المملكة الْعَرَبيَّة السعودية
وزارة التَّعْلِيم العالي
جَامِعَة الإِمَام مُحَمَّد بن سعود الإسلامية
عمادة الْبَحْث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية (٦٠)
عُيُون الْأَدِلَّة فِي مسَائِل الْخلاف بَين فُقَهَاء الْأَمْصَار
تأليف
أبي الْحسن عَليّ بن عمر بن أَحْمد الْبَغْدَادِيّ الْمَالِكِي الْمَعْرُوف بِابْن الْقصار
الْمُتَوفَّى سنة (٣٩٧ هـ) ﵀
درسه وحققه
د. عبد الحميد بن سعد بن نَاصِر السعودي ﵀
صفحة غير معروفة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على مُحَمَّد وَآله
كتاب الطهارة
[١] مَسْأَلَة
عند مالك ﵀ غسلُ اليدين قبلَ الطهارة مندوبٌ إليه وليس بواجب، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي، وو الشافعي سواء كان حدثه من نوم الليل أو النهار، أو أي حدث كان.
1 / 75
وحُكي عن أحمد بن حنبل ﵀ إنه إن كان من نوم الليل دون النهار واجب.
وذهب قومٌ من أهل الظاهر إلى أنه واجب من أي نوم كان: تعبُّدًا لا لنجاسة.
فإن أدخلهما الإناء قبل غسلهما يفسُد الماء.
وو قال الحسنُ البصري: إنْ أدخلهما الإناء قبل غسلهما نجِس
1 / 76
الماء، تحقق النجاسة على يده أو لا.
والدليل على صحة قولنا هذا: أنَّ الوجوب يحتاج إلى شرع، فلا تُوجب شيئًا إلا بدلالة.
وأيضًا فإن الله - تعالى - قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾ الآية، فأمرنا بغسل الأربعة الأعضاء، ولم يأمر بغسل اليد قبل ذلك، فلو كان يجب علينا حُكمٌ غيرُ ذلك لذكره، فلا تُوجب غير ما ذُكر إلا بدليل.
وأيضًا قول النبي ﷺ للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله»، وبين
1 / 77
له الذي أمره الله - تعالى - غسلَ الأربعة الأعضاء، كاملة فقط وهذا موضعُ تعليم، فلو كان غسلُ اليدين قبل ذلك واجبًا لبينه له.
وأيضًا الحديثُ الذي قبل فيه: «لن تُجزئ عبدًا صلاتُه حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله - تعالى - فيغسل وجهَه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه»، فدل [على] أنَّ هذا القدر يجزئه، وان ما دونه لا يجزئه.
وأيضًا قولُ النبي ﷺ «وإنَّمَا لا مرئ ما نوى»، ومن غسل هذه
1 / 78
الأعضاء الأربعة ونوى بها الطهارة، فله ما نواه.
وأيضًا فإنَّ النوم لا يخلو أن يكون حَدَثًا في نفسه أو سببًا للحدث، بل هو سببٌ للحدث كمسِّ الذكر، وملامسة النساء، والقبلة للشهوة، وعلى الأحوال كلها، فلا يجب غسلُ اليد عند وجود الحدث، ولا عند سببهِ: كما ذكرنا من اللَّمسِ أو الغائطِ والبول. وجميعُ ذلك لا يوجب تنجيسَ اليد، ولا فساد الطهارة وإن لم يغسل.
وأيضًا: فإننا نقول لهم: لا تَخْلُون من أحد أمرين: إما أن تأمروه بغسل اليد، فإن لم يفعل نجِس الماء، أو تقولوا: إنَّ طهارته لا تصح إلا بذلك، وفي الأمرين جميعًا: لا يجب ذلك بإجماع؛ لأنَّ ما كان متعبدًا به لجل الحدث لا لأجل نجاسة فإنَّه لا يتغير بأي حدث كان، سواء كان بنوم أو غائط أو بول أو لمس. فلمَّا اتفقنا على أنَّه لو خرجت منه ريح أو غائط لم يجب غسل اليدين، ولا تنجيس الماء، ولا فساد الطهارة - مع يقين الحدث الموجود به - كان في حدث النوم - الذي هو غير متيقِّن، وهو أخفض مرتبة، وقد سقطت الطهارة
1 / 79
فيه إذا نام جالسًا - أولى أن لا يجب.
وأيضًا: فلو كان يُفسد الماء لأجل نجاسة في يده: فإنَّ الماء - عندنا - إذا لم يتغير بأحد الوصاف من ريح أو لون أو طعم لم ينجس. وهذا أصل لنا، فإن اخترتم نقل الكلام إليه فذلك إليكم.
ثم مع هذا فاليدُ على أصل الطهارة: لأنَّه لو أدخلها في طعام أو شراب لم ينجُس، مع أن المائعات لا تدفع النجس ولا تجوز الطهارة بها. فالماءُ الذي يدفع النجَس عن نفسه، وتجوز الطهارة به: أولى ألا ينجس بإدخال يده فيه.
فإن قيل: الدليلُ على وجوب ذلك: قوله ﷺ:» إذا استيقظ أحدُكم من نومه فلا يغمس يدَه في إنائه حتى يصبَّ عليها صبةً أو صبتين؛ فإنَّه لا يدري أين باتت يده». وفي بعض الأخبار: «حتى
1 / 80
يغسلها ثلاثًا: فإنَّه لا يدري أين باتت يده»، وهذا أمر ظاهره الوجوب كقوله: - تعالى - ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾، وذلك على الوجوب له.
قيل له: الحديثُ يدل على أنَّه استحباب؛ لأنَّ النبي ﷺ علَّل ونبَّه؛ بقوله: «فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده، فعلمنا أنه على طريق الاحتياط، وأعلمنا بهذا أيضًا: أنَّه ليس لأجل الحدث بالنوم؛ لأنَّه لو كان لذلك، لم يحتج للاعتلال».
والذي يدل أيضًا على أنَّه على طريق الاحتياط: أن قائلًا لو قال: اسلك هذا الطريق، واترك الطريق الآخر؛ فإنَّك لا تدري ما فيه، وكذلك لو قال: اغسل ثوبك؛ فإنَّك لا تدري أي شيء فيه، وهل أصابه نجَس أو لا؟ لعلم أن ذلك على طريق الاحتياط، وإن كان لو تجرد قولُه: اغسل ثوبك، لدل على الوجوب، غير أن الذي اقتران به دل على أنه على الاحتياط.
1 / 81
وفي حديث في السنن لأبي داود: «فإن أحدكم لا يدري أين طافت يده»، وهذا يدل على أنَّه استحباب؛ لنَّ الإنسان لا يأمن أن تطوف يدُه في المواضع التي إذا لاقتها يده استقذر أن يدخلها في وَضوئه، وتعافته نفسه؛ كإبطه ومغابنه الغامضة.
فإن قيل: إنَّ هذا التعليم أل يمنع من وجوب ذلك، كما قال - تعالى -: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، وكقوله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ
1 / 82
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾، وكقوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، ولم يدل ذلك على أن الصلاة ليست بواجبة، وإن اجتناب الخمر ليس بواجب.
قيل له: ليس هذا مما نحن فيه بسبيل؛ لأنَّ الله - تعالى - أوجب علينا الصلاة، ثم وصفها بأنَّها تفعل ذلك، فكان هذا مؤكدًا لإيجابها، وكذلك ما ذكره مما تفعله الخمر مؤكد لإيجاب اجتنابها، وليس كذلك ههنا، لأنه بيّن أن الغسل لأجل الشك.
ولو كان ظاهر الخمر معهم لم يمتنع أن نخصه بدلالة القياس، وذلك أنَّنَا قد اتفقنا على أنَّه لو أحدث بغير النوم وادخل يده في الماء لم ينجس، وأجزأته الطهارة، والمعنى في ذلك: أنَّه لا يتقين نجاسة في يده فكان النوم مثله، أو بعلة أن يده طاهرة وهو منتقض الطهر.
ويجوز أن تلزم من يوجبه من نوم الليل دون نوم النهار القياس على نوم النهار: لعلة أنَّه قائم من النوم لا يعلم في يده نجاسة، أو بعلة أنه لو أدخلها في طعام أو شارب غير الماء لم يفسده، ولم يجب غسل يده إن أدخلها فيه، وكذلك نوم الليل.
فإن قيل: فإنَّه ﵊ غسل يده
1 / 83
وأفعاله على الوجوب.
قيل: لو تجرد عما قارنه من الاعتلال في الخبر فدل على أنَّه على الاستحباب.
ويجوز أيضًا: أن ننقله من الوجوب إلى الاستحباب بدلالة القياس الذي ذكرناه. أو نحرر علة أخرى فنقول: هذا عضو قد تعبدنا بغسله في جملة الأعضاء ألربعة، فلم يجب غسله مرتين قياسًا على الوجه والرجلين.
1 / 84
فإن قيل: إن النبي ﷺ قال: «العينان وكاء السَّه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء»، فأخرجه مخرج الاعتلال، وقد يستطلق
1 / 85
الوكاء، وقد لا يستطلق ومع هذا فإنَّ الوضوء واجب، وكذلك قوله: «فليغسل يده قبل إدخالها في وضوئه؛ فإنَّه لا يدري أين باتت يده»، فينبغي أن يكون غسلُ يده واجبًا.
1 / 86
قيل له: إذا نام فالغالب من أمره خروجُ الحدث منه، وليس الغالب منه ملاقاة يده النجاسة.
وأيضًا: فإن الطرف الواحد لا يستحق تطهيره مرتين في طهر واحد، والدليل على هذا غسل الرجلين.
وأمَّا ما ذهب إلى التفرقةِ بين نوم الليل والنهار، فلا معنى لقوله: لأنَّ النبي ﷺ قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده، ولم يفرق بين نوم الليل ونوم النهار، فدل على أنَّهما مشتركان من طريق المعنى.
فإن قيل: الخبر ورد في نوم الليل؛ لأنَّه قال: «فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده».
قيل له: فيجمع بينهما بعلة أنه قائم من النوم، لا يتيقن على يده نجاسة. وقد روي في بعض الأخبار: «فإنه لا يدري أين باتت يده»، واليد تطوف في نوم النهار كما تطوف في نوم الليل.
وقد روى أنس بن السري عن النبي ﷺ: (أنه توضأ فاستوكف ثلاثًا).
1 / 87
قال الراوي: معنى استوكف ثلاثًا: أي غسل كفه ثلاثًا، ولم يبين أي وضوء هو من الليل أو النهار.
ويجوز أن نقول: هي طهارة من حدث فوجب أن لا تتكرر بعض الأعضاء فيها، أصله التيمم.
1 / 88
[٢] مَسْأَلَة
عند مالك وكافة الفقهاء ﵏ أن التسمية عند الوضوء ليست بواجبة، إلا عند داوود، وقوم من أهل الظاهر، فإنَّهم قالوا:
1 / 89
إنها واجبة لا يجزئ الوضوءُ بها، سواء تركها ناسيًا أو عامدًا.
وقال إسحاق بن راهويه: إن نسيها أجزأته طهارتُه.
والدليل لقولنا والجماعة: قول النبي ﷺ: «وإنما لأمرئ ما نوى»، ومن توضأ ونوى ولم يسم فقد حصل له ما نواه من الطهارة.
وأيضًا قول الله -تعالى - ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾، الآية، فأوجب علينا عند القيام إلى الصلاة غسل الأربعة الأعضاء، ولم يذكر التسمية، فلا نوجب غير ما أوجبه إلا بدلالة.
وأيضًا قول النبي ﷺ للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله، وهذا
1 / 90
موضع تعليم، فقال له: "اغسل وجهك وامسح برأسك واغسل رجليك"، فلو كانت التسمية واجبة لعلَّمه ذلك.
وأيضًا الحديث الآخر الذي قيل فيه: "لن تجزئ عبدًا صلاته حتَّى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ويديه"، فأعلمنا ما تجزئ به الصلاة ولم يذكر التسمية، فظاهره أنَّها تجزئ بغيرها.
وأيضًا ما روي أنه ﷺ قال: «من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهورًا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورًا لأعضائه»، فعلمنا بهذا أن ترك التسمية لا يفسد الوضوء وأنه يطهر الأعضاء المأمور بغسلها، غير أنَّه أنقص حالًا منه إذا سمى، وكذلك نقول: إنَّها أفضل.
1 / 91
وأيضًا قوله ﷺ: «لا صلاة إلا بطهور»، وهو نكرة، فإذا صلَّى بما يسمى طهورًا أجزأه أي طهور كان، إلا أن تقوم دلالة في إلحاق شيء آخر.
ومن طريق القياس: اتفقنا في الصيام أنَّه لا يجب في أوَّلِه نطق فلم يجب في آخره، فكل عباده عل البدن لا يجب النطق في آخرها لم يجب في أولها، ونجد الحج كذلك لما كان يُخرج منه بغير نطق لم يجب في أوله نطق، وإنَّمَا التلبية سنة في أوله، ثم نعكس العلة
1 / 92
فنجدها مستمرة، وذلك أالصلاة لما كان في آخرها نطق واجب - هو السلام - وجب النطق في أولها.
ونقيس عليه: لو سمى وتوضأ: بعلة أنَّه مكلف غسل الأربعة أعضاء بالماء المطلق، ووجود النية مع الموالاة.
وأيضًا: فقد حكي عنهم أنه لا يجب عند غسل الجنابة والحيض.
فإن كان هذا صحيحًا قسنا عليه: لعلة طهارة عن حدث أو تنتقض بالحدث فلم تجب التسمية فيها.
والقياس على غسل النجاسة: بعلة أنَّها طهارة للصلاة، فكل طهارة للصلاة وجبت لأجل الصلاة أو تستباح بها الصلاة فلا تجب التسمية فيها.
1 / 93