أما بعد: فإنه لا عذر لمن هلك بعد المعرفة والبيان، ولا حجة لمن ركن إلى دار الفناء والحدثان، ولا ندم يغني عند وقوع العيان، ولا حيلة تنفع عند فوت الزمان، وعند السياق وكلول اللسان، لا ولد ينفع، ولا أهل يمنع، في مصرع هائل، وشغل شاغل، يدعا فلا يسمع، وينادى فلا يجيب، في غصص الموت وسكراته ، وتجرع زفراته، وغمومه وحسراته، قد علاك الأنين، وأتاك الأمر اليقين، فلا عذر فتعتذر، ولا ردة فتزدجر، قد عاينت نفسك حقائق الأمور، وحللت في مساكن أهل القبور في لحد محدور، قد افترشت اللبن بعد لين الوطاء، وسكنت بين الموتى، بعد مساكنة الأحياء، فالنجاء النجاء، قبل حضور الفناء .
أما بعد: فإن الدنيا أيام قلائل، وكل ما فيها ذاهب زائل، فتعز بالصبر عن الشهوات، وتنآء بالحذر عن اللذات، وفكر فيما اقترفت على نفسك من الذنوب، وفيما قد ستر الله عليك من العيوب، أما علمت حين عصيته لم يكن بينك وبينه، ستر يواريك منه .
أما استحييت من مولاك ؟! وقد علمت أنه يراك، أما خفت العقوبة حين آثرت على تقواه هواك ؟!
أما بعد: فيا بؤسا لك من مخالف خاسر، وخائن غادر!! أما إنك عن قليل، تهجم على البلاء الطويل، فتدارك نفسك إذ عرضتها للمهالك، واسلك بها طريق الواضح من المسالك، ولا تطمعها في راحتها، أيام حياتها، واستطرف لها النصب، واحملها على التعب، لما ترجو أن تصير إليه من الراحة غدا، فكأنك قد دعيت فأجبت، فاعمل لنفسك مادمت في مهلة، وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى .
أما بعد: فاحذر على نفسك ختر الدنيا ومكرها، وخدعها وغدرها، فإنها متبرجة لطلابها، فاحذرها ولاتكن لها قتيلا، والتمس لنفسك للنجاة منها سبيلا، فانظر لنفسك أيام مكثك فيها، واعلم أنها مرحلة سكانها، وأن متاعها قليل، وخطبها جليل، ونعيمها زائل، وخيرها مائل .
صفحة ٣٤٠