وقال الذهبي في ترجمته للإمام على بن أبي الطيب: إنه حمل إلى السلطان محمود بن سبكتكين ليسمع وعظه، فلما دخل جلس بلا إذن، وأخذ في رواية حديث بلا أمر، فتنمر له السلطان، وأمر غلاما، فلكمه لكمة أطرشته، فعرفه بعض الحاضرين منزلته في الدين والعلم، فاعتذر إليه، وأمر له بمال، فامتنع، فقال: "يا شيخ! إن للملك صولة، وهو محتاج إلى السياسة، رأيت أنك تعديت الواجب، فاجعلني في حل"، قال: "الله بيننا بالمرصاد، وإنما أحضرتني للوعظ، وسماع أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وللخشوع، لا لإقامة قوانين الرئاسة"، فخجل الملك، واعتنقه.
* وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: كان عطاء بن أبي رباح عبدا أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلاة (¬1)، قال: وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إليه، وهو يصلي، فلما صلى، انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه: "قوما"، فقاما، فقال: "يا ابني لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود".
* ومن لطائف شرف النفس، والمبالغة في تنزيهها عن الدنية، أن الشيخ "عز الدين" كان إذا قرأ القارئ عليه من كتاب، وانتهى إلى آخر باب من أبوابه لا يقف عليه، بل يأمره أن يقرأ من الباب الذي بعده؛ ولو سطرا، ويقول: "ما أشتهي أن أكون ممن يقف على الأبواب".
* وهذا آخر من العلماء يشمخ على الفقر والسؤال حتى ولو كان فيه نيل العلياء، فينهى عن السؤال ومد اليد، ولو للعلياء، فمد اليد من العالم ذلة وانكسار نفس، والعالم داعية الحق، فكسر نفسه بالسؤال إضعاف للحق الذي يدعو إليه، فيقول ذلك الفقير الشامخ الأبي:
لا تمدن للعلياء منك يدا ... حتى تقول لك العلياء: هات يدك
...
صفحة ١١٢