وأما البرهان: فهو أن يعرف فساد هذا الدليل، وفيه أصلان: أحدهما: أن الدنيا حاضرة، والآخرة منتظرة وهذا صحيح. والآخر: أن الحاضر، خير من المنتظر، وليس كذلك بل إن كان الحاضر مثل المنتظر في المقدار، فهو خير وإن كان أقل منه، فالمنتظر خير. فإن غير المغرور، يبذل في تجارته درهما، ليأخذ عشرة منتظرة، ولا يقول: الحاضر خير من المنتظر، فلا أتركه. وإذا حذره الطبيب، من أكل الفواكه، ولذائذ الأطعمة، ترك ذلك في الحال. خوفا من ألم المرض، في المستقبل، فقد ترك الحاضر ورضى بالمنتظر.
والتجار كلهم يركبون البحار، ويتعبون في الأسفار، حاضرا، لأجل الربح والراحة في المستقبل، فإن كان عشرة في المستقبل خيرا من واحد في الحاضر. فأنسب لذة الدنيا، منى حيث مدتها إلى مدة الآخرة فإن غاية عمر الإنسان مائة سنة، وليس هو عشر عشر، من جزء، من مائة ألف ألف جزء، من الآخرة فإنه ترك واحدا ليأخذ ألف الف بل يأخذ ما لا نهاية له، ولا حد، وإن نظر من حيث اللذة، رأى لذة الدنيا مكدرة، مشوبة بأنواع المنغصات. ولذة الآخرة صافية، غير مكدرة، فإذا: أنه غلط في قوله: الحاضر خير من المنتظر.
وأما الدليل الآخر، وهو قوله: اليقين خير من الشك، والدنيا يقين، فهو أكثر فسادا من الأول، إذ اليقين، خير من الشك، إذا كان مثله. وإلا فالتاجر - في تعبه - على يقين، وفي ربحه على شك. والمتعلم في اجتهاده وتعبه على يقين، وفي إدراكه رتبة العلماء على شك والصياد، في تردده في مواضع الصيد، على يقين وفي الظفر بالصيد،على شك وكل هذا ترك لليقين بالشك، ولكن التاجر يقول: إن لم أتجر بقيت جائعا وإن اتجرت، كان تعبي قليلا، وربحي كثيرا وكذلك المريض يشرب الدواء المر، وهو ما لشفاء، على شك ومن مرارة الدواء، على يقين لكن يقول: ضرر مرارة الدواء قليل، بالنسبة إلى ما أخافه، من المرض والموت، فكذلك، من شك فيما قاله الأنبياء، في الآخرة، بعد الموت، فلازم له، بحكم العقل، والحزم الذي هو دأب العقلاء، أن يقول: الصبر أياما قلائل - وهو مدة العمر - قليل، بالنسبة إلى ما يقال، من أمور الآخرة، فإن كان ما قيل، كذبا فلا تفوتني إلا الراحة، والتنعم أيام عمري. وإن كان ما قيل صدقا، فأبقى في النار، أبد الآباد، وهذا لا يطاق ولهذا قال بعض المصدقين للأنبياء لبعض المكذبين: يا هذا!! إن كان الذي قلته أنت حقا فقد تخلصت وتخلصنا. وأن كان الذي قلته أنا حقا فقد تخلصنا، وهلكت أنت .
وأما الأصل الثاني وهو أن الآخرة شك فهو خطأ، بل هو يقين عند العقلاء. وطريق زوال هذا الغرور، هو التصديق للأنبياء والعلماء، بوجود الآخرة، وما أعد الله فيها للمطيعين والعاصين ومثاله، مثال المريض لا يعرف دواء علته وقد اتفق الأطباء كلهم: على أن دواءه النبت الفلاني فإن المريض يصدقهم، ولا يطالبهم بالبرهان على صحة قولهم. بل يتيقن بقولهم ويعمل به، ولو بقي معتوه أو صبي، يكذبهم في ذلك إذ المريض يعلم أنهم أكثر عددا، ممن كذبهم. وأعظم منه فضلا، وأعلم منه بالطب، ولو ركن المريض إلى قول المعتوه، وترك قول الأطباء، كان معتوها مغرورا فكذلك من نظر إلى المقرين بالآخرة، والمصدقين بها، وجدهم أعلى الناس رتبة، في العقل والمعارف. ووجد المكذبين بالآخرة، أخس الناس، من البطالين، الذين غلبت عليهم الشهوات البهيمية. فكما أن قول المعتوه، لا يزيل ثقة القلب، بما اتفق عليه الأطباء فكذلك قول هؤلاء البطالين، الذين بقوا محبوسين، في مدركات الحواس، لا يشكك في قول الأنبياء والعلماء.
الباب الثالث
صفحة ٢٠