فَإِذا كَانَت الْحَيَوَانَات الَّتِي لَا عقول لَهَا ألهمت مصالحها ومنافعها كَانَ الْإِنْسَان الْعَاقِل الْمُمَيز الْمُكَلف الَّذِي هُوَ أفضل الْحَيَوَان أولى بذلك
وَهَذَا أكبر حجَّة لمن يعْتَقد أَن الطِّبّ إِنَّمَا هُوَ إلهام وهداية من الله سُبْحَانَهُ لخلقه
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ قد يكون من هَذَا وَمِمَّا وَقع بالتجربة والاتفاق والمصادفة أَكثر مَا حصلوه من هَذِه الصِّنَاعَة
ثمَّ تكاثر ذَلِك بَينهم وعضده الْقيَاس بِحَسب مَا شاهدوه وأدتهم إِلَيْهِ فطرتهم فَاجْتمع لَهُم من جَمِيع تِلْكَ الْأَجْزَاء الَّتِي حصلت لَهُم بِهَذِهِ الطّرق المتفننة الْمُخْتَلفَة أَشْيَاء كَثِيرَة
ثمَّ أَنهم تأملوا تِلْكَ الْأَشْيَاء وَاسْتَخْرَجُوا عللها والمناسبات الَّتِي بَينهَا فَتحصل لَهُم من ذَلِك قوانين كُلية ومبادئ مِنْهَا يبتدأ بالتعلم والتعليم وَإِلَى مَا أدركوه مِنْهَا أَولا يَنْتَهِي
فَعِنْدَ الْكَمَال يتدرج فِي التَّعْلِيم من الكليات إِلَى الجزئيات وَعند استنباطها يتدرج من الجزئيات إِلَى الكليات وَأَقُول أَيْضا وَقد أَشَرنَا إِلَى ذَلِك من قبل أَنه لَيْسَ يلْزم أَن يكون أول هَذَا مُخْتَصًّا بِموضع دون مَوضِع وَلَا يفرد بِهِ قوم دون آخَرين إِلَّا بِحَسب الْأَكْثَر والأقل وبحسب تنوع المداواة
وَلِهَذَا فَإِن كل قوم هم مصطلحون على أدوية يألفونها ويتداوون بهَا وَأرى أَنهم إِنَّمَا اخْتلفُوا فِي نِسْبَة صناعَة الطِّبّ إِلَى قوم بِحَسب مَا قد كَانَ يَتَجَدَّد عِنْد قوم فينسب إِلَيْهِم فَإِنَّهُ قد يُمكن أَن تكون صناعَة الطِّبّ فِي أمة أَو فِي بقْعَة من الأَرْض فتدثر وتبيد بِأَسْبَاب سَمَاوِيَّة أَو أرضية كالطواعين المفنية والقحوط المجلية والحروب المبيدة والملوك المتغلبة وَالسير الْمُخَالفَة
فَإِذا انقرضت فِي أمة ونشأت فِي أمة أُخْرَى وتطاول الزَّمَان عَلَيْهَا نسي مَا تقدم وَصَارَت الصِّنَاعَة تنْسب إِلَى الْأمة الثَّانِيَة دون الأولى وَيعْتَبر أَولهَا بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِم فَقَط فَيُقَال لَهَا مذ ظَهرت كَذَا وَكَذَا وَإِنَّمَا يعْنى فِي الْحَقِيقَة مذ ظَهرت فِي هَذِه الْأمة خَاصَّة وَهَذَا مِمَّا لَا يبعد
فَإِنَّهُ على مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْآثَار وخصوصا مَا حَكَاهُ جالينوس وَغَيره أَن أبقراط لما رأى صناعَة الطِّبّ قد كَادَت أَن تبيد وَأَنه قد درست معالمها عَن آل أسقليبيوس الَّذين أَبُو أبقراط مِنْهُم تداركها بِأَن أظهرها وبثها فِي الغرباء وقواها ونشرها وشهرها بِأَن أثبتها بالكتب
فَلهَذَا يُقَال أَيْضا على مَا ذهب إِلَيْهِ كثير من النَّاس أَن أبقراط أول من وضع صناعَة الطِّبّ وَأول من دونهَا وَلَيْسَ الْحق على مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْآثَار إِلَّا أَنه أول من دونهَا من آل أسقليبيوس لتعليم كل من يصلح لتعلمها من النَّاس كَافَّة وَمثله سلك الْأَطِبَّاء من بعده وَاسْتمرّ إِلَى الْآن
وأسقليبيوس الأول هُوَ أول من تكلم فِي شَيْء من الطِّبّ على مَا سَيَأْتِي ذكره
1 / 27