138

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

تصانيف

بين يدي الآن نسخة من هذه الترجمة المطبوعة في باريس سنة 1827، وأنا سأستند إلى هذه النسخة في تلخيص وعرض آراء ونظريات فيكو في فلسفة التاريخ.

2

يتألف العلم الجديد من خمسة كتب؛ الأول في الأسس والمبادئ، والثاني في الحكمة الشعرية، والثالث في اكتشاف حقيقة هوميروس، والرابع في المجرى الذي يسير فيه تاريخ الأمم، والخامس في عودة الانقلابات وتكررها عند انبعاث الأمم بعد انقراضها. (1)

يبدأ فيكو فصول الكتاب الأول ب «لوحة قرونولوجية»، يستعرض فيها أهم وقائع التاريخ، من خلقة العالم، إلى الحرب البونية الثانية.

يعتمد المؤلف في هذا الباب على روايات التوراة وتفاسيرها، فيؤرخ الوقائع بتاريخ الخليقة، فيذكر مثلا أن الطوفان قد حدث سنة 1656 بعد الخليقة، وأن حروب طروادة نشبت سنة 2720 من التاريخ المذكور، كما أن مدينة روما أسست سنة 3252 بعد الخليقة، وأما الحرب البونية الثانية - التي تنتهي بها اللوحة القرونولوجية المذكورة - فقد حدثت سنة 3749 من تاريخ خلقة العالم، وسنة 552 من تاريخ تأسيس روما. (2)

يدعي فيكو في هذا الفصل وفي الفصول الأخرى من الكتاب، أن أقدم الأمم هم العبران، ولا يسلم بالقدم الذي «يعزوه المؤرخون» إلى المصريين والآشوريين والصينيين. ويقول: إن مزاعم المؤرخين في هذا الصدد لا تستند إلى أساس قويم، في الواقع إن المصريين يذكرون في تواريخهم من الوقائع ما يعود إلى زمن أقدم من الأزمنة المذكورة آنفا، غير أن ذلك ليس إلا من نوع الأحاديث الخرافية التي لا يجوز الركون إليها بوجه من الوجوه؛ «إذ لا يوجد في دين المصريين وحضارتهم ما يدل على مثل هذا القدم المزعوم. يعلمنا القديس كليمانت الإسكندري بأن كتبهم المقدسة كانت مملوءة بأفظع الأغلاط في الفلسفة والفلك، كما أن طبهم كان نسيجا من التوافه والتضليلات، وأما أخلاقهم فكانت متفسخة جدا؛ لأنها كانت تسمح بالفحش، حتى إنها كانت تحترمه وتقدسه أيضا في بعض الأحيان، كما أن لاهوتهم كان من نوع الخرافات والسحريات، حتى إن صناعتي السكب والنحت أيضا كانتا عندهم في حالة الطفولة تماما. ولا عبرة في هذا الباب بعظمة الأهرام؛ لأن العظمة ليست من الأمور التي لا تأتلف مع البربرية.»

ولذلك كله يؤكد فيكو بأن العبران أقدم من المصريين والصينيين وسائر الأمم جميعا.

هذه قضية ثابتة في نظر فيكو لا يمكن تفنيدها بحجة «أن التواريخ القديمة - غير المقدسة - لم تذكر اسم العبرانيين إلا في وقت متأخر نسبيا»؛ لأن عدم ذكرهم في تلك التواريخ قد نشأ من سبب جلي تماما؛ إنهم كانوا يعيشون عيشة اعتزال، ولذلك بقوا مجهولين لدى الأمم المجاورة لهم مدة طويلة، فإن المؤرخ الإسرائيلي يوسف كان يعترف بأن العبرانيين بقوا مجهولين مدة قرون طوال، وكان يعلل ذلك بقوله: «نحن لا نسكن السواحل، نحن لا نحب أن نتاجر مع الأجانب؛ ولهذا السبب لم نخالط الأمم الأخرى.»

كان بطلميوس فيلادلفي قد تساءل مستغربا: «لماذا لم يقدم أحد من المؤرخين والشعراء القدماء على ذكر قوانين موسى؟» غير أن «ديميتريوس» اليهودي كان قد أزال استغرابه هذا قائلا: إن الذين حاولوا نقل أخبار العبران إلى الأجانب عوقبوا على محاولتهم هذه معاقبة شديدة، بمعجزة من الله بصورة خارقة للعادة. مثلا إن «تيودكت» حرم من نعمة البصر من جراء ذلك، كما أن «تيوبومب» أضاع شعوره للسبب نفسه.

إن فيكو يصدق كل هذه الروايات، ويشترك مع «لاكتانس» في تعليل ذلك بقوله: «لا شك في أن العناية الإلهية شاءت بذلك أن تحول دون تدنس دين الله الحقيقي، باختلاط شعبه المختار مع الأجانب» (ص19). (3)

صفحة غير معروفة