ولما عجز قواد عساكر الجزار عن الفوز بالمرام كتبوا في ذلك إلى الجزار، فاسترجع الجزار العساكر إليه فرجعت، وكان معها الأمير بشير وأخوه الأمير حسن والشيخ قاسم جانبلاط، فأمر الجزار الأمير بشيرا أن يقيم بصيدا وأخاه ببيروت، وجعل الشيخ قاسما بعكة محجورا عليه ولكن مكرما، ومنع الأقوات عن الجبل، ثم أرسل أرباب المناصب إلى الجزار يسترضونه ويلتمسون منه أن يولي عليهم الأميرين الأمير حيدر والأمير قعدان، على أنهم يقومون بأداء الأموال الأميرية على حسب المعتاد أربعة آلاف كيس منجمة على ست سنين، فأجابهم الجزار أن أرسلوا إلي أربعة من الوجوه؛ فأرسلوا له اثنين، فسألهما عن مقدار ما أخذه الأمير بشير من البلاد من الأموال وعن الأسباب التي أوجبت العصيان، فقالا إنهما لا يعلمان شيئا من ذلك؛ فردهما وراسل يستحضر لديه الشيخ عبد الله القاضي البيصوري، فخشي هذا الغدر وتمارض، فوجه الأميران بدلا منه ثلاثة من الوجوه، فلما وقف هؤلاء بين يدي الجزار؛ قال لهم: «إنني كففت الحرب عن أهل البلاد شفقة عليهم، ولكنني بسبب عصيانهم أنفقت على العساكر أموالا كثيرة، فإن دفع إلي الأميران مقدار ما أنفقت خلعت عليهما خلعة الولاية.» فاتفق الأميران مع الجزار على أن تكون نفقة العساكر خمسين ألفا من الغروش، وأرسلا إليه قبل ذهابه إلى الحج عشرين ألفا منها وأربعة من الخيل الجياد وصكا بأربعة آلاف كيس منجمة على ست سنين؛ فولاهما وأمر باعتقال الأمير بشير في صيدا وأخيه الأمير حسن في بيروت، وأبطل منع الأقوات عن الجبل ثم مضى للحج، أما الأميران فأرسلا في غيابه المجموع من الأموال الأميرية إلى قائمقام دمشق، واستحصلا من والي طرابلس على ولاية بلاد جبيل، فسارا إلى جبيل لجمع الأموال الأميرية، وقد زادا في القدر المضروب من المال نصفه، وفي مقدار الجزية غرشين، وحاسبا وكيل الأمير بشير على ما بيده من المال المقبوض وأخذاه منه، ثم قتلاه شنقا.
وفي سنة 1792 وقعت فتنة بين الأميرين حيدر وقعدان وبين الشيخ بشير جانبلاط، وقد تشيع لهذا الشيخ بعض الأمراء اللمعيين، فخشي الأميران أن يكون ذلك بدسيسة من الأمير بشير ليخلعهما من الولاية ويتبوأ مكانهما؛ فتلافيا الأمر بالملاينة والموادعة حتى جرت المصالحة بين الأميرين الواليين وبين خصومهما، وحدث حينئذ أن جرجس باز مدير أبناء الأمير يوسف والأمير حسين والأمير سعد الدين والأمير سليم، وهو رجل ماروني من دير القمر كان على جانب كبير من سعة الإدراك سامي المكانة نافذ الكلمة التمس من الأميرين الواليين أن يوافقاه على أن تكون ولاية بلاد جبيل للأمراء أبناء الأمير يوسف، على أن يدفع في كل عام خمسة وسبعين ألف غرش، فوافقاه على ذلك؛ فبعث يلتمس من والي طرابلس خلعة ولاية بلاد جبيل لمواليه؛ فاستجيب التماسه، وجعل هذا المدبر يمهد القلوب لمحبة مواليه ويستميل الأنفس إلى موالاتهم بكثرة البذل والسخاء، ثم استحصل لهم من الجزار على ولاية جبل الشوف، وذلك برضا الأميرين حيدر ملحم وقعدان اللذين كانا يعاونانهم في أوقات الاضطراب والفتنة، حتى إنهما كتبا إلى الجزار يخبرانه أن ما كان يقع من الاضطراب إنما كان بدسيسة من الأمير بشير وأخيه الأمير حسن، فاستحضر الجزار الأمير بشيرا وأخاه إلى عكة، ثم وجههما إلى الناصرة ومضى في سبيله للحج، فاستقر الأمير حسين يوسف بدير القمر وأخوه الأمير سعد الدين بجبيل، وكان الأمير سليم أخوهما لم يزل حديث السن، ولكن لما آب الجزار من الحج عاد الأمير بشير ففاز منه بخلع ابني الأمير يوسف من الولاية وتوليته عليها بدلا منهما، وقد حدث في سبيل استوائه عليها مقاومات، وجرت له مواقع مع خصومه قهرهم فيها، ثم عفا عن الأمير حيدر ملحم وعن الأمير قعدان، وتعقب ابني الأمير يوسف، ولكن لم يستقم له الأمر في الولاية؛ إذ وشي فيه لدى الجزار وشاية أفضت إلى خلعه من الولاية واسترجاع الأمير حسين واليا بدير القمر والأمير سعد الدين بجبيل، وإذ حدثت فتنة بعد عودتهما إلى الولاية وعزي السبب فيها إلى الأمير بشير سجن الجزار الأمير بشيرا وأخاه بعكة، واعتقل الشيخ بشير قاسم جانبلاط وفارس ناصيف مدبر الأمير.
وفي سنة 1795 أرجع الجزار عند إيابه من الحج الولاية إلى الأمير بشير بعد أن عهد له أن يدفع إليه ثلاثمائة ألف غرش منجمة على ست عشرة سنة، وكان الشيخ بشير قاسم نافذ الكلمة عند الأمير مقبول الرأي، فجرت للأمير عدة وقائع مع ابني الأمير يوسف كان النصر له فيها، وقد تعقب الأميرين ابني الأمير يوسف إلى حد طرابلس حيث نزلا على متسلمها (عاملها) فاضل آغا رعد، وقد مهد الشيخ بشير لبني الدحداح عند الأمير سبيل الرضا عنهم، وربما كان ذلك بسعي مدبر الشيخ بشير سلوم الدحداح، فجعلهم الأمير كتبة عنده وعند أخيه، وقد عفا الأمير عن كثير ممن جهروا بالمناوأة له وذلك بشفاعة الشيخ بشير لديه، ولما عاد والي طرابلس خليل باشا من الحج ووقف على ما جرى في غيابه بين الأمير بشير وبين أبناء الأمير يوسف خلع على الأمير سليم خلعة ولاية بلاد جبيل وعززه بعسكر إلى البترون، فوقعت بينه وبين الأمير بشير حروب كان النصر فيها للأمير بشير، وكان خليل يعزز الأمير سليما بالعساكر من جيش الجزار، ولكن الغلبة كانت في غالب الأحيان للأمير بشير. ومع ذلك كله فلم يستقر له الأمر؛ لأن أبواب الفتنة كانت دائما مفتوحة وأسباب الوشاية موجودة والمنافسة بين أنداد الولاية في الجبل لدى الجزار في استرضائه زيادة الضريبة جارية في مجراها، فقيل للجزار عن الأمير بشير إنه ذو ميل إلى الفرنساويين، الذين كانوا حينئذ في مصر يتولى أمرهم نابوليون بونابارت الشهير، وكان في عزم ولي أمرهم هذا أن يغشى الديار السورية برجاله، فمال الجزار إلى خلع الأمير بشير وتولية أبناء الأمير يوسف بدلا منه، وجهز لهؤلاء الأمراء عسكرا يمكنهم من استلام زمام الولاية، ولكن عاد فوقف عن إنفاذ إرادته. ولما كانت سنة 1799 ظهر بونابارت بعسكره عند عكة يريد فتحها وهو واثق أنها باب لسورية، فزحف إليها برا، وكان عسكره لا يزيد عن ثمانية آلاف مقاتل، وقدمت حينئذ سفن الإنكليز إلى تلك المدينة تبغي وقايتها من الفرنساويين، فجعل الجزار يتأهب للمدافعة، وبعث إلى الأمير يستنجده بعسكر من لبنان، فأجابه أن اللبنانيين لا ينقادون له ما داموا عالمين بأن الولاية عليهم قد دفعت إلى يد أبناء الأمير يوسف؛ فغضب الجزار من هذا الجواب.
ولكن الأمير كما امتنع عن نجدة الجزار امتنع كذلك عن نجدة بونابارت؛ إذ كتب إليه بونابارت يستنجده فلم يجبه؛ فكتب إليه ثانية يعاتبه على الإمساك عن الجواب، فوقع الكتاب هذه المرة في يد متسلم صيدا، فبعث به في الحال إلى الجزار، فلما رآه الجزار خفض من غضبه على الأمير وكتب إليه أيضا يسأله أن يرسل إليه عسكرا، فأجابه أيضا أن ذلك غير متأت له، ثم مهد الأمير لنفسه سبيل المصادفة مع أمير السفن الإنكليزية سميث، فجرت المودة بينهما ووعده سميث أن يزيل من قلب الجزار ما كمن من النفرة منه، ولكن لم يتيسر له ذلك؛ فإن الجزار بعد سفر الأسطول الإنكليزي من عكة عزم على تولية أبناء الأمير يوسف بدلا من الأمير بشير، فجعل الأمير يلتمس الطرق لتعزيز نفسه في الولاية، وكاشف في ذلك أرباب المناصب ولا سيما صديقه الشيخ بشير جانبلاط.
واتفق حينئذ أن الصدر الأعظم يوسف باشا ضيا قدم إلى الديار السورية، فبذل الأمير ما في وسعه لاسترضاء هذا الصدر واستمالته إليه، فمال الصدر إليه وأنعم عليه بخلع الولاية على جبل لبنان ووادي التيم وبلاد بعلبك والبقاع وبلاد المتاولة على أن يبقى واليا بأمر الدولة أبدا، وأن لا يكون لأحد من الوزراء سلطة عليه، وأن يكون توريد الأموال الأميرية من يده إلى خزانة الدولة مباشرة، ولكن مع ذلك لم يستقر له الأمر.
ومع أنه كان معضدا من الصدر الأعظم ووزراء الدولة لم يقو على احتمال مقاومة الجزار له على يد أبناء الأمير يوسف؛ فاضطر لذلك أن يخرج من لبنان، وذهب بعد وقائع جرت بينه وبين أبناء الأمير يوسف معززين من الجزار إلى الإسكندرية على سفينة خصوصية بعث بها إليه سميث الإنكليزي، وخلا الجو حينئذ لأبناء الأمير يوسف. ولما وصل الأمير بشير إلى الإسكندرية أكرمه سميث، وخرج الأمير مع سميث إلى البر لمقابلة الصدر الأعظم حيث كان معسكرا بجنوده؛ فرحب الصدر بالأمير وطيب خاطره ووعده بقضاء حاجته، وكان سميث يطنب بالأمير لدى الصدر ويظهر صدق خدمته للدولة، ولما انعقد الصلح بين الفرنساويين والصدر الأعظم على أن الفرنساويين يرجعون إلى ديارهم غادر الأمير الديار المصرية مع سميث وأتى إلى قبرس، وقد مر في طريقه إليها ببيروت، فعلم من قنصل الإنكليز بها بشيء مما جرى في لبنان في غيابه، ولما وصل إلى قبرس ساعده سميث بالمال وبقي الأمير هناك نصف سنة، وكانت ترد عليه الكتب الخطيرة الشأن وهو يطلع سميث عليها، ثم رجع الأمير ثانية مع سميث إلى الإسكندرية ومن ثم رجع إلى سورية، فخرج من البحر إلى النهر البارد عند طرابلس، ثم سار إلى الحصن ونزل على علي بك الأسعد، وجعلت الكتب ترد عليه سرا من جميع أرباب المناصب إلا العماديين، وكان اللبنانيون قد سئمت نفوسهم من حكومة الأميرين ابني الأمير يوسف وكثرة مظالمهما في استحصال الأموال استرضاء للجزار، ومالوا إلى الأمير بشير كما كانت عادتهم فيما مضى من اتخاذ أنداد للوالي عليهم كلما رزحوا تحت أعباء الضرائب الفادحة، والسبب في ذلك كله هو لا شك ظلم الجزار وكلفه بتكليف الناس فوق طاقتهم من الضرائب والمكوس، حتى إن رضاه ما كان يناله إلا من يشتريه بثمن من الأموال فاحش. وقد عتا الجزار إلى حد أنه قاوم وزراء الدولة، كما تبين لك ذلك، وخالف أوامر عظماء رجالها.
ولما أحس الأمير بأن اللبنانيين مائلون إليه تغلغل في بلادهم، وجعل يمهد لنفسه سبيل العود إلى الولاية، فبلغ مرامه بعد وقائع كثيرة جرت بين رجاله ورجال مشايعيه وبين الأميرين ابني الأمير يوسف وجنودهما من عساكر الجزار، ثم اتفق الأمير بشير مع نديه الأمير حسين والأمير سعد الدين ومدبرهما جرجس باز على أن تكون الولاية العامة للأمير بشير، وأن يكون الأميران واليين على بلاد جبيل، وكتبت في ذلك وثيقة وجرت المصالحة بين الفريقين، فلما علم الجزار بذلك الاتفاق امتلأ قلبه غيظا وحنقا حتى إنه لما التمس منه العماديون في سنة 1801 أن تكون الولاية للأمير عباس أسعد أجاب التماسهم، ولما عارضتهم في ذلك سعى الشيخ بشير أن تكون الولاية للأمير سلمان ابن الأمير سيد أحمد، واتفق مع الأمير قعدان على ذلك، فكتبا إلى الجزار يلتمسان منه الولاية للأمير سلمان على أن يدفعا إليه مائتين وخمسين ألف غرش، ولكن عندما بلغ العماديين ذلك ذهبوا بالأمير عباس إلى الجزار بعكة وفازوا منه بالولاية لزعيمهم الأمير عباس، ثم جرت الوقائع بين هذا الأمير وبين الأمير سلمان والأمير قعدان، ولم يلبث الأمير بشير أن ظهر في مظهر القوة وقهر جمع أعدائه، فلما يئس العماديون من فوز الأمير عباس عادوا يلتمسون الولاية للأمير سلمان سيد أحمد ولكنهم لم يظفروا ببغيتهم؛ لأن الأمير بشيرا كان قد انتصر على جميع خصومه انتصارا بينا، واتفق جميع وجوه البلاد وأرباب المناصب فيها على أن يكون الأمير بشير واليا عليها دون غيره، وكتبوا إلى الجزار يلتمسون ذلك منه ويخبرونه أن العماديين مرادهم إضاعة الأموال الأميرية، وأما الأمير بشير فلم يحسب أن ذلك الانتصار يغنيه عن رضا الجزار شيئا، فرأى من الحكمة استرضاءه ليستقر له أمر الولاية، فاستشفع أحد الباشوات في أمره لديه وكتب له كتابا في ذلك، فأطلع الباشا الجزار على الكتاب فلان الجزار، وطلب أن يرسل الأمير إليه من يعتمد عليه من بطانته، فأرسل الأمير كاتبه يوسف الدحاح، فلما مثل هذا الكاتب بين يدي الجزار أخذ الجزار يذكر ما عده على الأمير من السقطات، فقال: «أين الأمير والفرنساويون؟! وأين هو وسميث الإنكليزي؟! وأين هو والصدر الأعظم؟! فقد ذهب اتكاله عليهم سدى، وفاته أن سعد الجزار يغلب كل شيء، ولكن لا بأس على الأمير فقد تجاوزت له عن كل الأمور الماضية، وليكن واثقا أنه ينال مني ما يرضيه.» وبعد أن كتب الجزار إلى الأمير كتابا يطيب به نفسه بعث إليه بخلعة الولاية على البلاد إلا إقليم جزين وبرجا منها.
وفي سنة 1804 توفي الجزار واختلس الولاية إسماعيل باشا الذي كان قد سجنه الجزار في سجنه، وأما الأمير بشير فلم يعترف بولاية هذا الباشا، وكتب إلى نائب الجزار على دمشق يقول له: «إنني لا أنقاد إلا إلى أوامر من تنصبه دولتنا العلية واليا في موضع الجزار، وولاية إسماعيل باشا هذا هي بدون أمر من لدنها.» فأرسل النائب ذلك الكتاب إلى إسلامبول، فكان من نتيجته أن مهد للأمير فيها مكانة عزيزة، ولكن لما كان الأمير في اضطرار إلى استخلاص ابنه الأمير قاسم وابن الأمير يوسف الأمير سليم اللذين كانا مرهونين بعكة عند الجزار وجاز رهنهما من بعد الجزار إلى إسماعيل باشا الذي اختلس الولاية من بعده اضطر أن يجاري هذا الباشا في بعض الأشياء قضاء للبانته، ومع ذلك فإن مجاراته له لم تجده نفعا؛ لأنه لم يفز بإنجاز المواعيد منه وبقي المرهونان بعكة. وحدث يومئذ أن وزير حلب إبراهيم باشا قدم من حلب إلى دمشق وبعث إلى الأمير بصورة كتاب الإرادة الصادرة بنصبه عوضا عن الجزار واليا على صيدا ودمشق وطرابلس، فوجه الأمير جرجس باز إلى دمشق مستنابا عنه في أداء الطاعة، فأكرمه الوزير واحتفى به كثيرا، واتخذه مستشارا له في كثير من المهمات، فكان جرجس نافذ الكلمة عنده، وكان الأمير يستقضي كثيرا من الحاجات على يده، وورد على الأمير حينئذ أمر من السلطان سليم في النهوض لمساعدة إبراهيم باشا على طرد إسماعيل باشا من عكة وكتاب من الصدر الأعظم يوسف باشا ضيا يقول له فيه: «علمت أن إسماعيل باشا استنهضك لمساعدته مدعيا أنه كتب إلى الدولة يلتمس منصب صيدا فأبيت، وقد وقعت على كتابك الذي أرسلته إلى نائب دمشق وعلمت منه أنك لا تطيع إلا من توليه الدولة العلية، وأنك محافظ على المدن وأبناء السبيل؛ فطب نفسا بما فزت به من رضا الدولة عنك، فلسوف تنيلك ما تبغيه.» فسلك الأمير بحسبما أمر به فاستقام له الأمر، وقتل إسماعيل باشا وتولى عوضا عنه سليمان باشا؛ فكتب إليه الأمير وهنأه بالولاية والتمس منه إخلاء سبيل المرهونين، فأخلى سبيلهما بعد أداء المبلغ الذي اصطلح عليه بينهما من متأخر الأموال، وثبت الأمير في منصبه.
وفي سنة 1805 حدثت فتنة كان السبب فيها بنو حاطوم وبنو القنطار من أهل المتن، وذلك فيما يتعلق بتأدية المتأخر لسليمان باشا من الأموال، فانتقم الأمير بشير منهم وهدم مساكنهم وقطع أشجارهم، وفي سنة 1807 حدثت فتنة أخرى في مأتم الأمير موسى منصور بين الأمراء الأرسلانيين المنعيين من الشويفات برجالهم وبين الأمراء الشهابيين ورجالهم من أهل الحدث وبعبدا، وكان بين المتوفى وبين الأرسلانيين صلة قرابة، وكان السبب في الفتنة الطواف بالمحمل؛ وقع من أجله مشاجرة بين أهل الشويفات وأهل الساحل فاتسع الخرق، فأمر الأمير أن تحرق دور الأمراء الأرسلانيين، ولكن السيدة حبوس زوج الأمير عباس استشفعت الشيخ بشيرا في ذلك لدى الأمير بشير، فجعل الشيخ يسعى لاسترضاء الأمير مستعينا بجرجس باز، وجعل كلاهما يسعيان لاسترضاء الأمراء الشهابيين، فجرت المصالحة على بعض أرض أخذها الأمراء الشهابيون، فلم يحرق إلا دار الأمير حمد، ولم يقطع إلا بعض الأشجار.
ثم سكنت الثورة في نفوس الأمراء الشهابيين، وأما جرجس باز فقد بلغ مكانة سامية من النفوذ والوجاهة حتى كثر حاسدوه من أرباب المناصب وأوغرت الصدور من نفوذه ولا سيما صدر الأمير حسن أخي الأمير بشير، فأضمر الأمير حسن لجرجس ولأخي جرجس عبد الأحد الشر، والتمس سبيلا عليهما لدى الأمير أخيه متواطئا في ذلك مع بعض اليزبكية من أرباب المناصب، فانخدع الأمير وقبل بالمكيدة التي دبرت لقتل الأخوين جرجس وعبد الأحد في يوم واحد، مع أن جرجس كان مخلصا للأمير ساهرا عليه من كل أذى كان يضمره له أعداؤه، وكان ميعاد قتلهما خامس عشر أيار سنة 1807، أما عبد الأحد فقتل في جبيل، وأما جرجس فقتل في دير القمر، ولم يكتف الأمير بشير بذلك، بل سمل عيون الأمراء أبناء الأمير يوسف وجعلهم تحت المراقبة والسيطرة وحظر عليهم الزواج، وقد أتى ذلك كله باتفاق مع الشيخ بشير ليخلو له الجو من الأنداد، ولا شك أنه معدود عليه من أفظع الأمور. وفي سنة 1808 توفي الأمير حسن أخو الأمير بشير بجبيل فانتقلت ولاية بلاد جبيل إلى الأمير قاسم ابن الأمير بشير، وفي سنة 1810 حدث أن أميرا من أمراء العرب وهو الأمير عبد الله بن مسعود الوهابي التميمي قدم برجاله من الحجاز إلى حوران فخيف على دمشق منه، فخرج واليها يوسف باشا إلى المزاريب لصده، وقد كتب إلى وزير عكة سليمان باشا يسأله النجدة، وكتب سليمان باشا إلى الأمير بشير يستنجده للذود عن دمشق، وكلاهما ذهب برجاله لصد العربان الوهابيين فرجعوا عن تلك الديار، وإذ استقر بال سليمان باشا بزوال تلك النازلة خلا بالأمير وأسر إليه أمرا سلطانيا مؤذنا له بالولاية على دمشق، واستشاره في ذلك وأبدى له ريبته من تحقق أمانيه؛ لأن يوسف باشا والي دمشق يومئذ كان مقتدرا بالرجال والمال، فأجابه الأمير أنه ورجاله يقاتلون في سبيل تحقيق أماني الوزير حتى يبلغوه مرامه، فاشتد عزم سليمان باشا وطلب الولاية فنالها على يد الأمير بعد حرب لم يطل أمرها، ولما تبوأ كرسي الولاية أكرم الأمير فثبت ابنه الأمير قاسما في ولاية بلاد جبيل، وولى ابنه الآخر الأمير خليلا البقاع، وكان يستشير الأمير في كل صعوبة تعرض، حتى إنه لما أوشك أن يحدث فتنة في دمشق بسبب ظلم الكنج أحمد الذي جعله متسلما للمدينة استشاره في الأمر وأبدى له مخافته من عواقبه، ثم فوض إليه ملافاة ذلك الخلل، فعزل الأمير الكنج أحمد في الحال وأرسله إلى القدس متسلما لها، واستبدله برجل يميل إليه الدمشقيون؛ فهدأت الحال، ثم استأذنه الأمير في العود إلى دياره فأذن له.
صفحة غير معروفة