وإن هذه المعرفة الضرورية لمحض هبة من الله عز وجل لعباده، فهي ليست من صنع حجة أو قياس، ولم تنشأ عن نظر أو تفكر، بل هي أسبق من هذا كله، وأبلغ من هذا كله! لأنها فطرة الله التي فطر الناس عليها، والحنيفية التي خلق عليها عباده كلهم، وهي التي كان يشير إليها كثير من السلف بقولهم،» عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي! «فهي معرفة لا تنشأ بالنظر والتفكر وإنما تزداد بذلك.
ففي الحديث القدسي:» إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ثم جاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم «، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
وإن هذا الإقرار الفطري بالخالق الحكيم ليولد مع الإنسان منذ البداية، ويظل يصحبه في مختلف أطوار حياته ما لم تفسد فطرته وتنتكس بفعل العوارض والأهواء، فالكفر طارئ عرض، فإذا تاب منه صاحبه فقد رجع إلى الفطرة التي فطر عليها، وإلى الأصل الذي شذ عنه وخرج عليه.
وهذه الفطرة عند كثير من المفسرين هي الميثاق الذي أخذه الله بربوبيته على بني آدم قبل أن يوجدوا، وجعل منه حجة قائمة عليهم لا يسعهم جهلها أو التنكر لها اعتذارا بتقليد الآباء والأجداد.
قال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا ... غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} [الأعراف: 172 - 173].
صفحة ٦