المجلد الأول
الشريف الرضي 359-406 ه/970-1061 م
حياته: هو أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن ابراهيم المرتضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولد سنة 359 ه/970 م. كان والده أبو أحمد الحسين الموسوي سفير الخلفاء والملوك، أسندت إليه نقابة الطالبيين وإمارة الحج والنظر في المظالم. وقد كلفه الخليفة العباسي الطائع تسكين الفتن المتتالية في بغداد أيام ملوك الديلم البويهيين، وبين العسكرين البغدادي والفارسي، وبين الشيعة والسنة. وإلى بعض الفتن يشير ولده الرضي بقوله:
وخطب على الزوراء ألقى جرانه # مديد النواحي مدلهم الجوانب
سللت عليه الحزم حتى جلوته # كما انجاب غيم العارض المتراكب
وعند ما كبر وقصر عن تصريف الأمور بدأ ولداه الرضي والمرتضى ينوبان عنه في بعض المهمات. وفي عام 369 ه/980 م قبض عضد الدولة البويهي على أبي أحمد الحسين الموسوي وعلى أخيه أبي عبد الله أحمد وعلى قاضي القضاة أبي محمد، وسيرهم الى فارس.
وظل أبو أحمد معتقلا سبع سنوات لأسباب بقيت مجهولة.
في هذه الأثناء كبر الرضي وتمرس في النظم والنثر، وترك قصائد
صفحة ٥
تتسم بالحزن والشكوى. ولما توفي عضد الدولة (372 ه/982 م) نشب الصراع بين ولديه شرف الدولة وصمصام الدولة، وآلت النتيجة الى انتصار شرف الدولة، فدخل بغداد ظافرا، وكان قد أطلق سراح الشريف الوالد ورفاقه وصحبهم الى مدينة السلام. فنظم الرضي قصيدة تعكس فرحه بحرية أبيه، ومما جاء فيها:
طلوع هداه إلينا المغيب # ويوم تمزق عنه الخطوب
لقيتك في صدره شاحبا # ومن حلية العربي الشحوب
قدمت قدوم رقاق السحاب # تخط والربع ربع جديب
فما ضحك الدهر إلا إليك # مذ بان في حاجبيه القطوب
ومدح شرف الدولة وشكره على ما عمله بقصيدة طويلة مطلعها:
أحظى الملوك من الأيام والدول # من لا ينادم غير البيض والأسل
ولما توفي والد الرضي أبو أحمد الموسوي رثاه شاعرنا بقصيدة طويلة مطلعها:
وسمتك حالية الربيع المرهم # وسقتك ساقية الغمام المرزم
أما أم الرضي فهي فاطمة بنت الحسين الناصر الذي عظم شأنه في أيام معز الدولة البويهي. وولي جده لأمه نقابة العلويين في بغداد بعد أن اعتزلها والد الرضي. وقد ذكره شاعرنا في إحدى قصائده عند ما أظهر طرفي المجد في نسبه قائلا:
أرد النوائب بالموسوي # وأعطي الرغائب بالناصر
وكان للنسب الشريف أثره في تكوين شخصية الرضي. ففي القرن الرابع الهجري كانت علية المجتمع البغدادي تنقسم إلى فئات: فئة تعتز بشرفها ونسبها ودمها كالعلويين والعباسيين والبويهيين والمهلبيين، وفئة تعتز بمناصبها كالوزراء والقادة ورؤساء الدواوين، وفئة تفاخر بعلمها ودينها وأدبها كالفقهاء والمتكلمين والأدباء. وكان الرضي في صميم الأسرة العلوية، وتأتيه القرشية الصريحة من رسول الله عن طريق ابنته
صفحة ٦
فاطمة، وهذا ما ترك فيه نفسا فاخرة طبعت أدبه بميسم خاص.
في سنة 406 ه/1016 م توفي الشريف الرضي وهو في أوج الشباب، بعد أن أصيب بمرض مفاجئ.
مؤلفاته:
كان عمر الشريف الرضي القصير حافلا بالنشاط، فقد كان يؤلف ويدرس وينظر في أمور الناس. ترك في النثر كتبا متنوعة الموضوعات لم يصلنا منها إلا القليل، وأهمها: أخبار قضاة بغداد، الحسن في شعر الحسين، خصائص الأئمة، فضائل أمير المؤمنين، الى جانب جمعه آثار الإمام علي في كتاب نهج البلاغة. غ
ديوانه:
نال شعر الشريف الرضي إعجاب الأدباء والنقاد. ويذكر أنه كان يجمع قصائده بنفسه، ثم اهتم ولده عدنان بجمع شعره. وقد أشار كارل بروكلمان الى أماكن مخطوطات الديوان في مكتبات العالم، في مصر وسوريا والعراق والمغرب وايران والهند. وقد طبع للمرة الأولى في بيروت ثم في القاهرة. غ
شعره:
عالج الشريف الرضي في شعره موضوعات المدح والرثاء والفخر والنسيب والوصف والهجاء والحكمة والزهد وسوى ذلك.
وللمديح نصيب كبير في الديوان، فقد كانت للشاعر صلاته بالخلفاء والملوك والوزراء. ومن الشخصيات التي مدحها نذكر شرف الدولة البويهي، والصاحب اسماعيل بن عباد وأخاه فخر الدولة، وأبا الحسين الناصر الصغير خال الشاعر، وأبا الفتح عثمان ابن جني النحوي، والخليفة العباسي الطائع لله، وبهاء الدولة وسواهم. أما أبرز المعاني المدحية فهي الشجاعة والكرم والعدل وسداد الرأي، وكان بصورة عامة اتباعيا، ويجنح الى المبالغة في بعض معانيه. وعلى العموم فانه ارتفع عن التكسب ولم يتزلف.
صفحة ٧
وعلى صعيد الرثاء يلاحظ المتتبع لشعر الشريف الرضي أنه أمام شاعر كثير البكاء على الراحلين من أقاربه وأصدقائه، دائم الحزن والألم بسبب ما فعلته الأيام بأهل بيته الطالبيين. وقد وجد في مأساة الحسين، صريع كربلاء، متنفسا لهمومه ومجالا للتعبير عن آلام الشيعة، فنهج في مراثيه للحسين منهجا جديدا إذ افتخر بأهل البيت وذكر قبورهم وتشوق إليها. والذين رحلوا في أيامه ورثاهم كثير والعدد، ومنهم:
الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، شرف الدولة البويهي، أبو القاسم الصاحب بن عباد، الطائع لله الخليفة، تقية بنت سيف الدولة الحمداني، بهاء الدولة البويهي وسواهم. ولم يكن رثاء الشريف الرضي بكاء وعويلا بقدر ما جاء تسجيلا للمناقب وتعدادا للفضائل. كما يركز على مصير الانسان وعدم جدوى البكاء، ويشدد على هول الفاجعة وأثرها، ويترك مجالا للتعزية والمؤاساة.
والفخر من الميادين التي جلى فيها الشريف الرضي، فافتخر بنفسه وآبائه. وجاءت اندفاعاته الحماسية وثوراته الملتهبة في الافتخار بالبطولة والأنفة ظاهرة عامة في ديوانه. وتعبر قصائده الفخرية عما يجيش به صدره من أمان وطموحات، وما انطوت عليه نفسه من أخلاق وملكات.
وشعر الشريف الرضي في النسيب غاية في الرقة وإفصاح عن الأخلاق العالية وعن النفس التي صقلها الوجد وهذبها الألم. وهو لم يتغزل بفحش وتهتك، ولم يتغن بمفاتن الجسد أو الجوانب الحسية من الجمال.
وله مجموعة قصائد غزلية سميت بالحجازيات نظمها في الحاجات اللواتي كن يقصدن الحجاز في مواسم الحج.
وتمتاز قصائد الشريف الرضي، على العموم، بطول النفس، وفيها توخى المطالع اللافتة، وجعل الأجزاء متماسكة، وعمد الى اختيار الألفاظ الموحية، كما تتوفر فيها الأفكار التي تساعد على إعطاء صورة عن العصر. ويغتني شعره كذلك بالصور المتنوعة التي كانت سمة طبعت العصر العباسي. غ
صفحة ٨
قافية الهمزة
نعم ما تنقضي
(الطويل)
نظم الشريف الرضي هذه القصيدة في مدح الخليفة الطائع لله، ويهنئه بعيد الأضحى سنة سبع وسبعين وثلاثمائة.
جزاء أمير المؤمنين ثنائي، # على نعم ما تنقضي وعطاء
أقام الليالي عن بقايا فريستي، # ولم يبق منها اليوم غير ذماء (1)
وأدنى أقاصي جاهه لوسائلي، # وشد أواخي جوده برجائي (2)
وعلمني كيف الطلوع إلى العلى # وكيف نعيم المرء بعد شقاء
وكيف أرد الدهر عن حدثانه # وألقى صدور الخيل أي لقاء
فما لي أغضي عن مطالب جمة # وأعلم أني عرضة لفناء
وأترك سمر الخط ظمأى خلية # وشر قنا ما كن غير رواء (3)
صفحة ٩
إذا ما جررت الرمح لم يثنني أب # يليح، ولا أم تصيح ورائي (1)
وشيعني قلب إذا ما أمرته # أطاع بعزم لا يروغ ورائي
أرى الناس يهوون الخلاص من الردى، # وتكملة المخلوق طول عناء
ويستقبحون القتل، والقتل راحة، # وأتعب ميت من يموت بداء
فلست ابن أم الخيل إن لم أعد بها # عوابس تأبى الضيم مثل إبائي
وأرجعها مفجوعة بحجولها # إذا انتعلت من مأزق بدماء (2)
إلى حي من كان الإمام عدوه # وصبحه من أمره بقضاء
هو الليث لا مستنهض عن فريسة # ولا راجع عن فرصة لحياء
ولا عزمه في فعله بمذلل، # ولا مشيه في فتكه بضراء (3)
هو النابه النيران في كل ظلمة # ومجري دماء الكوم كل مساء (4)
ومعلي حنين القوس في كل غارة # بسهم نضال أو بسهم غلاء (5)
فخار لو ان النجم أعطي مثله # ترفع أن يأوي أديم سماء
ووجه لو ان البدر يحمل شبهه # أضاء الليالي من سنى وسناء (6)
في هذا البيت، والأبيات السابقة، يظهر الشاعر ما كابده من مشقات وما اجتاز من عقبات، غير آبه بشيء، من أجل تحقيق هدفه وهو البلوغ الى الممدوح.
الناقة الضخمة، والبيت كناية عن الكرم.
صفحة ١٠
مغارس طالت في ربى المجد والتقت # على أنبياء الله والخلفاء
وكم صارخ ناداك لما تلببت # به السمر في يوم بغير ذكاء (1)
رددت عليه النفس والشمس فانثنى # بأنعم روح في أعم ضياء
وكم صدر موتور تطلع غيظه # وقلب قولا عن لسان مراء (2)
يغطي على أضغانه بنفاقه، # كذي العقر غطى ظهره بكفاء (3)
كررت عليه الحلم حتى قتلته # بغير طعان في الوغى ورماء
إذا حمل الناس اللواء علامة # كفاك مثار النقع كل لواء (4)
وجيش مضر بالفلاة كأنه # رقاب سيول أو متون نهاء (5)
كأن الربى زرت عليه جيوبها # وردته من بوغائها برداء (6)
وخيل تغالى في السروج كأنها # صدور عوال أو قداح سراء (7)
لها السبق في الضمات والسبق وخدها # إذا غطيت من نقعها بغطاء (8)
أي أنه ملجأ الضعفاء ومنجدهم في أوقات الضيق.
المنازعة.
غبار الحرب.
صفحة ١١
وليس فتى من يدعي البأس وحده # إذا لم يعوذ بأسه بسخاء (1)
وما أنت بالمبخوس حظا من العلى # ولا قانعا من عيشه بكفاء
نصيبك من ذا العيد مثلك وافر # وسعدك فيه مؤذن ببقاء
ولو كان كل آخذا قدر نفسه، # لكانت لك الدنيا بغير مراء
وما هذه الأعياد إلا كواكب # تغور وتولينا قليل ثواء (2)
فخذ من سرور ما استطعت وفز به # فللناس قسما شدة ورخاء
وبادر إلى اللذات، فالدهر مولع # بتنغيص عيش واصطلام علاء (3)
أبثك من ودي بغير تكلف # وأرضيك من نصحي بغير رياء
وأذكر ما أوليتني من صنيعة، # فأصفيك رهني طاعة ووفاء
أعني على دهر رماني بصرفه، # ورد عناني، وهو في الغلواء (4)
وحلأني عمن أعد بعاده # سقامي ومن قربي إليه شفائي (5)
فقدت، وفي فقد الأحبة غربة # وهجران من أحببت أعظم داء
فلا تطمعن، يا دهر، في، فإنه # ملاذي مما راعني، ووقائي
أرد به أيدي الأعادي، وأتقي # نوافذ شتى من أذى وبلاء
ألذ بقلبي من مناي تقنعي، # وأحسن عندي من غناي غنائي (6)
ومن كان ذا نفس تطيع قنوعة # رضي بقليل من كثير ثراء
فالعيد يأتي مرة في السنة ومعه يفسح المجال أمام لذات قد تعقبها مرارة.
صفحة ١٢
حدوا بالمطايا يوم جالت غروضها # ويوم اتقت ركبانها برغاء (1)
تؤمك لا تلوي على كل روضة # يصيح بها حوذانها، وأضاء (2)
ولا تشرب الأمواه إلا تعلة، # إذا عثرت أخفافهن بماء
لها سائق يطغى عليها بسوطه # ويشدو على آثارها بحداء
غلام كأشلاء اللجام تجيزه # صدور القنا والبيض كل فضاء (3)
إذا بلغت ناديك نال رفاقها # عريض عطاء من طويل ثناء
ومثلك من يعشى إلى ضوء ناره # ويلفى قراه عند كل خباء (4)
وما كل فعال الندى بشبائه، # ولا كل طلاب العلى بسواء (5)
بهاء الملك
(الوافر)
نظم هذه القصيدة في شهر رمضان من سنة 381 وبها يمدح الملك بهاء الدولة ويهنئه بشهر الصيام.
بهاء الملك من هذا البهاء، # وضوء المجد من هذا الضياء
وما يعلو على قلل المعالي، # أحق من المعرق في العلاء
صفحة ١٣
ولا تعنو الرعاة لذي حسام، # إذا ما لم يكن راعي رعاء (1)
وما انتظم الممالك مثل ماض # يتم له القضاء على القضاء
إذا ابتدر الرهان مبادروه، # تمطر دونهم، يوم الجزاء (2)
وإن طلب الندى خرجت يداه # خروج الودق من خلل الغماء (3)
حذار، إذا تلفع ثوب نقع، # حذار، إذا تعمم باللواء (4)
حذار من ابن غيطلة مدل، # يسد مطالع البيد القواء (5)
إذا ألقى على لهوات ثغر # يدي غضبان مرهوب الرواء (6)
تمر قعاقع الرزين منه # كمعمعة اللهيب من الأباء (7)
ومطراق على اللحظات صل # مريض الناظرين من الحياء
تنكس كالأميم، فإن تسامى # مضى كالسهم شذ عن الرماء (8)
صفحة ١٤
وما ينجي اللديغ به تداو، # وقد أمسى بداء أي داء (1)
ولا قضب الرجال الصيد فضلا # عن الأصوات في حلي النساء (2)
ويوم وغى على الأعداء هول # تماز به السراع من البطاء (3)
رميت فروجه حتى تفرى # بأيدي الجرد والأسل الظماء (4)
فمن غلب كأنهم أسود # على قب ضوامر كالظباء (5)
ومن بيض كأن مجرديها # يمرون الأكف على الأضاء (6)
نواحل لم يدع ضرب الهوادي # بها أبدا مكانا للجلاء (7)
ومن هاو ترنح في العوالي، # وعار قد أقام على العراء (8)
وآخر مال كالنشوان مالت # بهامته شآبيب الطلاء (9)
وعدت وقد خبأت الحرب عنه # إلى سلم الرغائب والعطاء
الغدران.
الخمر، وفي البيت مراعاة للنظير.
غ
صفحة ١٥
فيوم للمكارم والعطايا # ويوم للحمية والإباء (1)
تقود الخيل أرشق من قناها # شوازب كالقداح من السراء (2)
بغارات كولغ الذئب تترى، # على الأعداء بينة العداء (3)
عزائم كالرياح مررن رهوا، # على الأقطار من دان وناء (4)
وقلب كالشجاع يسور عزما # ويجذب بالعلى جذب الرشاء (5)
وكف كالغمام يفيض حتى # يعم الأرض من كلأ وماء (6)
ووجه ماج ماء الحسن فيه # ولاح عليه عنوان الوضاء (7)
يشارك في السنى قمر الدياجي # ويفضله بزائدة السناء (8)
ومعتلج الجلال نزعت عنه، # على عجل، رداء الكبرياء (9)
فأصبح خارجا من كل عز # خروج العود بز من اللحاء (10)
وحزت جمام نعمته وكانت # غمارا لا تكدر بالدلاء (11)
صفحة ١٦
برأي ثقف الإقبال منه، # فأقدم كالسنان إلى اللقاء (1)
إذا أشر القريب عليك فاقطع # بحد السيف قربى الأقرباء (2)
وكن إن عقك القرباء ممن # يميل على الأخوة للإخاء
فرب أخ خليق بالتقالي، # ومغترب جدير بالصفاء (3)
ولا تدن الحسود، فذاك عر # مضيض لا يعالج بالهناء (4)
كفاك نوائب الأيام كاف # طرير العزم مشحوذ المضاء (5)
أمين الغيب لا يوكى حشاه # لآمنه على الداء العياء (6)
أقام ينازل الأبطال، حتى # تفلل كل مشهور المضاء
إزاء الحرب يعتنق العوالي، # ويغتبق النجيع من الدماء
إذا ما قيل: مل، رأيت منه # نوازع تشرئب إلى اللقاء (7)
فجربني تجدني سيف عزم # يصمم غربه، وزناد راء (8)
وأسمر شارعا في كل نحر # شروع الصل في ينبوع ماء (9)
إذا علقت يداك به حفاظا، # ملأت يديك من كنز الغناء (10)
صفحة ١٧
يعاطيك الصواب بلا نفاق، # ويمحضك السداد بلا رياء
جري يوم تبعثه لحرب، # وقور يوم تبحثه لراء (1)
إذا كان الكفاة لذا عبيدا، # فذا كافي الكفاة، بلا مراء
بهاء الدولة المنصور إني # دعوتك بعد لأي من دعائي (2)
وكنت أظن أن غناك يسري # إلي بما تبين من غناء
فلم أنا كالغريب وراء قوم # لو اختبروا لقد كانوا ورائي
بعيد عن حماك ولي حقوق # قواض أن يطول به ثوائي (3)
أأبلى ثم يبدو باصطناعي، # كفاني ما تقدم من بلائي (4)
وذبي عن حمى بغداد قدما # بفضل العزم والنفس العصاء (5)
غداة أظلت الأقطار منها # مضرجة تبزل بالدماء
دخان تلهب الهبوات منه، # مدى بين البسيطة والسماء (6)
صبرت النفس ثم على المنايا # إلى أقصى الثميلة والذماء (7)
رجاء أن تفوز قداح ظني، # وتلوي بالنجاح قوى رجائي
ولي حق عليك، فذاك جدي # قديم في رضاك وذا ثنائي
ومن شيم الملوك على الليالي # مجازاة الولي على الولاء
سيبلو منك هذا الصوم خرقا # رحيب الباع فضفاض الرداء (8)
الواسع.
صفحة ١٨
تصوم فلا تصوم عن العطايا # وعن بذل الرغائب والحباء
ألا فاسعد به، وبكل يوم # يفوقه الصباح إلى المساء
ودم أبد الزمان، فأنت أولى # بني الدنيا بعارية البقاء
علي الجد، مقترب الأماني، # عزيز الجار، مطروق الفناء (1)
السابقون
(الوافر)
أيا لله!أي هوى أضاء # بريق بالطويلع إذ تراءى
ألم بنا كنبض العرق وهنا، # فلما جازنا ملأ السماء (2)
كأن وميضه أيدي قيون # تعيد على قواضبها جلاء (3)
طربت إليه، حتى قال صحبي # لأمر هاج منك البرق داء
ولم يك قبلها يقتاد طرفي، # ولا يمضي بلبي حيث شاء
خليلي اطلقا رسني، فإني # أشدكما على عزم مضاء
أبت لي صبوتي إلا التفاتا # إلى الدمن البوائد وانثناء (4)
فإن تريا، إذا ما سرت، شخصي # أمامكما، فلي قلب وراء
وربت ساعة حبست فيها # مطايا القوم أمنعها النجاء
وهو يستهلها بالوقوف على الاطلال على طريقة القدماء.
صفحة ١٩
على طلل كتوشيع اليماني # أمح، فخالط البيد القواء (1)
قفار لا تهاج الطير فيها، # ولا غاد يروع بها الظباء
فيا لي منه يصبيني أنيقا # بساكنه، ويبكيني خلاء
أنادي الركب: دونكم ثراه # لعل به لذي داء دواء
تساقين التذكر، فانثنينا # كأنا قد تساقين الطلاء (2)
وعجنا العيس توسعنا حنينا، # تغنينا، ونوسعها بكاء (3)
إلى كم ذا التردد في التصابي، # وفجر الشيب عندي قد أضاء
فيا مبدي العيوب سقى سوادا # يكون على مقابحها غطاء
شبابي إن تكن أحسنت يوما، # فقد ظلم المشيب، وقد أساء
ويا معطي النعيم بلا حساب، # أتاني من يقتر لي العطاء
متاع أسلفتناه الليالي، # وأعجلنا، فأسرعنا الأداء
تسخطنا القضاء، ولو عقلنا # فما يغني تسخطنا القضاء
سأمضي للتي لا عيب فيها، # وإن لم أستفد إلا عناء
وأطلب غاية إن طوحت بي، # أصابت بي الحمام أو العلاء
أنا ابن السابقين إلى المعالي، # إذا الأمد البعيد ثنى البطاء
إذا ركبوا تضايقت الفيافي، # وعطل بعض جمعهم الفضاء
نماني من أباة الضيم نام، # أفاض علي تلك الكبرياء
شأونا الناس أخلاقا لدانا، # وأيمانا رطابا، واعتلاء (4)
صفحة ٢٠
ونحن النازلون بكل ثغر، # نريق على جوانبه الدماء
ونحن الخائضون بكل هول # إذا دب الجبان به الضراء (1)
ونحن اللابسون لكل مجد # إذا شئنا ادراعا وارتداء
أقمنا بالتجارب كل أمر # أبى إلا اعوجاجا والتواء
نجر إلى العداة سلاف جيش # كعرض الليل يتبع اللواء (2)
نطيل به صدى الجرد المذاكي # إلى أن نورد الأسل الظماء (3)
إذا عجم العدا أدمى وأصمى # وطير عن قضيبهم اللحاء (4)
عجاج ترجع الأرواح عنه # فلا هوجا يجيز ولا رخاء (5)
شواهق من جبال النقع ترمي # بها أبدا غدوا أو مساء (6)
وغر آكل بالغيب لحمي، # وإن لأكله داء عياء (7)
يسيء القول إما غبت عنه، # ويحسن لي التجمل واللقاء
عبأت له وسوف يعب فيها # من الضراء آنية ملاء (8)
مرحلة من الليل، وفي القول تشبيه الجيش بالعتمة التي تلف كل شيء.
ما تم سنه من الخيل وكملت قوته-الأسل: الرماح، وقوله: الى أن نورد الأسل الظماء، يعني: إلى أن نروي الرماح بالدماء.
صفحة ٢١
ومنا كل أغلب مستحين # إن انت لددته بالذل قاء (1)
إذا ما ضيم نمر صفحتيه، # وقام على براثنه إباء (2)
وإن نودي به، والحلم يهفو، # صغا كرما إلى الداعي، وفاء (3)
ونأبى أن ينال النصف منا، # وأن نعطي مقارعنا السواء (4)
ولو كان العداء يسوغ فينا، # لما سمنا الورى إلا العداء (5)
العيون تجانب الأقذاء
(الكامل)
نظم الشريف الرضي هذه القصيدة في رثاء أبي الفتح، ابن الخليفة الطائع لله، ويعزي فيها الخليفة ويمدحه، وذلك في سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
أي العيون تجانب الأقذاء، # أم أي قلب يقطع البرحاء (6)
والموت يقنص جمع كل قبيلة، # قنص المريع جآذرا وظباء (7)
صفحة ٢٢
يتناول الضب الخبيث من الكدى # ويحط من عليائها الشغواء (1)
تبكي على الدنيا رجال لم تجد # للعمر من داء المنون شفاء
والدهر مخترم تشن صروفه، # في كل يوم، غارة شعواء
إنا بنو الدنيا تسير ركابنا، # وتغالط الإدلاج والإسراء (2)
وكأننا في العيش نطلب غاية، # وجميعنا يدع السنين وراء
أين المقاول، والغطارفة الأولى # هجروا الديار، وعطلوا الأفناء (3)
فاخلط بصوتك كل صوت واستمع # هل في المنازل من يجيب دعاء
واشمم تراب الأرض تعلم أنها # جرباء تحدث كل يوم داء
كم راحل وليت عنه، وميت # رجعت يدي من تربه غبراء
وكذا مضى قبلي القرون يكبهم # صرف الزمان تسرعا ونجاء (4)
هذا أمير المؤمنين، وظله # يسع الورى، ويجلل الأحياء
نظرت إليه من الزمان ملمة، # كالليث لا يغضي الجفون حياء (5)
صفحة ٢٣
وأصابه صرف الردى برزية، # كالرمح أنهر طعنة نجلاء (1)
ما ذا نؤمل في اليراع، إذا نشت # ريح تدق الصعدة الصماء (2)
عصف الردى بمحمد ومذمم، # فكأنما وجد الرجال سواء
ومصاب أبلج من ذؤابة هاشم # ولج القبور وأزعج الخلفاء
وتر الردى من لو تناول سيفه، # يوما، لنال من الردى ما شاء (3)
غصن طموح عطفته منية # للخابطين، وطاوع النكباء (4)
يا راحلا ورد الثرى في ليلة # كاد الظلام بها يكون ضياء
لما نعاك الناعيان مشى الجوى # بين القلوب وضعضع الأحشاء
واسود شطر اليوم ترجف شمسه # قلقا، وجر ضياؤه الظلماء
وارتج بعدك كل حي باكيا، # فكأنما قلب الصهيل رغاء
قبر تشبث بالنسيم ترابه # دون القبور، وعقل الأنواء
تلقاه أبكار السحاب وعونها، # تلقى الحيا، وتبدد الأنداء (5)
متهلل الجنبات تضحك أرضه، # فكأن بين فروجه الجوزاء
القناة.
أمالته-الخابطون: الذين يخبطون الشجر بعصيهم. تبرز في البيت صورة قائمة على مراعاة النظير، كما ينتقل، في البيت التالي، الى مخاطبة الميت عن طريق الالتفات.
صفحة ٢٤