فنعر المتوكل وقال لي: ويلك! أميت أنت؟ فانتبهت، وعلمت أنني قد أخطأت في ترك مساعدته. فأخذت رطلًا، فلم أزل أشرب حتى لحقته. ومضى لنا يوم كان في الأيام فردًا.
ثم أرغبها المتوكل فأسلمت، وتزوجها. ولم تزل حظية عنده إلى أن قتل وهي في داره.
ورأيت في بعض النسخ أن شحرورًا وقمريًا كانا يصيحان على أعالي أشجار بالدير فأصغى إليهما المتوكل. فلما تحققت إصغاءه أنشدته سعانين:
وكأنما الشحرور راهب بيعة ... ألهاه طيب الوقت عن تزنيره
جعلت له فلك الغصون صوامعًا ... ينعين في إنجيله وزبوره
وكأنما القمري يندب شجوه ... بأنينه وحنينه وزفيره
صب شجته بلابل لما دنت ... منه ديار أنيسه وسميره
فأعجبه ذلك منها وزاد بها سرورًا، ولها محبة.
دير عبد المسيح
دير عبد المسيح: بناه عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة الغساني بالحيرة.
وقد ذكره الأصبهاني قال: وكان - عبد المسيح - أحد المعمرين، يقال إنه عمر ثلاثمائة وخمسين سنة، وهذا الدير بظاهر الحيرة بموضع يقال له الجرعة، وعبد المسيح هو الذي لقي خالد بن الوليد، ﵁، لما غزا الحيرة وقاتل الفرس فرموه من حصونهم الثلاثة حصون آل بقيلة بالخزف المدور، وكان يخرج قدام الخيل فتنفر منه.
فقال له ضرار بن الأزور: هذا من كيدهم، فبعث خالد رجلًا يستدعي رجلًا منهم عاقلًا، فجاءه عبد المسيح بن عمرو وجرى له معه ما هو مذكور مشهور.
قال: وبقي عبد المسيح في ذلك الدير بعدما صالح المسلمين على مائة ألف، حتى مات وخرب الدير بعد مدة فظهر فيه أزج معقود من حجارة فظنوه كنزًا، فإذا فيه سرير رخام عليه رجل ميت وعند رأسه لوح فيه مكتوب: أنا عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة:
حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى فوق المزيد
فكافحت الأمور وكافحتني ... فلم أخضع لمعضلة كؤود
وكدت أنال في الشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود
دير عدس
دير عدس بالشام، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا المكي عن ابن أبي خالد، عن الهيثم قال: أخبرنا أسامة بن زيد، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عمر بن الخطاب ﵁ قال: خرجت مع أناس من قريش في تجارة إلى الشام في الجاهلية، فإني في سوق من أسواقها إذا ببطريق قد قبض على عنقي، فذهبت أنازعه فقيل لي: لا تفعل فإنه لا نصف لك منه. فأدخلني كنيسة فإذا تراب عظيم ملقى، فجاءني بزنبيل ومجرفة، فقال لي: انقل ما ها هنا. فجلست امثّل أمري كيف أصنع. فلما كان في الهاجرة جاءني وعليه سبنية أرى سائر جسده منها.
فقال: إنك على ما أرى ما نقلت شيئًا! ثم جمع يديه وضرب بهما دماغي. فقلت: وا ثكل أمك يا عمر، أبلغت ما أرى! ثم وثبت إلى المجرفة فضربت بها هامته ثم واريته في التراب، وخرجت على وجهي لا أدري أين أسير، فسرت بقية يومي وليلتي، ومن الغد إلى الهاجرة، فانتهيت إلى دير فاستظللت في فنائه، فخرج إلي رجل فقال: يا عبد الله ما يقعدك ها هنا؟ فقلت: أضللت أصحابي.
فقال: ما أنت على طريق، وإنك لتنظر بعيني خائف، فادخل فأصب من الطعام واسترح. فدخلت فأتاني بطعام وشراب وألطفني، ثم صعّد إليّ النظر وصوّبه فقال: قد علم أهل الكتاب - أو الكتب - أنه ما على الأرض أعلم بالكتّاب - أو الكتب - مني، وأني لأجد صفتك الصفة التي تخرجنا من هذا الدير وتغلبنا عليه.
فقلت: يا هذا، لقد ذهبت في غير مذهب. فقال لي: ما اسمك؟ فقلت عمر بن الخطاب، فقال: أنت والله صاحبنا، فاكتب على ديري هذا وما فيه.
فقلت له: يا هذا، إنك قد صنعت إلي صنيعة فلا تكدرها.
فقال: إنما هو كتاب في رق، فإن كنت صاحبنا فذاك، وإلا لم يضرك شيء. فكتبت له على ديره وما فيه، وأتاني بثياب ودراهم فدفعها إلي، ثم أوكف أتانًا وقال لي: أتراها؟ قلت: نعم. قال: سر عليها فإنك لا تمر على قوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك، فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إلي.
قال: فركبتها حتى لحقت أصحابي فانطلقت معهم.
1 / 18