AUTO كتاب دعوة وجه بها إلى أحمد بن يحيى بن زيدومن قبله (1)

الحمد لله الأول القديم، الآخر الواحد الكريم، الذي لا تراه العيون عيون الناظرين، ولا تحيط به ظنون المتظننين، ولا تقع عليه أوهام المتوهمين، ولا يصفه أحد من الواصفين، إلا بما وصف به نفسه، من أنه هو، وأنه بائن عن الأشياء، وبائنة عنه الأشياء، فلم يبن منها سبحانه غائبا عنها، ولم يخف منها في بينونتها خاف عليه منها، بل إحاطته بأسر سرها كإحاطته بأعلن علانيتها، العادل في قضايه، المعز لأوليائه، المذل لأعدائه، الناصر لمن نصره، الخاذل لمن خذله، البريء من أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، داحي الأرض ذات المهاد، رافع السماء بغير عماد، الموفق المسدد لكل رشاد، الزاجر الناهي عن الفاحشات، الحآض الآمر بالحسنات.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي لا تواري عنه ساترات متكاثفات الستور، ولا يستجن عنه بمتراكم أمواجها قعور البحور.

صفحة ٦١٠

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله برسالته، وانتجبه لأمانته، فبعثه في طامية طخياء، ودياجيج(1) ظلمة عمياء، وأوائل فتنة دهماء(2)، ودروس من الصالحات، وظهور من المنكرات، فدعا إلى ربه، وأظهر ما أمر ربه، وفتح فينق(3) الفسق، وأظهر دعوة الصدق، وأعلن كلمة الحق، وأرغم أنف الشيطان، وأدحض عبادة الأوثان، وأخلص التعبد للرحمن، ونهى عن الظلم والعصيان، وأمر بالتواصل والإحسان، وأماط أفعال الجاهلية، ونفا عنهم ظلمة الحمية والعصبية، وبسط لأمته كنفي الرحمة الواسعة، وأكمل الله به على البرية النعمة السابغة، فمضى عليه السلام في أمر الله قدما، وجرد في أمر الله سبحانه مصمما، حتى أثبت له على عباده الحجة، بالتبيين لهم جميع ما افترض عليهم، والإعذار في ذلك والإنذار، والتوقيف لهم على معالم دينهم، وجهاد من عند عن سيرته منهم، حتى إذا اعتدل عمود الدين، وتعلق به جميع المسلمين، وسطع نوره، ووضحت وشرعت أموره، ، وتقشع عن الحق الثبج، وكملت به وبرسوله الحجج؛ اختار الله لنبيه صلى الله عليه دار النعيم والسرور، ونقله من دار التعب والنصب والغرور، فقبضه الله سبحانه سعيدا، قد بين للأمة ماله خلقوا، وأوضح لهم ما إليه دعوا، وأوقفهم على ما به أمروا.

صفحة ٦١١

فكان أفضل ما افترض الله عليهم، وجعله حجة مؤكدة فيهم؛ الجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن التظالم والمنكر، ولذلك مدح الله به الأنبياء المرسلين، وذلك قوله: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} [الأعراف: 157]، ويقول: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الحج: 41]، ويقول سبحانه: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110]، ويقول تعالى أمرا منه لجميع المسلمين: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}[آل عمران: 104]. وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألف الله بين المؤمنين، وجعلهم إخوة عليه متوالين، وذلك قوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم}[التوبة: 71]. وبترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذم الله المنافقين والمنافقات حين يقول:

صفحة ٦١٢

{والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون}[التوبة: 67].

صفحة ٦١٣

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا ينال إلا بالإقدام والتصميم، والنية والاعتزام الكريم، على الجهاد في سبيل الله، وتوطين الأنفس على ملاقات أهل الظلم والطغيان، فحينئذ ينال ذلك، ويؤدي فرض الله من كان كذلك، وهو الجهاد في سبيله، وفي ذلك ما يقول في واضح التنزيل: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما}[النساء: 95 96] وقال تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}[الصف: 10 13] ويقول: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}[العنكبوت: 69] ولفضل الجهاد ما أمر الله نبيه عليه السلام بالتحريض عليه للعباد، حيث يقول: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال}[الأنفال: 65]، ويقول تبارك وتعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون}[آل عمران: 69 70] وما ذكر الله من تفضيل الجهاد؛ فأكثر من أن يحيط به كتاب، وهو معروف عند من رزق فهمه من ذوي الألباب، وكيف لا يكون للجهاد في سبيل الله فضل على جميع أعمال المؤمنين وبه يحي الكتاب المنير(1)؟ ويطاع اللطيف الخبير، وتقوم الأحكام، ويعز الإسلام، ويأمن الأنام، وينصر المظلوم، ويتنفس المهموم، وتتجلى(2) الفاحشات، ويعلو الحق والمحقون، ويخمل الباطل والمبطلون، ويعز أهل التقوى، ويذل أهل الردى، وتشبع البطون الجائعة، وتكسى الظهور العارية، وتقضى غرامات الغارمين، وينهج سبيل المتقين، وينكح العزاب(3)، ويقتدى بالكتاب، وترد الأموال إلى أهلها، وتفرق فيما جعل الله من وجوهها، ويأمن الناس في الآفاق، وتفرق عليهم الأرزاق.

صفحة ٦١٤