بسم الله الرحمن الرحيم (1) الحمد لله كما هو أهله، وصلواته على محمد وآله أجمعين.
[مقدمة]:
اعلم أن العبد إذا نشأ بإنشاء الله إياه، لا يخلو: إما أن ينشأ وحده، أو مع غيره:
ووحده لا يخلو: إما أن يكون مستقلا بنفسه، أو لا يكون.
ومعلوم أن أكثر الناس - بل كلهم - يعلمون من أنفسهم احتياجهم إلى غيرهم، وذلك أول مراتب الاحتياج.
وإذا كان وحده محتاجا، يعلم أن المحتاج إليه ممن تنتهي إليه الحاجة، وهو لا يحتاج إلى غيره:
إذ لو احتاج إلى غيره لانتهى إلى غير نهاية: وهو محال.
والذي ينشأ مع غيره يعلم أن غيره - في حقيقة الحاجة - مشاركه فيعلم أن حال غيره كحاله في الحاجة.
فيضطر: أن المحتاج لا بد [له] من محتاج إليه.
صفحة ٢٩
فصل [في الصانع وصفاته] لما ثبت أن المتغير محتاج، والعالم - بجميع أجزائه وتركيبه - متغير فهو محتاج ، والمحتاج لا بد له من محتاج إليه، وهو صانعه.
مسألة [في غناه، ووجوبه، وقدرته]:
ولما ثبت هذا، فلا بد أن يكون هو غنيا من كل وجه:
إذ بينا أن الحاجة علة لإثبات المحتاج إليه، فهو - بذاته - مستغن كل شئ، فيكون واجب الوجود بذاته، وكل شئ سواه يحتاج إليه.
وإذا كان مؤثرا، فلا بد أن يكون وجه يصح أن يفعل ويصح أن يفعل، ويصح أن لا يفعل، وهذا معنى كونه قادرا.
مسألة [في علمه]:
ولما ميز بين أجزاء الأفعال، وقصد بعضها دون بعض، وركبها على وجه تصلح للنفع، واستمر ذلك منه، لما دل على كونه عالما.
* * *
صفحة ٣٠
مسألة [في حياته، ووجوده]:
ولما علم أنه عالم قادر، ثبت أنه حي، موجود:
إذ يستحيل تصور عالم قادر غير حي، ولا موجود.
على أنا أثبتنا - أولا - وجوب وجوده، وإذا كان الممكن المحتاج موجودا، فواجب الوجود - الذي لا يحتاج إلى غيره - بالوجود أولى.
مسألة [في الإرادة، والاختيار]:
ويتفرع من كونه حيا، وعالما أنه لا بد أن يعلم الأشياء كما هي، إذ لا اختصاص لكونه عالما بمعلوم دون معلوم.
فيعلم ما يفضي إلى صلاح الخلق، وما يؤدي إلى فسادهم، فيختار ما يفضي إلى صلاحهم، ويعبر عنه بالحسن، ولا يختار ما يؤدي إلى فسادهم، وهو القبيح.
ثم ذلك الاختيار، لا يخلو: إما أن يتعلق بفعله، أو بفعل غيره:
فما يتعلق بفعله يكون علمه بحسنه داعيا إلى فعله، فيسمى مريدا.
وما يتعلق بفعل غيره، يعلمه أن صلاحه في بعض، وفساده في بعض، فيكون إعلامه، أمرا ونهيا، وخبرا.
ويسمى كارها، إذا تعلق علمه بقبح شئ، ويصرفه علمه عنه، أو ينهى عنه غيره.
صفحة ٣١
مسألة [في الادراك]:
وعلمه - أيضا - يتعلق بالمعدوم والموجود:
فما يتعلق بالمعدوم يسمى كونه عالما، فحسب.
وما يتعلق بالموجود المدرك يسمى كونه مدركا.
والسمع ورد بأن يوصف - تعالى - بكونه: مدركا سميعا، بصيرا، وإلا، فقد كفانا إثبات كونه عالما بجميع المعلومات أنه يعلم المدركات، والمسموعات، والمبصرات، إذ ليس إدراكه لشئ منها من جهة الحاسة.
مسألة [في القدم ولوازمه]:
وإذا ثبت أنه تعالى واجب الوجود من كل وجه، فلا يتوقف وجوده على غيره ، فلا يحتاج إلى فاعل، ولا شرط، ولا علة، ولا زمان، ولا مكان، ولا غاية، ولا ابتداء، ولا انتهاء:
لأن هذه الأشياء غيره، وقد قررنا أنه لا يحتاج إلى غيره.
فيكون قديما - موجودا أزلا، إذ هو عبارة عما لا أول له، ولا يزال، إذ هو عبارة عما لا آخر له -:
إذ لو توقف وجوده على الابتداء والانتهاء، لبطل وجوب وجوده، وقد ثبت وجوبه.
مسألة [في التوحيد ولوازمه]:
وإذ قد ثبت وجوب وجوده، فهو واحد من كل وجه، لا ثاني له:
صفحة ٣٢
لأنه لو كان له ثان واستغنى عنه من كل وجه، لما استغنى عنه في العدد، وهو كونهما اثنين، وقد فرضناه غنيا من كل وجه.
وأيضا: لما تميز الواحد من اثنين، إذ كان من كل وجه مثله، فبماذا يتميز منه؟!
وأثبات ما لا يتميز يفضي إلى الجهالات.
وكما لا ثاني له، فلا جزء له:
لأنه لو كان له جزء، لاحتاج إلى ذلك الجزء، فيكون محتاجا إلى غيره، وقد فرضناه غنينا من كل أحد.
فقد ثبت أنه واحد لا ثاني له ، ولا جزء له.
مسألة [في التنزيه ولوازمه]:
ولما ثبت غناه وعلمه، فكل ما يجوز على المحتاج لا يجوز عليه:
فلا يحتاج إلى الجهة، ليشغلها، فلا يكون جوهرا.
ولا إلى التركيب، فلا يكون جسما.
ولا إلى المحل، فلا يكون عرضا.
ولا إلى الزمان، إذ قد ثبت قدمه، فبطل عدمه.
ولا إلى المكان، إذ هو من لواحق الجسم.
ولا يختار إلا ما هو صلاح العباد، لأنه لا يحتاج إلى فعله، فلا بد من أن يكون قد خلق الخلق لغاية تؤدي إليها حكمته، وتلك الغاية تكون كمال خلقه.
صفحة ٣٣
والطريق إلى ذلك الكمال لا يخلو: إما أن يفعله هو، [أ] وأن يعلمنا الطريق إليه:
وما يفعله هو، لا يخلو:
إما أن يفعله - أولا - لا من شئ، ويسمى ذلك الفعل مخترعا.
أو يخلق شيئا من شئ، وهو المتولد.
والمخترع يكون مبدأ المتولد، لأنه لا بد وأن يبتدئ أولا، ثم يخلق منه شيئا.
فقد عرفت - حينئذ - أن الملائكة ملأ خلقهم الله - تعالى - لا عن شئ ، لما علم أن كنه قدرة البشر لا يبلغ أدنى أثر، جعل الملائكة واسطة المتولدات، وهم الذين ذكرهم الله في كتابه: من حملة عرشه وسكان سماواته والذاريات والمرسلات وغيرهم، ممن لا يعلمهم إلا الله - تعالى - كما قال: (... وما يعلم جنود ربك إلا هو...) [الآية (31) من سوره المدثر (74)].
والمقصود من هذا: أن العبد لا يصل إلى كماله ونجاته إلا:
إما بفعله، كخلقه.
[أ] وبعث الملائكة إلى ما يحتاج إليه، وإعلامه بأن كماله فيما هو؟
وهو الكلام في النبوات.
* * *
صفحة ٣٤
فصل في النبوة تقتضي حكمة الصانع - تعالى - إعلام العبد أن كماله فيما هو؟
وكم هو؟
وكيف هو؟
وأين هو؟
ومتى هو؟
وهذه الأشياء مما لا تهتدي إليه عقول البشر، لأنها تفاصيل مقتضى العقل، لأنه يقتضي أن طلب الكمال حسن، والهرب من الهلاك واجب، وهو دفع المضرة: ولكنه لا يهتدي إلى طريق كل واحد منهما - من الكمال والهلاك....
فيختار الحكيم من (1) يستعد لقبول تفاصيل الكمال، ولكن بواسطة الملائكة - الذين هم خواص حضرته - فيفضي إليه ما هو سبب كمالهم، فيسمى " نبيا ".
وقبوله من الملائكة يسمى " وحيا ".
وتبليغه إلى الخلق يسمى " نبوة ".
صفحة ٣٥
ولا بد أن يكون ممن لا يغير ما يوحى إليه، ويؤمن عليه من الكذب، والتغيير، ويسمى " عصمة " وهي: لطف يختار عنده الطاعة، ويصرفه عن المعصية، مع قدرته على خلافه.
فيظهر الله عليه من العلم ما يدل على صدقه بعد دعواه، ويكون ذلك خارقا للعادة، ومما يعجز عنه غيره، فيسمى " معجزا ".
وما يظهره من الطريق إلى النجاة والدرجات، يسمى " شريعة ".
ثم لا تخلو تلك الشريعة من أن تتعلق بمصالح العبد آجلا، أو عاجلا:
فالمصالح الآجلة تسمى " عبادات ".
والمصالح العاجلة تسمى " معاملات ".
كما هي مذكورة في كتب الفقه.
فيضع كل أمر موضعه، ويعلم كل من يطلب مبدأه، ومعاده، والطريق إليه، وينظم الخلق على نظام مستقيم.
وتلك الغاية التي يعلمنا أنها كمالنا، تسمى " معادا وآخرة ".
ويعلمنا - أيضا - مقادير العبادات، والمعاملات، وكيفياتها، وأين يختص بالتوجه إليه؟ كالقبلة، ومتى يجب؟ كأوقات العبادات.
ومتى خالفنا ذلك، إلى ماذا يصير أمرنا؟ ونهلك هلاكا دائما؟ أو منقطعا؟
هذه كلها مما لا يعلم إلا بواسطة.
فعلمنا أن الخلق محتاجون - في هذه الوجوه - إلى من يعلمهم
صفحة ٣٦
هذه الأشياء.
فلما ثبت - على الجملة - وجوب النبوة، بقي علينا أن نثبت نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وهو:
أن الناس ضربان:
ضرب منهم من ينكر النبوة، أصلا.
ومنهم من يثبتها، ولكنه ينكر نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد بينا أن الدليل على صحة نبوة كل نبي العلم المعجز.
وإذا تقرر هذا، فظهور معجز نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أجلى، وأمره في ذلك أعلى، فهو بالنبوة أولى.
وهو: القرآن، الظاهر بين ظهراني البر والفاجر، والباهر بفصاحته على فصاحة كل ماهر.
وغيره، مما ذكر أقله لا يحتمله هذا الموضع، فضلا عن أكثره.
ولما ثبت - بالتجربة، وعليه البراهين المعقولة التي ليس هيهنا موضع ذكرها - أن الإنسان لا يبقى في الدنيا أبدا، فلا بد أن يرجع النبي إلى معاده، ويبقى بعده من يحتاج إلى هذه الأشياء وإلى النظام في أمور الخلق، فيفضي جميع ما تحتاج إليه أمته إلى من يؤمن عليه من التغيير والتبديل.
وهو الكلام في الإمامة.
* * *
صفحة ٣٧
فصل في الإمامة اعلم أن الوصول إلى الكمال والتمام لا يحصل إلا بالنظام، وذلك لا يتم إلا بوجود الإمام.
فوجوده مقرب إلى الطريق المفضي إلى الكمال.
ويأمر بالعدل، وينهى عن الفحشاء والمنكر، فلا بد من وجوده، ما دام التكليف باقيا.
ويجب أن يؤمن عليه مثل ما يؤمن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من التغيير والتبديل، فيكون " معصوما ".
ويجب أن يكون أعلم أهل زمانه، فيما يتعلق بالمصالح الدينية والدنيوية.
ونعلم أنا لا نعرف من هذه صفته إلا بإعلام من قبل الله، وهو:
إما أن يعلمنا على لسان نبيه، وهذا هو " النص ".
وإما بالعلم المعجز عقيب دعواه، عند فقد حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا ثبت هذا، فالإمام - على هذه الصفات، بعد نبينا
صفحة ٣٨
صلى الله عليه وآله وسلم، بلا واسطة - أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام.
لأن الناس ضربان:
أحدهما لا يوجب الإمامة، وهذا يكذبه فعله، واحتياجه إلى الإمام.
والآخر يوجبها.
والقائل بوجوبها على ضربين:
منهم من قال بوجوبها شرعا، وهو باطل، لأنه لو لم يرد الشرع لعلمنا أن الخلق لا بد لهم من ناظم يكون أعلم منهم بنظمهم على طريق مستقيم.
ومن قال بوجوبها عقلا: يعتبر الصفات التي ذكرناها، وكل من أثبت الصفات لم يثبتها إلا لأمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام.
فالقول بوجوب العصمة، مع إثباتها لغيره، خروج عن الإجماع.
ولأن الأخبار المتواترة - من طريق الخاصة والعامة - دلت على تنصيص النبي عليه وآله السلام، عليه وعلى أولاده.
والأخبار المتواترة تفضي إلى العلم، إذا لم تكن عن تواطؤ، ولا ما يجري مجرى التواطؤ، من المراسلة، وهذا لا يمكن في رواة أخبار النص مع تباعد الديار، وعدم معرفة أهل كل بلد لأهل بلد آخر، فعلم
صفحة ٣٩
أنه لا جامع لهم على نقل هذه الأخبار إلا صدقها.
وبعده لأولاده، إلى الثاني عشر عجل الله فرجه، والدليل على إمامته نص النبي عليه ، ونص آبائه، وقولهم حجة.
ودليل وجوده - على الجملة - هو ما دل على أن الزمان - مع بقاء التكليف - لا يجوز أن يخلو من إمام معصوم هو أعلم أهل زمانه.
[سبب غيبة الإمام الثاني عشر عجل الله فرجه] بقي علينا أن نبين سبب غيبته عليه الصلاة والسلام، وهو السبب المحوج للأنبياء إلى الغيبة:
مثل هرب موسى عليه السلام، الذي دل عليه القرآن، حيث قال: (... ففررت منكم لما خفتكم....) [الآية (21) من سورة الشعراء (26)].
وهرب يونس عليه السلام.
ودخول (2) إبراهيم عليه السلام النار.
ودخول نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الغار.
فإذا لم يوجب هرب الأنبياء خللا في نبوتهم، فبأن لا يوجب هرب الإمام - مع أن الأعداء الآن أكثر - أولى.
وأما طول حياته، فمما لا يتعجب منه.
لأن هذا الإنكار: إما أن يكون ممن يثبت قدرة الله، أو ممن لا
صفحة ٤٠
يثبتها:
فمن أثبتها: إن شك في أن الله - تعالى - قادر على إبقائه أحدا، مع أنه قادر على جميع المقدورات، فهو كمن شك في أن الله - تعالى - عالم بجميع الجزئيات، مع أنه عالم بجميع المعلومات.
وأن كان لا يثبته قادرا على ذلك: فالكلام معه لا يكون في الإمامة، والغيبة، ولكنه في كونه - تعالى - قادرا، ومن ثم إلى هنا بون بعيد.
فعلمنا أن ذلك غير منكر.
وإذا كان سبب الغيبة الخوف، والله عالم بجميع المعلومات، فمهما علم أن تلك العلة المحوجة زالت، أظهره.
فإن قلت: فالله قادر على إزالة الخوف، فإذا لم يزله فهو محوجه إلى الغيبة؟!
قلنا: إزالة علة المكلف في التكليف واجبة، ولكن حمله على فعل التكليف بالقهر غير جائز فضلا عن أن يكون واجبا، لأنه لو حمله على ذلك بالجبر، لزال التكليف، وبطل الثواب والعقاب.
* * *
صفحة ٤١
فصل في الكلام في العدل والوعد والوعيد الطاعة: فعل يعرض العبد لعوض مع التعظيم، ويسمى ذلك العوض المقارن " ثوابا ".
والمعصية: فعل يفضي إلى عوض يقارن الاستخفاف، ويسمى ذلك " عقابا ".
والعبد مخلوق على أنه يقدر على اكتساب كلي الطرفين، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: (وهديناه النجدين) [الآية (10) من سورة البلد (90)] طريق الخير وطريق الشر.
ولو لم يقدر على ذلك، لما أمره الله تعالى ولا نهاه، كما أنه لم يأمره بتغيير هيئاته، وألوانه، وأشكاله، التي لا يقدر الإنسان على تغييرها.
وإذا ثبت هذا، فالعبد معرض بالطاعات والتكاليف العقلية والشرعية، لعوض مقارن للتعظيم، وهو " الثواب ".
وهذا هو الذي بينا أن العبد مخلوق له، وهو أنه خلق لا لانتفاع الخالق، بل لانتفاع الخلق.
وكلما كان النفع أجل وأجمل، دل على أن فاعله أجود وأكمل.
وأجل المنافع أن تكون دائمة لا تزول.
صفحة ٤٢
ولما ثبت - قطعا - أن هذه الدار ليست بدار الخلود، ثبت أن دار الخلود غير هذه، وهي دار الآخرة.
فعلم أن هناك بقاءا لا فناء معه، وعلما لا جهل معه، ولذة لا نفرة معها، وعزا لا ذل معه.
ولما لم تصل إلى تفاصيل ما قلناه عقول البشر، شرحه الشرع بالجنة، والحور، والقصور، والنهار، والأشجار والأثمار.
وكل من فوت (1) [على] نفسه هذه الدرجات، بقي في دركات الهلاك، وهي مقابلات ما قلناه، من الفناء، والجهل، والنفرة، والذل.
وشرح جميع ذلك السمع بالجحيم، والحميم، والعقاب، والعذاب الأليم، والعقارب، والحيات، والنيران، واللظى، أعاذنا الله - تعالى - منها.
ولما كان الخلق في باب التكليف على درجتين: مطيع، وعاص، كان العدل أن يبني دارين: جنة ونار.
والمطيع: إما أن يكون في الغاية القصوى، وهو الذي يطيع ولا يعصي، كالملائكة، والأنبياء، والأئمة - على الصحيح من المذهب -.
وإما أن يطيع ويعصي، كسائر المسلمين، من المجرمين.
وإما أن يعصي ولا يطيع، كالشياطين، والكفرة.
و [لما] كانت الطاعة ضربين: علمي، وعملي، كان العوض في
صفحة ٤٣
معرضها:
والعلمي دائم، كمعرفة الله - تعالى - ومعرفة رسوله، والأئمة، ومعرفة الشرائع، فثوابه دائم.
والعملي منقطع، كالصلاة والصدقة، فعوضه منقطع.
والمعصية - أيضا ضربان: اعتقادي، وعملي:
فالاعتقادي عقابه دائم، كالشرك بالله، وتكذيب حجج الله من الأنبياء والأئمة.
والعملي عقابه منقطع، كلطمة اليتيم، وترك الصلاة، والزنا، والرياء، وتفاصيل ذلك مما أورده الشرع.
[المعاد وشؤونه] ولما كان لا بد من إيصال الثواب والعقاب إلى مستحقهما، ولا يصح ذلك إلا بالحشر والنشر، وجب الحشر للعباد.
ولما كان عدله يقتضي أن لا يؤاخذ أحدا على غفلة، فلا بد من حساب يعلمهم الله أن ذلك جزاء أعمالهم.
ولما كانت الأعمال تتفاضل، ولا يمكن معرفة ذلك إلا بتعديل وتسوية، فلا بد من الميزان.
ولا بد من أن تكون مثبتة في كتاب لتقرأ كل نفس كتابها، كما قال: (... كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا...) [الآية (14) من سورة الإسراء (17)] فالكتاب حق.
صفحة ٤٤
وإذا ثبت بالسمع أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، فلا بد من أن يشعر ذلك حتى لا يكون عبثا.
وإذا كان النبي صادقا مصدقا، وأخبر بشفاعته للأمة، وجب تصديقه، لأنا صدقناه على الجملة، فمتى لم نصدقه في هذه القضية بطل ما أثبتناه - أولا - من تصديقه عليه وآله الصلاة والسلام.
ولما كان الناس فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير، فلا بد من طريق لكل فريق، وذلك هو الصراط، الذي وصف بأنه أدق من الشعر.
[و] في هذه الدار له نظير، وهو الطريقة الوسطى التي هي واسطة بين الإفراط والتفريط.
فمتى عبر السالك هذا الصراط - الذي هو بين التفريط والإفراط - عبر ذلك الصراط، كالبرق الخاطف.
ومتى كان هيهنا في الطريق عاثرا (1) يكون هناك كذلك (2).
كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يموت المرء على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه.
ثبتنا الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأقامنا على الصراط المستقيم، إنه رؤوف رحيم.
صفحة ٤٥