به ابن أبي طاهر في أخبار بغداد ، وذكر منازل صحابة أبي جعفر المنصور بها . وتواريخ متفرقة رأيت منها : أخبار عمر بن حفصون القائم برية ووقائعه وسيره وحروبه . وتاريخ آخر في أخبار عبد الرحمن بن مروان الجليقي القائم بالجوف ( 6 ) . وفي أخبار بني قسي والتجيبيين وبني الطويل بالثغر ( 7 ) فقد رأيت من ذلك كتبا مصنفة في غاية الحسن ، وكتاب مجزأ في أجزاء كثيرة في أخبار رية وحصونها [ وولاتها ] وحروبها وفقهائها وشعرائها تأليف إسحاق بن سلمة بن إسحاق القيني ( 8 ) . وكتاب محمد بن الحارث الخشني في أخبار القضاة بقرطبة وسائر """""" صفحة رقم 184 """"""
بلاد الأندلس ، وكتاب في أخبار الفقهاء بها ( 1 ) . وكتاب لأحمد بن محمد بن موسى في أنساب مشاهير أهل الأندلس ( 2 ) ، في خمسة أسفار ضخمة من أحسن كتاب في الأنساب وأوسعها ، وكتاب قاسم بن أصبغ في الأنساب في غاية الحسن والإيعاب والإيجاز ( 3 ) . وكتابه في فضائل بني أمية ( 4 ) . وكان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره وانتشر ذكره ( 5 ) ، ومنها كتب مؤلفة في أصحاب المعاقل والأجناد الستة بالأندلس . ومنها كتب كثيرة جمعت فيها أخبار شعراء الندلس للمستنصر رحمه الله تعالى ، رأيت منها أخبار شعراء البيرة في نحو عشرة أجزاء ، ومنها كتاب الطوالع في أنساب أهل الأندلس ، ومنها كتاب التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس [ وملوكها ] تأليف أبي مروان ابن حيان نحو عشرة أسفار ، من أجل كتاب ألف في هذا المعنى ، وهو في الحياة بعد ، لم يتجاوز الاكتهال ( 6 ) ، وكتاب المآثر العامرية لحسين بن عاصم ( 7 ) في سير ابن أبي عامر وأخباره ، وكتاب الأقشتين محمد بن هاشم النحوي في طبقات الكتاب بالأندلس ( 8 ) . وكتاب سكن بن سعيد في ذلك ( 9 ) . وكتاب أحمد بن [ محمد بن ] فرج في المنتزين والقائمين بالأندلس وأخبارهم ( 10 ) . وكتاب أخبار أطباء الأندلس لسليمان بن جلجل ( 11 ) .
صفحة ١٨٤
"""""" صفحة رقم 185 """"""
صفحة ١٨٥
14 - وأما الطب : فكتب الوزير يحيى بن إسحاق وهي كتب رفيعة حسان ( 1 ) . وكتب محمد بن الحسن المذحجي أستاذنا رحمه الله تعالى ، وهو المعروف بابن الكتاني ، وهي كتب رفيعة حسان ( 2 ) . وكتاب التصريف [ لمن عجز عن التأليف ] لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي ( 3 ) ، وقد أدركناه وشاهدناه ، ولئن قلنا إنه لم يؤلف في الطب أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع ، لنصدقن . وكتب ابن الهيثم ( 4 ) في الخواص والسموم والعقاقير من أجل الكتب وأنفعها . 15 - وأما الفلسفة : فإني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيونا مؤلفة لسعيد بن فتحون السرقسطي المعروف بالحمار ، دالة على تمكنه من هذه الصناعة ( 5 ) ، وأما رسائل أستاذنا أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي في ذلك فمشهورة متداولة وتامة الحسن فائقة الجودة عظيمة المنفعة . 16 - وأما العدد والهندسة فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ ، ولا تحققنا به ، فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المحسن من المقصر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا ، إلا أني سمعت من أثق بعقله ودينه من أهل العلم ممن اتفق على رسوخه فيه يقول : إنه لم يؤلف في الأزياج مثل زيج مسلمة ( 6 ) وزيج ابن السمح ( 7 ) ، وهما من أهل بلدنا . وكذلك """""" صفحة رقم 186 """"""
صفحة ١٨٦
كتاب لأحمد بن نصر [ في المساحة المجهولة ] فما تقدم إلى مثله في معناه ( 1 ) . 17 - وإنما ذكرنا التآليف المستحقة للذكر ، والتي تدخل تحت الأقسام السبعة التي لا يؤلف عاقل إلا في أحدها ( 2 ) ، وهي إما شيء لم يسبق إليه يخترعه أو شيء ناقص يتمه أو شيء مستغلق يشرحه أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه ، أو شيء متفرق يجمعه أو شيء مختلط يرتبه ، أو شيء أخطأ فيه مؤلفه يصلحه . وأما التآليف المقصرة عن مراتب غيرها فلم نلتفت إلى ذكرها ، وهي عندنا من تأليف أهل بلدنا أكثر من أن نحيط بعلمها . 18 - وأما علم الكلام فإن بلادنا وإن كانت لم تتجاذب فيها الخصوم ، ولا اختلفت فيها النحل ، فقل لذلك تصرفهم في هذا الباب ، فهي على كل حال غير عرية عنه ، وقد كان فيهم قوم يذهبون إلى الاعتزال ، نظار على أصوله ، ولهم فيه تآليف منهم : خليل بن إسحاق ( 3 ) ويحيى بن السمينة ( 4 ) والحاجب موسى بن حدير ( 5 ) وأخوه الوزير صاحب المظالم أحمد ، وكان داعية إلى الاعتزال لا يستتر بذلك . 19 - ولنا على مذهبنا الذي تخيرناه من مذاهب أصحاب الحديث كتاب في هذا المعنى ( 6 ) ، وهو وإن كان صغير الجرم ، قليل عدد الورق ، يزيد على المائتين زيادة يسيرة ، فعظيم الفائدة ، لأنا أسقطنا فيه المشاغب كلها ، وأضربنا على التطويل جملة ، واقتصرنا على البراهين المنتخبة من المقدمات الصحاح الراجعة إلى شهادة الحس وبديهة العقل لها بالصحة ، ولنا فيما تحققنا به تآليف جمة ، منها ما قد تم ، ومنها ما شارف التمام ، ومنها ما قد مضى منه مصدر ، ويعين الله تعالى على باقيه ، لم نقصد به قصد """""" صفحة رقم 187 """"""
صفحة ١٨٧
مباهاة فنذكرها ، ولا أردنا السمعة فنسميها ، والمراد بها ربنا جل وجهه ، وهو ولي العون فيها ، والملي بالمجازاة عليها ، وما كان الله تعالى فسيبدو ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . 20 - وبلدنا هذا على بعده من ينبوع العلم ، ونأيه من محلة العلماء ، فقد ذكرنا من تآليف أهله ما إن طلب مثلها بفارس والأهواز وديار مضر وديار ربيعة واليمن والشام ، أعوز وجود ذلك ، على قرب المسافة في هذه البلاد من العراق التي هي دار هجرة الفهم وذويه ومراد المعارف وأربابها . 21 - ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي ( 1 ) في الشعر ، لم نباه إلا جريرا والفرزدق لكونه في عصرهما ، ولو أنصف لاستشهد بشعره ، فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين . وإذا سمينا بقي بن مخلد لم نسابق به إلا محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري وسليمان بن الأشعث السجستاني وأحمد بن شعيب النسائي ، وإذا ذكرنا قاسم بن محمد ( 2 ) لم نباه به إلا القفال ( ) ومحمد بن عقيل الفريابي ، وهو شريكهما في صحبة المزني أبي ( 3 ) إبراهيم والتلمذة له ، وإذا نعتنا عبد الله بن قاسم بن هلال ومنذر بن سعيد لم نجار بهما إلا أبا الحسن ابن المغلس والخلال والديباجي ورويم بن أحمد وقد شركهم عبد الله في أبي سليمان ( 4 ) وصحبته . وإذا أشرنا إلى محمد بن يحيى بن لبابة ( 5 ) وعمه محمد بن عمر وفضل بن سلمة لم ( 6 ) نناطح بهم إلا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن سحنون ومحمد بن عبدوس . وإذا صرحنا بذكر محمد بن يحيى الرباحي ( 7 ) وأبي عبد الله محمد بن عاصم لم يقصرا عن أكابر أصحاب محمد بن يزيد المبرد . ولو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا أحمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار بن برد وحبيب والمتنبي ( 8 ) فكيف ولنا معه جعفر بن عثمان الحاجب وأحمد بن """""" صفحة رقم 188 """"""
صفحة ١٨٨
عبد الملك بن مروان ( 1 ) وأغلب بن شعيب ( 2 ) ومحمد بن [ مطرف بن ] شخيص ( 3 ) وأحمد بن فرج وعبد الملك بن سعيد المرادي ( 4 ) ، وكل هؤلاء فحل يهاب جانبه ، وحصان ممسوح الغرة . ولنا من البلغاء أحمد بن عبد الملك بن شهيد ( 5 ) صديقنا وصاحبنا وهو حي بعد ، لم يبلغ سن الاكتهال ، وله من التصرف في وجوه البلاغة وشعابها مقدار يكاد ينطق فيه بلسان مركب من لساني عمرو وسهل ( 6 ) . ومحمد بن عبد الله بن مسرة ( 7 ) في طريقه التي سلك فيها وإن كنا لا نرضى مذهبه ، في جماعة يكثر تعدادهم . وقد انتهى ما اقتضاه خطاب الكاتب رحمه الله تعالى من البيان ، ولم نتزيد فيما رغب فيه إلا ما دعت الضرورة إلى ذكره لتعلقه بجوابه ، والحمد لله الموفق لعلمه ، والهادي إلى الشريعة المزلفة منه والموصلة ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وكرم . انتهت الرسالة """""" صفحة رقم 189 """"""
صفحة ١٨٩