الدعاية إلى سبيل المؤمنين لأبي إسحاق اطفيش
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
نحمدك يا من شرحت صدورنا بنور الإيمان والتوفيق ،أرشدتنا إلى سبيل النجاة من الحيرة والضيق ، وملأت قلوبنا إخلاصا للدين ،فكان أكبر باعث إلى إحيائه بخدمة العلم وإحياء سيرة سيد المرسلين ، رغم كيد الكائدين ومعاكسة الخائنين ، حمدا يكون لنا نورا يسعى بين أيدينا يوم ينكشف الغطاء عن مساوي المفسدين . ونصلي ونسلم على أشرف المخلوقات ، مطهر النفوس من وسن (1) الجمود والغباوة ، سيدنا محمد الذي من تمسك بهديه سعد في الدارين . وآله وصحبه الذين تحملوا كل إذاية وعبء (2) في سبيل تأييد الحق المبين.
وبعد فإن الله عز شأنه، خلق الإنسان في أحسن تقويم ،وكرمه بالعقل ، ولولاه لكان في مستوى البهيمة، فتح له سبيلي السعادتين ، وهداه النجدين ، فمنه من كان بلدا طيبا يخرج نباته بإذن ربه، ومنه من خبث لا يخرج إلا نكدا ، فصيره الله أسفل سافلين بسوء كسبه ، يتيه في هوجل (3) الجهالة بفساد اختياره ، ينقدح الشك في فؤاده لأول وهلة (4) سمع الحق ، ويسعى وراء كل ناعق يصيح بباطل أو بشر أو بضر ، اغتمضت (5) عيون كثير من الناس عن الواجب ، فعدلوا عن المنهج السوي ،وانصرفت قلوبهم عن مراقبة الحق ، ورعاية الصدق . فتراهم يتمثلون في مظهر خلاب (6) وشكل يظنون انه مستطاب ، ويغدون ويروحون في هيئة يخالونها (7) أبهج الصفات، وفي كل ذلك لا يناقشون أنفسهم الحساب،ولا يوجهون إليها أدنى
(1) الوسن الغشيان من نتن ريح البئر يقال وسن وأوسن . (2) ثقل
(2) الأرض التي لم تكن لها أعلام ومعالم .(4) الوهلة أول الشيء (5) صارت عمضه (6) خداع يقال برق خلاب أي لا مطر فيه (7) أحسنها
عتاب فيأتون بضروب(1) من الأعمال لا تتفق مع الحق والصواب بحال من الأحوال ،يخادعون به ذوي البساطة؛لغاية في نفوسهم ، وما يخدعون الا أنفسهم ، وما يشعرون .
صفحة ١
أهملوا إعمال الفكر؛ فاستعصت عليهم الحقائق ،واستحكم فيهم الهوى فطلبوا إرضاءنفوسهم ، وتركوها هائمة (2) فاستبهمت (3) سبيل الهدى ؛ فأصبحوا عقبة وعثرة (4) أمام التقدم القومي والحياة العلمية والعملية ، فكلما أحسوا بانتعاش الأفكار ن أونهوض في مضمار المنافسه ، أو حركة في ميادين الاقتصاد ، أو ركوب الأخطار للارتقاء إلى أوج (5) الشرف ، ملاوا الفضاء لجبا (6) والأرجاء صخبا(7) ، ونادوا بالويل واستهولوا الامر ، وذهبت أفكارهم طرائق قددا (8) ذلك لأنهم اعتادوا الخمول (9) وألفوا الذل والصغار والذبول (10)، وشبوا وشابوا على الجهل بأسباب الحياة وأحوال الامم وماضي التاريخ، فحسبوا أن كل ما يخالف مألوفهم فهو فساد يطرأ على مستواهم (11)، وخلل في الاعتقاد وسبب في خراب البلاد على أنهم لاينفكون في الغالب يفصمون (12) عرى الأمة وينقضون (13) ما أبرمه الراسخون ومن أوتوا الحكمة ، مما يصلح الهيئة الاجتماعية وتحسن به عاقبة الأمة وينتظم به شملها فيا للعجب من هؤلاء يتدخلون فيما لا يعرفون له كنها (14)
ولا يستطيعون له تحملا، ويفتاتون على كل عمل بمجرد دعوى الزعامة ، ظانين أنها مقدسة ولو بدون التأهيل والاستعداد عرفانا وأخلاقا ، ويتحكمون في نوازل بأحكام
(1)أنواع (2) متحيرة (3) اشتبه عليها بحيث لا تهتدي إليه من شدة التحير ( 4) كبوة
(5) العلو أو الأعلى (6) الجلبة والصياح والأرجاء الناحية (7) كثرة الأصوات
(8) طرائق جمع طريقة والقدد بالكسر القطع (9) الستر الصغار والحقارة
(10) ذبل البقل ذوى (11) وسطهم (12) يقطعون (13) النقض ضد الإبرام
صفحة ٢
(14) حقيقة ما أنزل الله بها من سلطان فمتى وجهت إليهم أسهم الانتقاد أو حلوا العتاب؛ ليستقيموا أو يبعدوا عن مضان الريب، وينقلعوا من عوامل الفساد، قاموا وقعدوا وأغاروا (1) وأنجدوا، فتبا (2) لتلك النفوس الضارة ، والأحلام الطائشة ، والأفكار التائهة منشأ الخلاف ومبعث النزاع والتشاكس (3) وآلة انفصام(4) التضامن والتكافل وفك التحام القلوب بين الأفراد والجموع .
يتذرع ( 5) هؤلاء باسم الدين والحق، إلى غايات شخصية وأمنية حقيرة بشره (6) زائد ونهم جسيم واغراق(7) في المكر، يعبثون بالواجبات والأعراض وحرية الأفراد والعائلات ، بدون شفقة ولا رحمة ، أضف إلى ذلك استمدادهم من السلطة الاستبدادية ، هنالك لا ترى دينا ولا رحمة ،ولا رعاية حق ولا عاقبة ولارضوخا (8)للموعظة الحسنة ولا تبكيتا (9) للنفس ولا خوف نكاية (10) العدو ولا غيرها من المهلكات ، الأهواء (11) تتلاعب بها الأهواء ، وأدمغة دبت (12) فيها خمرة الحمية ، ونفوسا لعبت بها نشوة (13) الانتقام، صفات تذكرنا الدور الجاهلي وما كان عليه العرب وغيرهم من الأمم الهمجية ، صفات لايشاهدها المرء في النفوس المتشبعة بالتعاليم الاسلامية ، من الأداب الكاملة والوجدان الطاهر والتهذيب الديني والاعتصام بحبل الله المتين .
(1) الغور المكان المنخفض والنجد المرتفع (2) التب الهلاك (3) المشاجرة
(4) الانفصام الانفكاك في المعاني ومقابله الانقصام في المحسوسات . (5) يتوسل
(6) غلبة الحرص والنهم شدة شهوة الشيء وأصلهافي الطعام (7) المبالغ فيه
(8) السكون والخضوع (9) تقريعا (10) ايقاع (11) جمع هوى ، الاول المراد به ميول النفس والثاني النفس
(12) مشت (13) السكر
إن نهضات الشعوب وحركات الأحزاب الصالحة مبنية على قوة الإرادة في الأفراد، وصدق العزيمة التي لاتثنيها عقبات، ولا يفلها (1)حسام ،ولا تنصدع بمعارضة الرجعيين ، فبمقدار ما تكون الإرادة فيهم من السمو والخير تكون النتيجة وحسن المآل .
صفحة ٣
ومن المعلوم أن أحزاب الإصلاح لا تسلم من المعارضين الذين يألفون الخمول ويؤون إلى كهوف الانزواء (2) طلبا للسلامة في زعمهم واتقاء من الحوادث ، فكيف بالذين يستهترون(3) ويلجون(4) أبوابا طلبا للرياسة أو التذاذا بالخلاف ، في حين أنهم لا يدركون من يقظةالأفكار ولامن انتباه النفوس الساميةشيئا ما إلا الجريان على قاعدة (خالف تعرف )كي يصلوا إلى بعض ما سولت لهم أنفسهم من الظهور الفارغ.
ولقد كنا طوينا كشحا وضربنا صفحا (5) عن هذا الموضوع ردحا (6) من الزمن ، رغم ما نشاهده من استهتار الذين جبلت نفوسهم على حب الشقاق والعناد ورفع لواء النفاق والفساد ، تنزها عن أن نتنازل إليهم ،وترفعا عن أن نكون في مستواهم وتجافيا (7) لمكافحة من لا تأثير له بالحق ، إذ هي عناء . لذا قال المتنبي :
ومن البلية عذل من لا يرعوي (8)
عن غيه وخطاب من لا يفهم
وددنا والله أن تطوى صحيفته طيا لا نشر بعده ، لكن أبى أولئك الأشقياء الا أن يلجوا في طغيانهم يعمهون(9) وحسبوا إعراضنا ضعفا ووهنا ، ولم يزالوا منهمكين
(1)الفل الثلم (2) الاستتار (3) يتبعون هواهم فلا يبالون بما يفعلون (4)الولوج الدخول
(5) كناية عن الإعراض وصفح ترك التثريب (6) سعة (7) إعراضا (8) يرجع ، والغي الباطل
(9) عمه تردد في الأمر وتحير ، والطغيان تجاوز الحد ، ولج تمادى على العناد
في مقاومة الحق ومناوأة النهضة العلمية ، والطعن في الأعراض ، واختلاق ما عساهم أن يلصقوه بأولئك الذين أخلصوا دينهم لله ، وعملوا بالواجب الذي ينشده كل غيور ، ويسعى إليه كل حصيف، (1)ولابدع إن بادرنا إلى حماية الحق وصون العرض من إفك الخراصين (2) ودفع شكوك ربما تحوم حول القاصرين
ولاخير في حلم إذا لم يكن له بوادرتحمي صفوه أن يكدرا
أصيب وطننا منذ أمد ببعض الحائرين ، يجرون إليه الخزي.
صفحة ٤
وكم نزلت به من النكبات ، وتحمل من ويلات تنوء (3) بها الراسيات وكثيرا ما رزح تحت كلكل (4) الاضطهاد والاعتساف .
وطن لم يزل ينكب بما جره فسدة أبنائه الخائنين العاقين المسلوبي الإيمان ولسان حاله يقول :
وردت علي وقائع وشدائد وردت على الأيام صرن ليالي
هكذا تشقى أوطان بأبناء جهلة نحس مستمر، وتسعد بأبناء بررة عارفين كيف كيف تجلب السعادة إليها . ولقد صدق والله القائل:
أنى اطلعت على البلاد وجدتها
تشقى كما تشقى الرجال وتسعد
قاتل الله الجمود والغباوة ، يذران نفوسا أعضاء مشلولة(5) في الهيئة الاجتماعية
تصدى أشخاص منذ أن قامت فئة لخدمة العلم والدين والأخذ بيد الشبيبة الناهضة لمقاومتها بالطعن وإيجاد العقبات والصد عن سبيل العلوم ، تارة بالسعاية وحينا بالشتائم على صحف لاخلاق ولاذمة لذويها وطورا بالتغرير والمكر .
تولى كبرهم شخص حلقات عمره ضروب من الفتن والأهواء .
(1) العاقل السديد الرأي (2) الكاذبون (3) تثقل وتميل ، ورزح سقط إعياء وهزالا (4) الصدر
والاضطهاد القهر ، والاعتساف الظلم والجور (5) يبست وفقدت قوتها
كتب رسالة فوزعت بين الناس مجانا ، حشر فيها هجر القول وأباطيل وأدلة محمولة على ما لم ياذن به الله،وأحكاما لم ينزل بها سلطانا ، مزج فيها بين الغث(1) والسمين والرث (2) بالقشيب (3)والصفو بالكدر والغرر(4) بالغرر
(كمحتطب في اليل مهما يجد يضم)
إنا لنربأ بأنفسنا - لولا وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- أن ننفق جزءا من حياتنا في جانب هؤلاء الذين خذلهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم ، ولعمرو الحق إن نسبة تلك الرسالة إلى من له ذرة من الإيمان أو مسكة من العقل عار وخزي،لولا الواجب لقلنا (سلام عليكم لانبتغي الجاهلين) ولقلنا ما قاله المعري :
ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا
تجاهلت حتى ظن أني جاهل
وإنا لخصنا ذلك الإملاء في عشرة فصول هي محوره ومدار هوج(5) المملي المغرور أولا:الشباب المتعلم في معزل عن تعلم دينهم.
صفحة ٥
ثانيا: ذم العلوم الفلسفية مطلقا ، وذم العلوم العصرية.
ثالثا: ذم الأسلوب العصري في التعليم .
رابعا : ذم الفصاحة والبلاغة .
خامسا :مدح الخمول والذل والاستكانة .
سادسا : زعمه أنه سالك في تعليمه الأسلوب النبوي .
سابعا : الحكم على رجال النهضة بالضلال
ثامنا : دعوى الإعراض عن السلف الصالح وذم مسالكهم وجحود فضائلهم
(1) الهزال (2) الخلق (3) الجديد (4) الهلاك والغش والغرر جمع غرة مستعار للشيء المستحسن
(5) الطيش والتسرع .
تاسعا: زعم تحليل بعض صور الربا والبيوع المنفسخة.
عاشرا:اتهام الرجال العاملين بالغاية الشخصية المادية .
ثم دعم أباطيله بدعاوى فارغة ليست في شيء من الصواب ، كما تراه إن شاء الله ونبينه بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة (1) ، زيادة على ما هو واضح السقوط بطبيعته عند كل حاذق من مزاعمه ومقاصده الذاتية التي لم تعزب عن البله فضلا عن النبلاء النبهاء
إذا جاء موسى وألقى العصى فقد بطل السحر والساحر)
فها نحن شارعون بحول الله وقوته في كشف ذلك الضباب بشمس الحق وغسل هاتيك الأدران(2) بوابل الصواب ، مراعين آداب التأليف مجتنبين البذاءة (3) ،التي جاء بها ،مقتصرين على الدليل والبرهان ، تاركين تيار الإحساس جانبا حتى لايكون عملنا شخصيا
(وإني لتنهاني خلائق أربع عن الفحش (4) فيها للكريم روادع )
(حياء وإسلام وشيب وعفة وما المرء إلا ما حبته(5) الطبائع)
(1) مسلكنا في إيراد ما بناه إيراد آيات أو أحاديث أو ما قاله جهابذة العلم أو ذكر نظريات مسلمة بدهيا ، بحيث يدرك المطلع لدى المقارنة مبدأه كليا ، وتنكشف له مخباته التي أبداها في صورة حق ، لكن أراد به باطلا لا الاعتناء بعبارة منحطة وتمطق مؤلم اللهم الا اضطرارا لدافع ، فتنبه .
(2) الأوساخ (3) السفه وفحش المنطق (4 ) مجاوزة الحد وسيء القول أو القبح مطلقا (5) أعطته .
صفحة ٦
مقدمة إن العاقل - متى تأمل في حالة العالم، وما ظهر من تقدم الأمم وتنافسها في ميادين العلوم،ومناهج الحياة والعز والعظمة، واستثمار خيرات الأرض والأخذ بنواصي الأمم البسيطة، وغير ذلك من كل وصف يدل على التمكن والسلطان - أدرك مقار فوز العلم على الجهل وأنه هو أس السعادة والفلاح، وتبين له اتساع دائرة العلوم والتطور العجيب في بني الإنسان منذ أفاض الإسلام على البرية بنو العرفان وسعادة الإيمان.
كان جهابذة(1) الإسلام وفطاحله(2) عند سواده وانتشاره في أرجاء الأرض، وفرار الشرك أمامه فرار الظلام عند انفلاق الصبح، مجتهدين في تدوين العلم واستنباط الفنون ونشر العرفان بكل ما في وسعهم إلى أن أصبحت الأمة الإسلامية زاهرة مغتبطة ، تعنو(3) لإرادتها الأمم الأخرى وتقتبس (4) من أنوارها وتأنس لجوارها . ولم يأل (5) جهدا أولئك الفحول في تنقيح ما سبق للأمم الغابرة (6) من العلوم حتى لا يكون للقصور لديهم مجال ،وأضافوا إلى ما استخلصوه إلى ما بين أيديهم ، حرصا على أعداء الإسلام ودفعا لكل تفوق في الأخصام .
(1) جمع جهبذ النقاد الخبير (2) جمع فطحل العظيم (3 ) تخضع (4) تستمد علومها (5) يترك
(6) الماضية .
وسهروا على حياة الأمة العلمية والعملية كي لا تخضع للأعداء ولا تجنح إلى الخنوع (1) - وهما ضروريان بحكم القسر على الجاهل ولدينا ما يقنع - فتصبح ذليلة بعد العز صاغرة بعد العظمة كل هذا بعد ظهور الإسلام بمبعث سيد العالمين،- عليه الصلاة والسلام- بالفتح ونشر الدين ومحو الوثنية وتطهير البشر من عبودية الأوهام، وخضوعه لسلطان الجهل والاستبداد .
صفحة ٧
وإذا قارنا بين هذا العصر والقرون الوسطى وما آل إليه كثير من الأمم من الانحطاط والهمجية والسذاجة(2) والجهل العميق بينهما من حيث انتشار العلم وظهور النبغاء وتأثير النبوغ (3) في البيئات(4) وإن الحياة بتعميم المعارف بين الطبقات على اختلافها في الجنس والاستعداد .على أننا نشاهد اليوم شدة الحاجة إلى الشيء التافه
( 5)(كالإبرةمثلا) المجلوب من الخارج ، وما ذلك إلا لخلونا من المعارف وإعراضنا عنها وجهلنا مقار منفعتها . ويعتقد البسيط الفكر أن الأجنبي أولى بالحياة والابتكار والتنعم والنفوذ ، وإن ذلك مخصوص به اختصاصا أزليا ، والواجب على المسلم أن يستسلم للحكم القسري والقضاء الإلآهي الذي لايعقب ، وأنه في سجنه(6) -
(1) الخضوع * للأمة الإسلامية أطوار يمكن تلخيصها في ثلاثة :
1- طور النشر للدين والفتح والاستمداد من أنوار النبؤة ، 2- التدوين واستنباط الفنون وزهور مدينة الإسلام ،
2- التدلي وظهور أعداء الإاسلام على أهله وليس هذا محل الأسباب .
(2) البساطة (3) الظهور واتساع المعلومات (4) الأوساط التي يعيش فيها المرء (5) الحقير .
(6) يستدل كثير بقوله :-عليه الصلاة والسلام- ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) على بؤس ونكد حياة المؤمن، وبحبوحة نعيم الكافر جهلا بالحقيقة ، والحديث الشريف معناه الدنيا كسجن المؤمن؛ لما يعتوره من مشاق التكاليف،وكره نفسه على أدائها وقمعها عن الشهوات ، والكافر كأنه في جنته لأنها مبلغ نعيمه ، ولا يناله ما ينال المسلم من تكليف العبادات والحبس عن الشهوات ، والأدلة على ما ذكرنا لا تحصى .
جهلا منه بوجوب تعاطي الأسباب (1)-إلى غير ذلك من كل ما يصرف عن الواجب الديني والحيوي، ظنا منه أن ذلك يخفف وطأة الشقاء ونكبة العناء ، وما درى أن الشقاء بعينه والبلاء الماحق الذي أباد كثيرا من الأجيال .
صفحة ٨
إعلم أن العاقل لا يغتر بما يكتبه المتعجرف(2) الذي لم يتجاوز فكره عتبتي داره، ولم يعرف من مسالك الحياة ولوازمها - التي هي مزرعة الآخرة - إلا ما يعرفه الداجن (3)الذي يغدو إلى الكلأ(4)أويروح إلى مربضه(5)، ولقد ران على قلبه سوء كسبه، فكان عليه غشاوة وسجافا (6)؛ فنبا(7) عن أن يكون مهبط الحكمة وينبوع الهداية ومقر التوفيق ؛ لذلك طفق يهذي هذيان المحموم ويقبل ويدبر كالهائم المكلوم(8) . يصور من الخيال ما عن(9) له، ويفرض من اللوازم ما هو وفق أهوائه فيجعلها مناط (10)أحكامه شأن الذين زين لهم الشيطان أعمالهم ، فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون.
جهل القاعدة الكلية ( الحكم فرع التصور ) فحكم على الفنون الحيوية بالفساد ولم يتصور منها شيئا ولا عرف لها نتيجة .
وثب إلى حكم الترجيح اغترارا وجهلا بالمآل فانكب ذلك بأن طعن في العلوم الكونية التي ورد القرآن الحكيم بها والحث عليها، إذ هي من الوسائل العظيمة إلى تقوية اليقين برسوخ الإيمان والاهتداء إلى منافع خلقها الله لنا وجعلها آيات تدل على كمال قدرته الباهرة وحكمته العجيبة الزاهرة .
وإليك المسلك الذي توخاه الناهضون في تثقيف الشبيبة، (11) ونبذامن فوائد تلك العلوم الجليلة ،وبيان مرتبتها من بين العلوم حتى يتضح السبيل أمام السالك البصير .
(1)ومن الأدلة قوله تعالى:( ابتغوا من فضل الله - فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ) وقوله ع م ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لاخرتك كأنك تموت غدا وقوله ( تغدوا وتروح ) الحديث .
(2) العجرفة خرق في العمل وإقدام في هوج . (3) الحيوان الذي يألف البيوت . (4) المرعى (5) مأوى الغنم ، وران غلب .
صفحة ٩
(6) سترا (7) بعد (8) المجروح (9) عرض (10) متعلق (11) جمع شاب إن المسلك الذي انتهجه المخلصون في تربية الشباب العلمي ،هو تنمية الشعور الديني وتقويته ، وإيجاد الملكات(1) الإسلامية والبواعث على التمسك بالدين، بالوجوه المقنعة والبيانات المؤثرة، وإظهار أسراره ومزاياه وبيان أن لاحياة للمسلم إلا بدينه ولا سعادة إلا بالتمسك بأهداب تربيته الفاضلة، والتحلي بأخلاقه الطاهرة التي بها يكون المرء فائزا في الحال والمآل ، كالصدق والإخلاص والأمانة والوفاء والعفة والغير،ة وأضرابها من الصفات الحميدة التي جاءت بها الشريعة الطاهرة المطهرة، واشتهر بها الأسلاف الصالحون رضوان الله عليهم .
هذا المسلك الإجمالي الواجب سلوكه والذي نحن دائبون(2) فيه لإيجاد رجال الحياة والعمل في المستقبل، ولم يتعام عن الحق المعرضون وأنكر النور العامون . وإنكارهم لهذه الحقائق الناصعة(3)، وتصويرها بصورة شائنة(4) ليس بعجيب ممن خذلهم الله ولا بحادث ، بل هؤلاء في كل عصر ، ومني بهم كل حزب .
وكيف لا ندأب على ما ذكرناه ونحن نعلم علم اليقين أن الأمة الإسلامية ما بلغت إلى أن صارت فاقدة لعزها العريق ومجدها الباذخ(5) ونعمة الاسلام إلا بترك ذلك السبيل السوي، والانسلاخ من الصبغة(6) الإلهية واجتراح الموبقات التي جاءت الحنيفية السمحاء لتطهير البشر منها .
وإذا كان المسلم جاهلا بدينه فكيف يتسنىله الامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه، اللذين لا يكون المرء مسلما بمعنى الكلمة إلا بهما ؟ وبذلك تطلب السعادة الأبدية في الحياة السرمدية في الروح(7) والريحان ورضوان الله الأكبر .
(1) جمع ملكة وهي الكيفية الراسخة في النفس بالتكرر . (2) سائرون (3) الواضحة (4) معيبة (5) العالي .
(6) الصبغة الملة والدين والفطرة (7) الرحمة والريحان النعيم .
صفحة ١٠
ألق بنظرة إلى العالم تبصر مباراة(1) الشعوب لبعضها بعضا، كل في إحياء شعائره وتأريخه وتقوية مركزه بين الأمم، دينيا وسياسيا وماديا وأدبيا . كل منهم يرى سعادته وحياته في حرس مباديه ، وشقاوته ومحوه من صحيفة الوجود في إهمالها .أفلا يكون لنا في ذلك أعظم عبرة؟ أم يتأتى لشعب إحراز مركزه بالسذاجة والجهل لا بالقوة الموزعة بين الأفراد، كل منهم على حسب استعداده الفطري ؟ اللهم إنا نريد بأنفسنا خيرا وغيرنا يريد بنا سوءا فمدنا بعنايتك .
نريد المحافظة على مبادئنا(2) وإحياء ما اندرس منها ، وعليها نحيا ونموت ، تلك المبادئ الصادقة التي استمات في سبيلها رجال جهابذة وأعلام كرام ، وأيم الله حياتها بفنون العلم والاجتهاد لا بالبله(3) والاستكانه ، بالعمل والعزيمة الثابته لا بالأماني والعزيمة الخائرة (4)، بالصدق والإيمان لا بالخيانه والنفاق . (قال ): - صلى الله عليه وسلم - (تحروا(5) الصدق وإن رأيتم فيه الهلكة )
نريد مجاراة(6) العاملين الذين هم أكبر مثال محسوس في الشعوب ، لا الاندماج(7) في غيرنا أو التفصي(8) من المباديء الصحيحة الممتزجة بدمائنا . ومن الغلط الفادح (9)بل من من الموت الزؤام(10) . أن يرى البصير عناصر تجاوره تعمل بجد ونشاط وعزم وهو صامت لا يبدي حراصا.
كفى ما مضى من الإغفال والإهمال يا قوم وحسبنا ما حل من نكبات الجهل وانتبهوا من ذلك السكر المديد، لقد ضل من انخدع لمغالطة الجامدين وهلك من خشع لوساوس اليائسين ، وقد أمرنا الله تعالى أن نكون مع الصادقين في الأقوال والأفعال في قوله سبحانه( يا أيها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)
(1)معارضة (2) تطلق المبادئ على ما يمتاز به شعب كالدين واللغة والتاريخ وعلى ما به حياته . (3) الغفلة (4) الضعيفة .
(5) اقصدوا (6) الجري معهن أي فيما هو خير (7) الدخول (8) التخلص (9) الثقيل (10) الكريه.
صفحة ١١
فلا تغرنكم كلمات يكتبها من لازلتم تشاهدون منهم أعمال الجناية والنكاية بقومهم ، وكيف ما كانت في نظركم حقا فقد أريد به باطل ، ولئن انخدعنا مرة فلا ننخدع أخرى (المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين)
إن التلاميذ ليسوا في معزل عن تعليم ما يلزمهم من علمي التوحيد والشريعة كما يدعي المعارضون ، وهم يعلمون أنهم لكاذبون ، بل يأخذون من هذه الواجبات ما يترتب عليهم كأن يأخذوا دروسا في علم التوحيد، ودروسا في الفقه(1) في كل أسبوع، مع اليقظة التامة في مراقبة البالغ منهم عند التباسه بأداء الواجبات وإقناعهم بأنهم خلقوا للعمل العائد عليهم بالفلاح العاجل والآجل ألا وهو تمسكهم بالدين الحنيف بمعنى الكلمة قولا وفعلا، بطريقة لا يحلم بها الأجلاف، سهلة التناول واضحة البيان، يفهمون بها ما هي شريعة الله؟ ويدركون ما هي العبادة؟ زيادة على ما يلقى إليهم من تاريخ الإسلام وحياة الأئمة ، وعبثا نحاول أن نبرهن على ما هو ساطع كالغزالة (2)رأد الضحى.
(1) يلقى لهم درس يوميا في الأيام الطوال إما في الفقه وإما في التوحيد ، وإما في تاريخ الأئمة ( سلم العامة ) و( جامع أركان الاسلام ) و( نور التوحيد ) وأمثالها .
(2) الشمس وقت الضحى
( أيعمى العالمون عن الضياء ؟)
ومما أوضحناه تعلم أن المسلك الذي انتهجناه مع هذه النهضة المباركة في تثقيف أذهان التلاميذ وتهذيب أخلاقهم هو الصراط السوي والمسلك الحميد ، كما سلمه المعارض نقلا عن المجلة(1) ، وهو أرقى ما ينبغي أن يتبع حيث لم يفقد فيه الطلبة ما يجب من وظائف الدين قولا وعملا واعتقادا، ولا ما تتحلى به نفوسهم من التهذيب والأخلاق الفاضلة والشيم الجليلة والشهامة والإباء وعزة النفس التي بها يترفع المرء عن الدناءة ومواقف التهم ،وما ينمي فيهم القوى العقلية والشعور الديني .
صفحة ١٢
وظهر لما ذكرنا آثار اعترف بها أهل المعرفة ، ولئن امتعضت بها النفوس الموبوءة التي تتضرر بالمحامد والصالحات، فذلك شاهد قاطع إذ لا تزداد العيون الرمداء بالنور إلا عموشة ، وأكبر شهادة على فوزنا ما نقله عن مجلة ( نور الإسلام )، هذا المعارض جاءت منه عفوا تأييدا لنا رغم إرادته إذ ذاك نفس ما نحن دائبون فيه ، إن لم نقل بعضه والحمد لله .
(1) أما التهوش ومحاولة التذرع إلى تفويض مشيد الحق، وما أبرمه ذوو الإخلاص بانتحال عناويين واهية، ومزاعم باطلة واعتبارات ساقطة ودعوى صرف الناشئة عن علوم الدين عملا واعتقادا إلى علوم الفلسفة التي لا وجود لها في هذه الأقطار فضلا عن أن تزاول في المدارس الابتدائية فلا يستفز ذوي الألباب ولا يخفى مغزاه عن ملتمسي الصواب، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ، (1)ومن العجب التجاء هذا المخذول إلى الاستدلال بالمجلات ، وإدراج المقالات في الصحف ، وهو بالأمس كان يحكم عليها بأنها من لهو الحديث ، وربما أفتى بحرمة الاشتراك فيها أو الاشتغال بمطالعتها ، هي الأغراض تفعل في النفوس التائهة ما تشاء ، نسأله العصمة من الخذلان والخطل .
( وشر ما يكسب الإنسان ما يصم )
صفحة ١٣
ولعمر الحق إن هذا الشخص وأضرابه لا يفهمون للفلسفة معنى إذا كان هذا مبلغ إدراكهم ونهاية تصورهم ، على أن الفلسفة الصحيحة حرم منها معاهد التعليم الإسلامي بهذه الأرجاء والحال أنها من أجل الفنون التي توصل الإنسان إلى المدارك السامية والوقوف على الحقائق والأسرار الكونية ، إذ أمرنا الله بتدبرها والبحث عن منافعها ، لأن الإنسان لا يتوصل إلى شيء من ذلك بدون النظر الصحيح والبحث الصادق ، وإذا أمعن ذو الإدراك السامي النظر في الكتاب العزيز ، وما احتوى عليه من علوم الأولين والآخرين ، وجد من المعاني والآيات الجاذبة للفكر إلى اكتشاف غوامضها واستطلاع أسرارها والاهتداء إلى حكمتها ما يجعله مندهشا، وقد امتلك الإعجاب حسه وأخذ بتلابيبه من كل ما يبعث النفس إلى التنقيب على مكنوناتها وإبراز دررها والاستضاءة بأنوارها التي لايزال العالم في سنائها مجدا .
الكلام على الفلسفة الحقة
لا نعني بالفلسفة ما هو عبارة عن سوء العقيدة في الدين ومحاربته والإلحاد فيه- معاذ الله - كما يتوهمه الذين لا يفقهون، وإنما الفلسفة الصحيحة المطلوبة هي المعرفة بقول بعضهم: ( هي عبارة عن البحث عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر على قدر الاستطاعة البشرية ) وهي العلم النافع المعبر عنه بمعرفة النفس ما لها وما عليها المشار إليه بقوله تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب } ( البقرة /269)
وعلى هذا يكون موضوع الفلسفة، هو الأشياء الظاهرة للعيان أو التي يمكن تصويرها في الأذهان، وتكون الغاية منها التشرف بالكمالات في العاجل، والفوز بالسعادة في الآجل ، وعلى هذا الشكل تتفق مع الدين ولا تنافيه.
صفحة ١٤
والفلسفة والحكمة ماصدقهما واحد ،والحكمة في اللغة العلم مع العمل، وتطلق على العدل ووضع الشيء في موضعه، وصواب الأمر وسداده وأفعال الله كذلك لأنه يتصرف بمقتضى الملك؛ فيفعل ما يشاء وافق غرض العبادة أم لا . وتطلق أيضا على القرآن قال تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } ( النحل / 125)
أي القران . وعلى النبوءة قال تعالى: { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينآ آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } ( النساء / 54)
وعلى الفهم والعلم،قال تعالى: ( ولقد آتينا لقمان الحكمة )، وفي عرف العلماء هي استعمال النفس الإنسانية لاقتباس العلوم النظرية واكتساب الملكة الحاثة على الأفعال الفاضلة قدر طاقتها .
صفحة ١٥
نقول انتصارا للحق وإفادة لمريدي التحصيل:قد قسم العلماء الفلسفة إلى أقسام ،منها ما يخص العبادات فسموه بالفلسفة الإلهية ، ومنها ما يخص إدارة الأحكام فسموه بالفلسفة السياسية ، وما يخص الأعمال البشرية من صناعة وزراعة وتجارة وما أشبهها فسموه بالفلسفة المدنيه ، وما يخص النفس من حيث التهذيب فسموه بفلسفة الأخلاق ، وقسمها الإمام الجيطالي (1) -رضي الله عنه- في ( القناطر ) على طريقة من جعل المنطق من فنونها لا من مباديها إلى أربعة أقسام أيضا حسب ما جرى عليه الأولون، وهي إما أن يكون البحث عن الخطوط والسطوح والأشكال بأنواعها ،عمليا وتعليما فهو الهندسه، وإما البحث عن وجه الدليل وشروطه ووجوه الحد وشروطه فهو المنطق ،قال- رحمه الله- (وصناعة المنطق تعطى بالجملة القوانين التي من شأنها أن تقوم العقل، وتسدد الإنسان نحو الصواب والحق في كل ما يمكن الغلط فيه من جميع المعقولات وذلك إن في المعقولات أشياء لا يغلط العقل فيها أصلا، وهي التي يحتاج الإنسان في إدراكها إلى تفكير وقياس واستدلال، وفي هذه يضطر الذي يلتمس الوقوف على الحق اليقين في مطلوباته كلها إلى قوانين ( المنطق ) ا هت
أما البحث عن صفات الباري عز وعلا وكمالاته فهو الإلهيات وأما البحث عن صفات الأجسام وخواصها، وتراكيبها وكيفية استحالتها وتغيرها وتحليلها فهو علم الطبيعيات(2).اهت
(1)نسبة إلى جيطال قرية من قرى الجبل بطرابلس الغرب ، وهو المحقق الجليل الآخذ من كل فن القدح المعلى، الفيلسوف الماهر صاحب التصانيف المفيدة والتحقيقات المنيفة الدالة على براعته وتضلعه الشيخ اسماعيل بن موسى الجيطالي رحمه الله .
صفحة ١٦
من تآليفه هذا الكتاب المشتمل على ثلاثة أجزاء الجامع لفلسفة الأخلاق والفنون الشرعية بأسلوب فائق وترتيب رائق مع الاختصار غير المخل ، وهو من أهم الكتب في تربية النفس وتحليتها بالكمالات الإنسانية وتطهيرها من الرذائل وقبائح الأخلاق ، وله القواعد في التوحيد والفقه وشيء من الحقوق ، وهو من أنفس الكتب المعتمدة عند أصحابنا ، وله ( كتاب الفرائض والحساب والجبر ، وكتاب المناسك وغيرها ، وكان -رضي الله عنه- مشهورا بالفضل والورع والتقى والجد والاجتهاد ، يتبين للمطلع من غضون عباراته مقدار نبوغه وغوصه في علوم الآداب وعلوم الدين وتأثيرها الدال على إخلاصه ، وبالجملة كان من رجال العلم والعمل الذين تجاب إليهم الأقطار وتشد إليهم الرحال ،توفي- رحمه الله -في جزيرة جربة وروضته معروفه تزار وتلتمس فيها الإجابة .
(2) لو تاملت أيها القارئ الكريم كيف تنجز من هذا الفن الفوائد العظيمة ، التي ارتقى بها فن الطب في هذه العصور وع فن الكيمياء الذي هو فن تحليل الأجسام واستخراج منافعها ومعرفة مضارها حتى أصبحت طريقة مقاومة الأمراض - إلا نادرا - من الميسور على البشر ، والطب من أهم العلوم وأقواها نفعا تتبارى فيه الشعوب المتمدنة ، فكم رفع هذا الف العظيم عن النسان مضض الالام ونكبات الأسقام فأصبح في نعمة الصحة يرفل في برد العافية، قائما بجميع الواجبات الدينية والدنيوية ، بعد ما كان إذا أصيب بألم لازمه لفقدان علم الطب ، وربما لاينفك عنه إلى أن يفارق الحياة ، ضحية الجهل .
وعلى هذه الطريقة تدريس فن الطبيعة في المدارس النظامية كما نبينه في موضعه . وقسم العلامة نور الدين السالمي (1)- رحمه الله- في (شرح المشارق ) الفنون باعتبار الأحكام الخمسة، فقال : فمنها مختلف في إباحته وعدمها .
صفحة ١٧
الاول: المنطق الفلسفي والصحيح الإباحة ولا حجة للمانع ، وما ذكروه من التعليل في تحريمه من أن اليهود والنصارى يتعلمونه فليس بشيء نعم ويلزم عليه تحريم النحو والصرف لأن أولئك يتعلمونهويلزمهم تحريم تعليم القران إذا ثبت أن أولئك يتعلمونه ولا خفاء في بطلان هذا القيل وما ذكروه من التعليل بالإشفاق على الضعيف بأن يضل بضلالات الفلاسفه ويعتقد اعتقادهم فهو تعليل لا يوجب التحريم لذلك العلم لكن نفس الضلالة ونفس الاعتقاد هو المحرم لا العلم
فأنت ترى ما يقوله الائمة الأعلام حملة الشريعة في هذا الفن الجليل الذي تبجح المغرور بذمه افتئاتا وغباوة اعتمادا على قول ابن السبكي إذ وافق هواه وهو لا ينهض حجة.
(3) هو الجهبذ الهمام أعلم علماء جزيرة العرب بطل عمان نور الدين أبو محمد عبدالله بن حميد السالمي العماني -رحمه الله -، أحد الأعلام الفخام صاحب التآليف الجليلة والمتون المفيدة منها: متن المشارق وهو أهم المتون في التوحيد كتب عليه شرحين طويل ومختصر الأول جمع شتات مسائل الأصول وحقق مسائل الدين وعقيدة أهل الاستقامة، ببيان شاف كاف ، وحاشية جميلة على الجامع الصحيح في الحديث ومدارج الكمال نظم مختصر الخصال وشرحه معارج الآمال في ستة عشر جزءا على ما بلغني وأظنه لم يتم وطلعة الشمس ألفية في أصول الفقه وشرحها شرحا عظيم الفائدة في جزئين من أهم ما كتب في الفن وأجمعه وغيرها من المتون والمؤلفات كان أكبر ركن في استقلال عمان تحت أمام النير الأجنبي توفي- رحمه الله- في ربيع الثاني سنة 1332ه بعد أن ترك له ذكر رجال التاريخ العاطر ورجالا من أفذاذ العلم والسياسة .
صفحة ١٨
وكان من أساطين الفلاسفة المحقق المجتهد الإمام الكامل شمس الدين أبو يعقوب الوارجلاني (1) -رضي الله عنه- ويشهد بذلك تآليفه مرج البحرين الجامع بين المنطق الفلسفي وعلمي العدد والهندسه وهو من أهم الكتب الإسلامية المترجمة الى اللغات الأجنبية على ما بلغنا لعظم فائدته عند الأمم الحية ومهجور لدينا
صفحة ١٩
( 1) أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني -رضي الله عنه- أحد الائمة المجتهدين البارعين الذين جابوا الأقطار وسبروا أغوار الأمم وبحثوا في حقائق كتاب الله وفسروه ، وتفسيره -رحمه الله -لم ينسج على منواله ذلك العصر مع أنه عصر التدوين والنبوغ ، ذكر أنه في سبعين جزءا جمع فيه من العلوم ما لم يذكره غيره ، غير أنه تلاشى في تلك الحروب الداخلية التي منيت بها الأمة الأسلامية حينا من الدهر وفتوح المغرب وترجمة رجال الإباضية ، ذكر لنا أحد الأساتذة أنه اطلع عليه في كلية بأوروبا وأظن بألمانيا وكتاب الدليل في أصول الدين وغيرها من التآليف المنبئة عن مقدار تضلعه في العلوم، وكان من كبار المنجمين ، قرأ بقرطبة ونبغ فيها في علوم اللسان والحديث والتنجيم والتفسير والفلسفة وغيرها من العلوم وعاد إلى وطنه وهو من العلماء العظماء والفلاسفة الأعلام الذين هم خصب القلوب ونور العقول، وكان معدودا عند علماء أوروبا في تراجم الرجال الأفريقيين الذين يشار إليهم بالبنان رحل إلى السودان إلى خط الاستواء لمشاهدة تلك الأمم والاطلاع على أحواله واكتشاف ذلك الإقليم الغميض والبحث عن اعتدال الليل والنهار، ولا جرم أنه العالم الوحيد الذي عنى بهذا الاكتشاف في القرن السادس، مما يدلنا على علو كعبه وسعة عقله، واعتناء المسلمين بالاكتشاف في القرون الأولى عكس ماما يتمشدق به الأوروبيون من اعتنائهم بالاكتشاف واجتلاء الحقائق دون المسلمين وهم لم يعتنقوا بذلك إلا منذ أربعة قرون تقريبا، ولم يكتشفوا الراب الذي يعرفه المسلمون ويقرؤونه في القرآن إلا في القرن التاسع عشر ولم يكتشفوا منطقة خط الاستواء إلا حوالي القرن السابع عشر وهكذا كان الفضل في إبانة الحقائق لعلماء المسلمين ، وكان- رحمه الله- كيمياويا واغترف من سائر مناهل الفنون وفاز بالقسط الأوفر فحاز قصب السبق بين أقرانه توفي -رضي الله عنه- وأسكنه بحبوحة الفردوس في أواسط القرن السادس بمسقط رأسه جزاه الله عن العلم والإسلام أحسن جزاء ونفعنا بتآليفه .
بعد أن عني به المحققون منهم البدر الشماخي(1) -رحمه الله- وضياء الدين عبد العزيز الثميني (2) شرحه شرحا وافيا كشف فيه عن غوامضه وأظهر سر الفلسفة الصحيحة وسر العالم العلوي ونوه بفحول هذا الفن . وأيم الله إن هذا الشرح من النفاسة بمكان إلا أنه لم يتمه -رحمه الله- .
(1) هو العلامة المحقق نادرة زمانة الغزير المادة بدر الدين الشيخ أحمد بن سعيد بن عبد الواحد الشماخي- رضي الله عنه- ، أحد المؤلفين في كثير من الفنون والذين أبرزوا نتائج قرائحهم للقاصي والداني وكشفوا غوامض المشكلات وأزاحوا الشبهات ، يعلم من طالع كتبه مقدار تضلعه وما أوتيه من الحكمة وسعة المعلومات .
صفحة ٢١