وأُخفي حبَّه جُهدي ... ولا والله ما يَخفى
ثم دعوت العُود، وغنّيت فيه صوتًا حسنًا، ولم أزل أكرره وأشرب عليه، وأنظر إلى وجهها، حتّى سكرت.
فلما كان الغد دخلت على الرشيد وأنا ميّت سكرًا، فاستخبرني، فأخبرته بقصتي، فقال: طيبٌ وحياتي! ودعا بالشراب، فشرب سائر يومه، فلما كان العشي قال: قمْ حتى أتنكر وأدخل معك على صاحبتك، فأراها: فركب حمارًا، وتلثم بردائه، فدخلنا، فرآها، وقال: مليحة والله! ما ضيّعت ما صنعت، فأمر فجيء بكأس، وأحضرت عودي، وغنيته الصوت ثلاث مرات، وشرب ثلاثة أرطال، وأمر لي بعشرة آلاف درهم، فقلت له: يا سيدي، فصاحبة القصة؟ فأمر لها بمثل ذلك، وأمر ألا يؤخذ من مزارع هذا الدير خراج، وأقطعهم إياه، وجعل عليه خراج عشرة دنانير في كل سنة، تؤدى عنه ببغداد، وانصرفنا.
أخبرني محمد بن مزيد قال: حدثنا حماد عن أبيه قال: خرجنا مع الرشيد يريد الرقة، فلما صرنا بالموضع، الذي يقال له القائم نزلنا، وخرج يتصيّد وخرجنا معه، فأبعد في طلب الصيد، ولاح لي دير فقصدته وقد تعبت، فأشرفت على صاحبه، فقال هل لك في النزول بنا اليوم؟ فقلت: إي والله، وإني إلى ذلك لمحتاج! فنزل ففتح لي الباب وجلس يحدّثني، وكان شيخًا كبيرًا وقد أدرك دولة بني أمية، فجعل يحدّثني عمن نزل به من القوم ومواليهم وجيوشهم، وعرض عليّ الطعام فأجبته، فقدم إليَّ طعامًا من طعام الديارات، نظيفًا طيبًا، فأكلت منه، وأتاني بشراب وريحان طري فشربت منه، ووكل بي جارية تخدمني راهبة لم أرَ أحسن وجهًا منها ولا أشكل، فشربت حتى سكرت، ونمت وانتبهت عشاءً، فقلت في ذلك:
بدير القائمِ الأقصى ... غزالٌ شادِنٌ أحوى
برى حبّي له جسمي ... ولا يعلمُ ما ألقى
وأكتم حبَّه جُهدي ... ولا والله ما يَخفى
وركبتُ فلحقتُ بالعسكر والرشيد قد جلس للشرب وطلبني فلم أُوجد، وأُخبرت بذلك، فغنّيت في الأبيات ودخلت إليه، فقال لي: أين كنت؟ ويحك! فأخبرته الخبر، وغنّيته الصوت، فطرب وشرب عليه حتى سكر، وأخَّر الرحيل في غدٍ، ومضينا إلى الدير ونزله، فرأى الشيخ واستنطقه، ورأى الجارية التي كانت تخدمني بالأمس، فدعا بطعام خفيف فأصاب منه، ودعا بالشراب، وأمر الجارية التي كانت بالأمس تخدمني أن تتولى خدمته وسقيه ففعلت، وشرب حتى طابت نفسه، ثم أمر للدير بألف دينار، وأمر باحتمال خراجه له سبع سنين، فرحلنا.
قال حماد: فحدّثني أبي قال: فلما صرنا بتل عزاز من دابق خرجتُ أنا وأصحاب لي نتنزه في قرية من قراها، فأقمنا بها أيامًا، وطلبني الرشيد فلم يجدني، فلما سمعت أتيتُ الفضل بن الربيع، فقال لي: أين كنت؟ طلبك أمير المؤمنين، فأخبرته بنزهتنا فغضب، وخفت من الرشيد أكثر ممّا لقيت من الفضل، فقلت:
إنَّ قلبي بالتّلِ تلِّ عزازِ ... عند ظبيٍ من الظباءِ الجَوازي
شادنٍ يسكنُ الشآمَ وفيه ... مع ظَرف العراق شكلُ الحجازِ
يا لقومي لبنت قَسٍّ أصابتْ ... منك صفوَ الهوى وليست تُجازي
حلفت بالمسيح أن تُنجزَ الوعدَ ... وليست تَهمُّ بالانجازِ
وغنّيت فيه، ثم دخلت على الرشيد وهو مغضب، فقال: أين كنت؟ طلبتك فلم أجدك، فاعتذرتُ إليه وأنشدته هذا الشعر وغنيته إياه، فتبسَّم وقال: عذر وأبيك وأي عذر! وما زال يشرب عليه ويستعيدنيه ليلته جمعاء حتى انصرفنا مع طلوع الفجر، فلّما وصلت إلى رَحلي إذا برسول أمير المؤمنين قد أتانا يدعونا، فوافيتُ فدخلتُ، وإذا ابن جامع يتمرغ على دكان في الدار، وهو سكران يتململ، فقال لي: يا ابن الموصلي، أتدري ما جاء بنا؟ فقلت: لا والله ما أدري، فقال: لكني والله أدري، دراية صحيحة، جاءت بنا نصرانيتك الزانية، عليك وعليها لعنة الله! وخرج الإِذن، فأذن لنا، فدخلنا، فلما رأيت الرشيد تبسمت، فقال لي: ما يضحكك؟ فأخبرته بقول ابن جامع، فقال: صدق، ما هو إلا أن فقدتكم فاشتقت إلى ما كنّا فيه، فعودا بنا، فعدنا فيه حتى انقضى مجلسنا وانصرفنا.
دير قُرّة
دير قرّة: يقع بإزاء دير الجماجم قال الأصبهاني: قُرّة الذي بناه رجل من لخم، بناه في أيام ملك المنذر بن ماء السماء، وهو ملاصق لطف البرّ ودير الجماجم، مما يلي الكوفة.
1 / 21