بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله سامع الدعاء ودافع البلاء ومفيض الضياء وكاشف الظلماء (1) وباسط الرجاء وسابغ النعماء (2) ومجزل العطاء (3) ومردف الآلاء سامك السماء (4) و ماسك (5) البطحاء (6) والصلاة على خاتم الأنبياء وسيد الأصفياء محمد المخصوص بعموم الدعا وخصوص الاصطفاء والحجة على من في الأرض والسماء وعلى آله الفائزين بخلوص الانتماء (7) ووجوب الاقتداء ما أظلت الزرقاء (8) وأقلت الغبراء (9) صلاة باقية إلى يوم البعث والجزاء وبعد فان الله تعالى من وفور كرمه علم الدعا وندب (10) إليه والهم السؤال وحث (11) عليه ورغب في معاملته والاقدام عليه وجعل في مناجاته سبب النجاة وفى سؤاله مقاليد (12) العطايا ومفاتيح الهبات وجعل لإجابة الدعا أسبابا من خصوصيات الدعوات وأصناف الداعين والحالات والأمكنة والأوقات.
فوضعنا هذه الرسالة على ذلك وسميناه (عدة الداعي (13) ونجاح الساعي (14)) وفيها مقدمة وستة أبواب...
صفحة ٨
اما المقدمة ففي تعريف الدعا والترغيب فيه (1) وهذا أو ان الشروع (2) فنقول: الدعا لغة (3): النداء والاستدعاء تقول: دعوت فلانا إذا ناديته وصحت به واصطلاحا: طلب الأدنى للفعل من الأعلى على جهة الخضوع والاستكانة.
ولما كان المقصود من وضع هذا الكتاب الترغيب في الدعا والحث عليه وحسن الظن بالله وطلب ما لديه، فاعلم أنه قد ورد في الاخبار عن الأئمة الأطهار ما يؤكد ذ لك ويدل عليه ويرغب فيه ويهدى إليه.
روى الصدوق عن محمد بن يعقوب بطرقه إلى الأئمة عليهم السلام: ان من بلغه شئ من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وان لم يكن الامر كما نقل إليه.
وروى أيضا باسناده إلى صفوان عن أبي عبد الله عليه السلام: ان من بلغه شئ من الخير فعمل به كان له اجر ذلك وإن كان رسول الله لم يقله.
وروى محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من سمع شيئا من الثواب على شئ فصنعه كان له اجره وان لم يكن على ما بلغه.
ومن طريق العامة ما رواه عبد الرحمن الحلوان مرفوعا إلى جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من بلغه عن الله فضيلة فاخذها وعمل بما فيها ايمانا بالله ورجاء
صفحة ٩
ثوابه أعطاه الله تعالى ذلك وان لم يكن كذلك. فصار هذا المعنى مجمعا عليه عند الفريقين. (1)
صفحة ١٠
(الباب الأول) في الحث على الدعا ويبعث عليه العقل والنقل اما العقل فلان دفع الضرر عن النفس مع القدرة عليه والتمكن منه واجب وحصول الضرر ضروري الوقوع لكل انسان في دار الدنيا (1) إذ كل انسان لا ينفك عما يشوش (2) نفسه ويشغل عقله ويضر به اما من داخل كحصول عارض يغشى (3) مزاجه، أو من خارج كأذية ظالم، أو مكروه يناله من خليط (4) أو جار ولو خلا من الكل بالفعل فالعقل يجوز وقوعه فيها واعتلاقه بها.
كيف لا؟ وهو في دار الحوادث التي لا تستقر على حال ففجايعها لا ينفك عنها آدمي اما بالفعل أو بالقوة فضررها اما حاصل واقع أو متوقع الحصول وكلاهما يجب ازالته مع القدرة عليه والدعا محصل لذلك وهو مقدور فيجب المصير إليه
صفحة ١١
وقد نبه أمير المؤمنين وسيد الوصيين صلوات الله عليه وآله على هذا المعنى حيث قال: ما من أحد ابتلى وان عظمت بلواه بأحق بالدعا من المعافى الذي لا يأمن من البلاء (1) فقد ظهر من هذا الحديث احتياج كل أحد إلى الدعا معافا ومبتلى، وفايدته رفع البلاء الحاصل ودفع السوء النازل (2) أو جلب نفع مقصود أو تقرير خير موجود ودوامه ومنعه من الزوال لأنهم عليهم السلام وصفوه بكونه سلاحا، والسلاح مما يستجلب (يجلب) به النفع ويستدفع به الضرر وسموه أيضا ترسا (3) والترس: جنة يتوقى بها من المكاره (4).
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الا أدلكم على سلاح (5) ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم؟ (6) قالوا: بلى يا رسول الله قال: تدعون ربكم بالليل والنهار فان سلاح المؤمن الدعا.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: الدعا ترس المؤمن ومتى تكثر قرع الباب يفتح لك.
وقال الصادق (ع): الدعا انفذ من السنان الحديد. (7) وقال الكاظم (ع): ان الدعا يرد ما قدر وما لم يقدر قال: قلت: وما قد قدر فقد عرفته فما لم يقدر؟ حتى لا يكون. (8)
صفحة ١٢
وقال (ع): عليكم بالدعا فان الدعا والطلب إلى الله تعالى يرد البلاء وقد قدر وقضى فلم يبق الا امضائه فإذا دعى الله وسئل صرفه صرفه.
وروى زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: الا أدلكم على شئ لم يستثن (1) فيه رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قلت: بلى قال: الدعا يرد القضا وقد ابرم ابراما وضم أصابعه.
وعن سيد العابدين (ع) ان الدعا والبلاء ليتوافقان (2) إلى يوم القيمة ان الدعا ليرد البلاء وقد ابرم ابراما.
وعنه (ع) الدعا يرد البلاء النازل وما لم ينزل (3) فقد صح بهذه الأحاديث وما في معناها وهو كثير لم نورده حذر الإطالة ظن دفع الضرر بل علمه للقطع بصحة خبر الصادق (الصادقين).
واما النقل فمن الكتاب والسنة اما الكتاب فآيات:
منها قوله تعالى: (قل ما يعبؤ بكم (4) ربى لولا دعائكم).
صفحة ١٣
وقوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيد خلون جهنم داخرين) (1) فجعل الدعا عبادة والمستكبر عنها بمنزلة الكافر.
وقوله تعالى: (وادعوه خوفا وطمعا) وقوله تبارك وتعالى: (وإذا سئلك عبادي عنى فانى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) واعلم أن هذه الآية قد دلت على أمور: (2) الأول تعريضه (3) تعالى لعباده بسؤاله بقوله: (وإذا سئلك عبادي عنى فانى قريب) الثاني غاية عنايته بمسارعة اجابته ولم يجعل الجواب موقوفا على تبليغ الرسول بل قال: (فانى قريب) ولم يقل: قل لهم: انى قريب.
الثالث خروج هذا الجواب بالفاء المقتضى للتعقيب بلا فصل الرابع تشريفه تعالى لهم برد الجواب بنفسه لينبه بذلك على كمال منزلة الدعا وشرفه عنده تعالى ومكانه منه.
قال الباقر (ع): ولا تمل (4) من الدعا فإنه من الله بمكان (5) وقال (ع) لبريد بن معاوية بن وهب وقد سئله كثرة القراءة أفضل أم كثرة الدعا؟
فقال (ع) كثرة الدعا أفضل ثم قرء (قل ما يعبؤ بكم ربى لولا دعائكم).
صفحة ١٤
الخامس دلت هذه الآية على أنه تعالى لامكان له إذ لو كان له مكان لم يكن قريبا من كل من يناجيه.
السادس امره تعالى لهم بالدعا في قوله: (فليستجيبوا لي) أي فليدعوني.
السابع قوله تعالى (وليؤمنوا بي) وقال الصادق (ع) أي وليتحققوا انى قادر على اعطائهم ما سئلوه فأمرهم باعتقادهم قدرته على اجابتهم.
وفيه فايدتان: اعلامهم باثبات صفة القدرة له. وبسط رجائهم في وصولهم إلى مقترحاتهم (1) وبلوغ مراداتهم ونيل سؤالاتهم فان الانسان إذا علم قدرة معامله ومعاوضه على دفع عوضه كان ذلك داعيا له إلى معاملته ومرغبا له في معاوضته كما أن علمه بعجز ه عنه على الضد من ذلك، ولهذا تريهم يجتنبون معاملة المفلس.
الثامن تبشيره تعالى لهم بالرشاد (2) الذي هو طريق الهداية المؤدى إلى المطلوب فكأنه بشرهم بإجابة الدعا.
ومثله قول الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام: من تمنى شيئا وهو لله رضا لم يخرج من الدنيا حتى يعطاه. ويروى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وقال (ع): إذا دعوت (3) فظن حاجتك بالباب.
فان قلت: نرى كثيرا من الناس يدعون الله فلا يجيبهم فما معنى قوله تعالى:
(أجيب دعوة الداع)؟ (4) فالجواب: سبب منع الإجابة الاخلال بشرطها (بشروطها) من طرف السائل اما
صفحة ١٥
بان يكون قد سئل الله عز وجل غير متقيد بآداب الدعا ولا جامع لشرايطه، وللدعا آداب وشروط لابد منها تأتى أنشأ الله تعالى.
روى عثمان بن عيسى عمن حدثه، عن أبي عبد الله (ع) قال: قلت: آيتين في كتاب الله أطلبهما (1) ولا أجدهما قال (ع): ما (وما) هما؟ قلت: قول الله عز وجل: (ادعوني استجب لكم) فندعوه فلا (ولا) نرى إجابة قال (ع): افترى الله اخلف وعده؟ قلت: لا قال: فلم (فمم) ذلك؟ قلت: لا ادرى.
فقال (ع): ولكني (لكني) أخبرك من أطاع الله فيما امره ثم دعاه من جهة الدعا اجابه قلت: وما جهة الدعا؟ قال (ع): تبدء فتحمد الله وتذكر نعمه عندك ثم تشكره، ثم تصلى على النبي وآله (ص )، ثم تذكر ذنوبك فتقربها ثم تشتغفر الله (تستغفر) منها فهذه (فهذا) جهة الدعا.
ثم قال (ع): وما الآية الأخرى؟ قلت: قول الله عز وجل: (وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه (2) وهو خير الرازقين) وانى لأنفق ولا ادرى خلفا قال: افترى الله اخلف وعده؟ قلت:
لا قال: فلم (فمم) ذلك؟ قلت: لا ادرى قال (ع): لوان أحدكم اكتسب المال من حله (3) وانفقه في حقه (حله) لم ينفق رجل درهما الا اخلف عليه.
واما أن يكون قد سئل ما لاصلاح فيه ويكون مفسدة له أو لغيره إذ ليس أحد يدعو الله سبحانه وتعالى على ما توجبه الحكمة فيما فيه صلاحه الا اجابه، وعلى الداعي ان يشترط (4) ذلك بلسانه أو يكون منويا في قلبه فالله يجيبه البتة ان اقتضت ا لمصلحة اجابتها، أو يؤخر له ان اقتضت المصلحة التأخير.
قال الله تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم اجلهم).
وفى دعائهم السلام يامن لا يغير حكمته الوسائل.
صفحة ١٦
ولما كان علم الغيب منطويا عن العبد، (1) وربما تعارض عقله قوى الشهوية وتخاطه الخيالات النفسانية فيتوهم أمرا فيه فساده صلاحا فيطلبه من الله سبحانه ويلح في السؤال عليه، ولو يعجل الله اجابته ويفعله به لهلك البتة (2).
وهذا أمر ظاهر العيان غنى عن البيان كثير الوقوع، فكم نطلب أمرا ثم نستعيذ منه، وكم نستعيذ من أمر ثم نطلبه، وعلى هذا خرج (3) قول علي عليه السلام: رب أمر حرص الانسان عليه فلما أدركه ود ان لم يكن أدركه.
وكفاك قوله تعالى: (وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) فان الله تعالى من وفور كرمه وجزيل نعمه لا يجيبه إلى ذلك اما لسابق رحمته به فإنه هو الذي سبقت رحمته غضبه وإنما أنشأه (4) رحمة به وتعريضا (تعرضا) لاثابته (5) وهو الغنى عن خلقه ومعاقبته أو لعلمه سبحانه بان المقصود للعبد من دعائه هو اصلاح حاله، فكأن ما طلبه ظاهرا غير مقصود له مطلقا بل بشرط نفعه له فالشرط المذكور حاصل في نيته وان لم يذكره بلسانه بل وان لم يخطر بقلبه حالة الدعا هذا الشرط، فهو كالأعجمي الذي لقن لفظا لا يعرف معناه أو سمع لفظا توهمه علما على شئ ثم طلبه من عارف يقصده فإنه يعطيه ما علم قصده إليه لا ما دل ظاهر لفظة عليه، وهذا هو معنى الدعا الملحون الذي لا يقبله الله على ما ورد في بعض الأخبار.
صفحة ١٧
فان قلت: قد ورد عن أبي جعفر الجواد (ع) أنه قال: ما استوى رجلان في حسب (1) ودين قط الا كان أفضلهما عند الله عز وجل أدبهما (2) قال: قلت: جعلت فداك قد علمت فضله عند الناس في النادي (3) والمجالس فما فضله عند الله عز وجل؟ قال (ع): بقرائة القران كما انزل ودعائه الله عز وجل من حيث لا يلحن (4) وذلك أن الدعاء الملحون لا يصعد ا لي الله عز وجل (5).
ويقرب منه قول الصادق (ع) نحن قوم فصحاء إذا رويتم عنا فاعربوها (6).
فإن كان المراد من هذين الحديثين ما دل عليه ظاهرهما فكثيرا ما نرى من إجابة الدعوات غير المعربات، وكثيرا ما نشاهد من أهل الصلاح والورع ومن يرجى إجابة دعائهم لا يعرفون شيئا من النحو.
وأيضا إذا لم يكن دعائه مسموعا فلا فايدة فيه فلا يكون مأمورا به لانتفاء فائدته ح، ولا يتوجه الامر بالدعا الا إلى حذاق (7) النحاة بل النحوي أيضا ربما يلحن في بعض الأدعية لافتقارها إلى الاضمار والتقدير والحذف، واشتغاله حالة الدعا بالخشوع والتوجه إلى الله تعالى عن استحضار أدلة النحو وقوانينه، وكل هذه الأمور باطلة خلاف المشاهد من العالم (العلم) وضد المعلوم من اخبارهم عليهم السلام ووصاياهم فإنهم دلوا على كل شئ يتعلق بمصالح العباد، وقد ذكروا في آداب الدعا وشروطه أمورا كثيرة ستقف عليها في هذا الكتاب أنشأ الله تعالى (8) ولم يذكروا الاعراب ولا معرفة النحو فيها، وإذا لم يكن المراد منهما ذلك فما معناهما؟
صفحة ١٨
فاعلم أيدك (1) الله انه لما كان الواقع خلاف ما دل عليه ظاهر الخبرين عدل الناس إلى تأويلهما، فبعض قال: الدعاء الملحون دعاء الانسان على نفسه في حالة ضجرة بما فيه ضررها واستشهد على ذلك بقوله تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم للخير لقضى إليهم اجلهم) قال المفسرون: أي ولو يعجل الله للناس الشر أي إجابة دعائهم في الشر إذا دعوا به على أنفسهم وأهليهم عند الغيظ (2) والضجر مثل قول الانسان: رفعني الله من بينكم. استعجالهم بالخير أي كما يعجل لهم إجابة الدعوة بالخير إذا استعجلوه بالخير لقضى إليهم اجلهم لفرغ من اهلاكهم، ولكن سبحانه تعالى لا يعجل لهم الهلاك بل يمهلهم (3) حتى يتوبوا وقال بعضهم: الدعاء الملحون دعاء الوالد على ولده في حال ضجره منه لان النبي صلى الله عليه وآله سئل الله عز وجل: ان لا يستجيب دعاء محب على حبيبه.
وبعضهم قال: الذي لا يكون جامعا لشرايطه والكل بمعزل عن التحقيق لان مقدمة الخبر لا تدل على ذلك لان الكلام قد ورد في معرض مدح النحو.
بل التحقيق ان نقول: اما الخبر الأول فالمراد من قوله عليه السلام: ان الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله عز وجل أي لا يسمعه ملحونا، ويجازى عليه جاريا على لحنه مقابلا له بما دل ظاهر لفظة عليه بل يجازى على قصد الانسان من دعائه.
كما سمع من بعضهم يقول عند زيارته المعصوم عليهم السلام: واشهد انك قتلت وظلمت وغصبت بفتح أول الكلمة، ومن المعلوم بالضرورة ان هذا الدعا لو سمع منه جاريا على لحنه لحكمنا بارتداده ووجوب تعزيره ولم يقل: به أحد، فدل ذلك على ا ن الدعا لا يجزى (يجرى) على ظاهر لفظة إذا كان المقصود منه غير ذلك.
ويدل عليه أيضا اجماع الفقهاء على الله تعالى درجاتهم على أن الانسان (انسانا) لو قذف (4)
صفحة ١٩
اخرا بلفظ لا يفيد القذف في عرف القائل لم يكن قاذفا ولم يتوجه عليه عقوبة وإن كان ذلك اللفظ مفيدا للقذف في عرف غيره، فعلم أن اعراب الألفاظ في الدعا ليس شرطا في اجابته والإثابة عليه، بل هو شرط في تمامية فضيلته وكمال منزلته وعلو مرتبته.
وخرج (1) قول الجواد عليه السلام: ودعائه الله من حيث لا يلحن مخرج المدح، وذلك أن الدعا إذا لم يكن ملحونا كان ظاهر الدلالة في معناه، والألفاظ الظاهر الدلالة في معانيها أفضل من الألفاظ المتأولة ولهذا كانت الحقيقة أفضل (2) من المجاز والمبين أولى من المجمل.
وأيضا فإنه أفصح والفصاحة مرادة في الدعا وخصوصا إذا كان مقولا عن الأئمة عليهم السلام ليدل على فصاحة المنقول عنه وفيه اظهار لفضيلة المعصوم.
وأيضا فان اللفظ إذا كان معربا لم ينفر عنه طبع السامع إذا كان نحويا وإذا سمعه ملحونا نفر طبعه عنه وربما تألم منه قيل: سمع الأعمش (3) رجلا يتكلم ويلحن في كلامه فقال: من هذا الذي يتكلم وقلبي منه يتألم؟.
وروى أن رجلا قال لرجل: أتبيع هذا الثوب؟ فقال: لا عافاك الله فقال: لقد علمتم لو تعلمون قل: لا وعافاك الله.
وروى أن رجلا قال لبعض الأكابر وقد سئله عن شئ فقال: لا وأطال الله بقاك فقال:
ما رأيت واوا أحسن موقعا من هذه.
وقوله عليه السلام: ان الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله: أي لا يصعد ملحونا إليه يشهد عليه الحفظة بما يوجبه اللحن إذا كان مغيرا للمعنى، ويجازى عليه كذلك بل يجازيه على قدر قصده ومراده من دعائه.
ويؤيد ذلك ما رواه محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي
صفحة ٢٠
عن السكوني عن أبي عبد الله (ع) قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: ان الرجل الأعجمي (1) من أمتي ليقرء القرآن بعجمية فترفعه الملائكة على عربيته.
مع انا نجد في أدعية أهل البيت عليهم السلام ألفاظ لا تعرف معانيها، وذلك كثير:
فمنه أسماء واقسامات (2)، ومنه اغراض وحاجات وفوائد وطلبات (3)، فنسئل عن الله بالأسماء ونطلب منه تلك الأشياء ونحن غير عارفين بالجميع، ولم يقل أحد: ان مثل هذا الدعا إذا لم يكن معربا يكون مرد ودامع ان فهم العامي لمعان الألفاظ الملحونة أكثر من فهم النحوي لمعاني دعوات عربية لم يقف على تفسيرها ولغاتها بل عرف مجرد اعرابها، بل الله يجازيه على قدر قصده ويثيبه على نيته.
لقوله صلى الله عليه وآله: الأعمال بالنيات.
وقوله (ص): نية المؤمن خير من عمله (4) وهذا نصفى هذا الباب لان الجزاء وقع على النية فانتفع به الداعي، ولو وقع على العمل الظاهر لهلك.
ولقوله (ص): ان سين بلال عند الله شين.
وجاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين ان بلالا كان يناظر اليوم فلانا فجعل يلحن في كلامه، وفلانا يعرب ويضحك من بلال فقال أمير المؤمنين: يا عبد الله إنما يراد اعراب الكلام وتقويمه لتقويم الأعمال وتهذيبها، ما ينفع فلانا اعرابه وتقويمه لكلامه إذا كانت أفعاله ملحونة أقبح لحن؟ وماذا يضر بلالا لحنه في كلامه إذا كانت أفعاله
صفحة ٢١
مقومة أحسن تقويم ومهذبة (1) أحسن تهذيب.
فقد ثبت بهذا الحديث ان اللحن (2) قد يدخل في العمل كما يدخل في اللفظ، وان الضرر فيه عائد إلى وقوعه في العمل دون اللفظ.
واما الخبر الثاني فالمراد به في الاحكام.
وهذا مثل قول النبي (ص): رحم الله (نضر الله) (3) من سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل علم ليس بفقيه.
وهو قول الصادق (ع): إذا رويتم عنا فاعربوها لان الاحكام تتغير بتغير الاعراب في الكلام.
ألا ترى إلى قوله (ص) حين سئل انا نذبح الناقة والبقرة والشاة وفى بطنه الجنين (4) أنلقيه أم نأكله؟ قال صلى الله عليه وآله: كلوه ان شئتم فان ذكاة أمه فبعض الناس يروى ذكاة الثاني بالرفع فيكون معناه ان ذكاة أمه تبيحه وهي كافية عن تذكيته (5) وبعض رواها بالنصب (6) فيكون معناه: ان ذكاة الجنين مثل ذكاة ا مه فلابد فيه من تذكية له بانفراده ولا تبيحه ذكاة أمه فافهم ذلك فإنه من مغاص (7) الفهم ورقيق العلم.
فان قلت: قد ظهر ان الباري سبحانه لا يفعل خلاف مقتضى الحكمة، وانه الذي لا تبدل حكمته الوسائل فما اشتمل على خلاف المصلحة لا يفعله مع الدعا، وما اشتمل على المصلحة فإنه يفعله وان لم يسئل لأنه إنما أنشأ الانسان وخلقه رحمة به
صفحة ٢٢
واحسانا إليه فما معنى الدعا إذا انتفت فايدته؟
فالجواب من وجوه: الأول لا يمتنع أن يكون وقوع ما سئله إنما صار مصلحة بعد الدعا ولا يكون مصلحة قبله.
وقد نبه على ذلك الصادق (ع) في قوله لميسر بن عبد العزيز: يا ميسر ادع الله ولا تقل: ان الامر (1) قد فرغ منه ان عند الله منزلة لا تنال الا بمسألة ولو أن عبدا سد فاه ولم يسئل لم يعط شيئا، فاسئل تعط يا ميسر انه ليس يقرع (2) باب الا يوشك ان يفتح لصاحبه.
وروى عمرو بن جميع عنه (ع) من لم يسئل الله من فضله افتقر.
وعن علي عليه السلام ما كان الله ليفتح باب الدعا ويغلق عنه (عليه) باب الإجابة.
وقال عليه السلام: من اعطى الدعا لم يحرم الإجابة.
الثاني ان الدعا عبادة في نفسه تعبد الله عباده به لما فيه من اظهار الخشوع والافتقار إليه وهو أمر مطلوب لله عز وجل من عبيده.
قال الله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون (3) والعبادة في اللغة هي الذلة يقال: طريق معبد أي مذلل بكثرة الوطي عليه، وفى الاصطلاح العبادة أو في ما يكون من التذلل والخشوع للمعبود.
صفحة ٢٣
وعن النبي (ص) أنه قال: الدعا مخ العبادة (1).
وفيما وعظ الله تعالى به عيسى (ع) يا عيسى أذل لي قلبك وأكثر ذكرى في الخلوات، واعلم أن سروري ان تبصبص إلى، وكن في ذلك حيا ولا تكن ميتا (2).
الثالث روى أن دعاء المؤمن يضاف إلى عمله ويثاب عليه في الآخرة كما يثاب على عمله.
الرابع ان الإجابة ان كانت مصلحة والمصلحة في تعجيلها عجلت، وان اقتضت المصلحة تأخيرها إلى وقت أجلت إلى ذلك الوقت، وكانت الفايدة من الدعا مع حصول المقصود زيادة الاجر بالصبر في هذه المدة، وان لم يوصف بالمصلحة في وقت ما وكان في الإجابة مفسدة استحق بالدعا الثواب، أو يدفع عنه من السوء مثلها ويدل على هذه الجملة:
ما رواه أبو سعيد الخدري قال : قال رسول الله (ص): ما من مؤمن دعا الله سبحانه وتعالى دعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا اثم الا أعطاه الله بها إحدى (أحد) خصال ثلاث: اما ان يعجل دعوته، واما أن يؤخر له، واما ان يدفع عنه من السوء مثلها قالوا: يا ر سول الله اذن نكثر قال: الله (أكثروا) أكثر.
وفى رواية انس بن مالك أكثر وأطيب ثلاث مرات.
وعن أمير المؤمنين (ع) ربما أخرت عن العبد إجابة الدعا ليكون أعظم لاجر السائل
صفحة ٢٤
وأجزل لعطاء الامل.
الخامس بما أخرت الإجابة عن العبد لزيادة صلاحه وعظم منزلته عند الله عز وجل ان الله إنما أخر اجابته لمحبته سماع صوته.
روى جابر بن عبد الله قال: قال النبي (ص): ان العبد ليدعو الله وهو يحبه فيقول لجبرئيل: اقض لعبدي هذا حاجته واخرها فانى أحب ان لا أزال اسمع صوته، وان العبد ليدعو الله عز وجل وهو يبغضه فيقول: يا جبرئيل اقض لعبدي هذا حاجته وعجلها فانى أكره ان اسمع صوته.
تنبيه وأنت إذا دعوت فلا يخلوا ما ان ترى آثار الإجابة، أولا، فان رأيت آثار الإجابة فمهلا لا تعجب (1) بنفسك وتظن أن دعوتك انا أجيبت لصلاحك وطهارة نفسك.
فلعلك ممن كره الله نفسه وابغض صوته، والإجابة حجة عليك يوم القيامة يقول لك: ألم تكن دعوتني وأنت مستحق للاعراض عنك فأجبتك؟
بل ينبغي أن يكون همك بالشكر والزيادة في العمل والصلاح لما أولاك الله من الطافه الباسطة لرجائك المرغبة لك في دعائك، وتسئل الله ان يجعل ما عجله لك بابا من أبواب لطفه ونفحة من نفحات (2) رحمته، وان يلهمك زيادة الشكر على ما أولاك من تعجيل إجابة لست لها باهل وهو أهل لذلك، وان لا يكون ذلك منه استدراجا، (3) وعليك بالاكثار من الحمد والاستغفار، فالحمد مقابل النعمة والمنة إن كان سبب الإجابة الرحمة، والاستغفار إن كان سببها الاستدراج والبغضة.
صفحة ٢٥
وان لم تر آثار الإجابة فلا تقنط (1) وابسط (2) رجائك في كرم مولاك فإنه ربما أخرت اجابتك لان الله تعالى يحب ان يسمع دعائك وصوتك فعليك بالالحاح اما أولا فلتحوز (3) نصيبا من دعائه (ع) حيث يقول: رحم الله عبدا طلب من الله شيئا (حاجة) فالح عليه.
وأما ثانيا فلتصادف محبة الله تعالى لأنه إنما اخرك بحبه سماع صوتك فلا تقطع ذلك.
وأما ثالثا فلتعجيل قضاء الحاجة بتكرار الدعا على ما ورد (4) واقبض نفسك الامارة بالخوف من الله تعالى جل جلاله.
وقل: لعلى إنما لم يستجب لي جل جلاله لان دعائي محجوب وعملي لا ترفعه الملائكة لكثرة ذنوبي، أو لكثرة المظالم والتبعات (5) قبلي أو لان قلبي قاس (6) أولاه (7) أو ظني غير حسن بربي، وكل هذه الأمور حاجبة للدعا على ما سيجيئ (8) أو لان هذا الكمال لست له اهلا فمنعته ولو كنت له اهلا لأفاضه الكريم الرحيم عليك من غير سؤال فاذن يحصل لك الخوف تعرف انك في محل التقصير، وان مقامك مقام العبد الحقير الذي أبعدته عيوبه وطردته ذنوبه وقعدت به أعماله وحبسته آماله وحرمته شهواته وأثقلته تبعاته ومنعته من الجرى في ميدان السالكين وعاقته عن الترقي إلى درجات الفائزين.
صفحة ٢٦
وتحقق انك مع هذا البعد والحقارة عن مولاك وقعودك بأثقالك متخلفا عن السابقين ومنفردا عن المخذولين (1) ان تخاذلت ساكتا عن الاستغاثة بمولاك ومتقاعسا (2) عن الاستقامة في طلب هداك يوشك ان ينهز (3) بك الشيطان فرصة الظفر، فتعلق بك مخالبه (4) فتنشب (5) في حبائله فلا تقدر على الخلاص وتلحق بالأشقياء المعذبين.
بل عليك بكثرة الاستغاثة والصراخ (6) قبل ان تعلق بك الفخاخ (7) ولازم قرغ الباب عسى ان يرفع بك الحجاب، وقل بلسان الخجل والانكسار في مناجاة ملك الجبار: الهي وسيدي ومولاي إن كان ما طلبته من جودك وسئلته من كرمك غير صالح لي في ديني ودنيا وان المصلحة لي في منع إجابتي فرضني مولاي بقضائك وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت، واجعل نفسي راضية مطمئنة بما يرد على منك، وخر لي واجعله أحب إلى من غيره وآثر (8) عندي مما سواه.
وإن كان منعك إجابتي واعراضك عن مسئلتي لكثرة ذنوبي وخطاياي فانى أتوسل إليك بأنك ربى وبمحمد نبيي وباهل بيته الطيبين الطاهرين ساداتي، وبغناك عنى وبفقري إليك وباني عبدك، وإنما يسئل العبد سيده والى من حينئذ منقلبنا عنك؟
والى أين مذهبنا عن بابك؟ وأنت الذي لا يزيده المنع ولا يكيده (9) الاعطاء وأنت أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
صفحة ٢٧