كتاب
عروس الأفراح
في شرح تلخيص المفتاح
تأليف
الشيخ بهاء الدين السبكي
تحقيق
الدكتور عبد الحميد هنداوي
مدرس البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة
[الجزء الأول]
المكتبة العصرية
صفحة غير معروفة
بسم الله الرّحمن الرحيم
مقدمة المحقق
الحمد لله الذى خص بهذا العلم قوما هم به قائمون، وجعلهم حفظة لكتابه حيث قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ
فلما جزم الله تعالى بحفظ كتابه من عوادى الدهر ونوازله، تكفل لأولى الألباب حفظه تعالى لهذه الطائفة ما بقى كتابه أبد الدهر.
فلا يخلو عصر من مجدد للبلاغة معيد لرونقها يجلو عنها ما علاها من غبرة الأخلاط، ولكنة الاختلاط.
ولقد مرت البلاغة بعصور مزهرة فاح عبيرها وشذاها فى كتب الأوائل، ولا زلنا نتنسم إلى اليوم نسيمها، ونعطر رسائلنا بعرفها وأريجها.
والبلاغة وإن تعددت مناهج الناس فى دراستها، واختلفت وتباينت مسالكهم إليها، فإن لها فى النهاية غاية واحدة، وهى الوقوف على وجوه جمال التعبير، ومعرفة أسرار الجمل والتراكيب.
لقد مرت البلاغة العربية فى مسيرتها بأطوار شتى اختلفت فيها دروب السالكين ومناهجهم وإن اتحد القصد - كما بينا - فتفاوتت تلك المناهج بين الذاتية والموضوعية وبين الأدبية والتجريدية، والكلامية والمنطقية، وبين الإيجاز والإطناب، الإيجاز الذى قد يصل إلى حدّ التعقيد، ويتسم بجفاف المادة، وقلة الشواهد، وندرة التحليل، والإطناب الذى يبالغ فى الشرح والإفصاح والإكثار من الشواهد والتحليلات كما رأينا عند ابن الأثير والعلوى على سبيل المثال.
كما تنوعت بين الميل إلى التجريد والتعقيد الشديد أو قل: التعقيد كما رأينا عند ابن قدامة وابن سنان والرازى وغيرهم.
وبين إرسال القول على عواهنه وإرخاء الزمام لخواطر العقل، وسوانح الفكر كما رأينا فى مصنفات الأقدمين.
ومنهم من سلك طريقة وسطا بين العناية بالتحليل ورونق التعبير، وحلاوة المنطق، وفصاحة التعبير
1 / 3
وبين التعقيد والتجريد كما فعل عبد القاهر فى كتابه أسرار البلاغة، غير أنه قد اضطرب الزمام فى يده فى دلائل الإعجاز لانشغاله بالرد على متكلمة زمانه والسابقين عليه.
وبعد هذه المقدمة أقول:
إن لكل مرحلة إذا طبيعتها من حيث منهج التأليف سواء فى علوم البلاغة أو غيرها من العلوم، وإنه لمن الظلم الواضح البين أن نحاكم مؤلفات القرن الثامن الهجرى وما بعده - حيث شروح التلخيص والمفتاح على كثرتها - إلى المناهج الحديثة فى الدرس البلاغى، فلكل عصر طبيعته ومنهجه.
وينبغى ألا يصدنا ذلك عن الاهتمام بتحقيق تلك المصادر وتنقيحها وإعادة طبعها ونشرها على الوجه العلمى اللائق بها، حيث تبدو أهميتها فى كونها حلقة من حلقات التراث البلاغى الذى إن فقدنا حلقة منه انقطع إسناده إلينا.
وكما ينبغى على راوى الحديث أن يثبت سلسلة الإسناد بكل رواتها دون نظر إلى حالهم من حيث العدالة أو التجريح، فكذلك تقتضى الأمانة العلمية إظهار التراث البلاغى بكل حلقاته كما هى بما فيها من ضعف أو قوة.
وأخيرا نقول: إن هذه المؤلفات قد أثرت تأثيرا كبيرا فى الإنتاج اللاحق بها، ولا يمكن تفسير ذلك الإنتاج وفهمه على وجه الصواب، إلا بعد الاصطبار على تلك المصنفات ومحاولة فهمها واستيعابها مهما لقى الباحث فى سبيل ذلك من معاناة، وبذل من جهد.
ولذا فنحن نقدم لدارس البلاغة كتاب عروس الأفراح فى ثوب قشيب يليق بجلالته، وبما ترك من تأثير كبير فى التأليف البلاغى بعده، وبما أثاره من مباحث وقضايا عديدة فى التراث البلاغى.
ولقد ذاع صيت السبكى صاحب هذا الكتاب بمصنفه هذا، وبلغت شهرته الآفاق، فحرىّ بنا أن نقف على ما فيه حتى تكتمل لدينا حلقات تراثنا البلاغى وحتى يتصل إلينا إسناده على حقيقته من قوة أو ضعف.
هذا وقد حاولنا جهدنا فى ضبط الكتاب على نسخه القديمة العتيقة، مع مراجعة بعض نسخه المخطوطة بدار الكتب المصرية.
1 / 4
كما قمنا بتفقيره ووضع علامات الترقيم حيث جاءت طبعاته السابقة خلوا من تلك العلامات تماما، فاختلط شعره بنثره، ومتنه بشرحه، وامتلأ بالتصحيفات والأخطاء، فحاولنا إصلاح ذلك ما أمكن، كذلك فقد اعتنينا بتخريج شواهده القرآنية والحديثية والشعرية.
ووضعنا كتاب التلخيص متنا له، وذلك لصعوبة وصول القارئ إلى بغيته من شرح ما يبتغى من متنه لتداخل بعضه ببعض.
هذا، والله نسأل أن يغفر لنا زلاتنا، وأن يجزل لنا المثوبة، وأن ينفع به من شاء من عباده، إنه تعالى هو نعم المولى ونعم النصير.
وكتبه/ عبد الحميد هنداوى مدرس البلاغة والنقد الأدبى بكلية دار العلوم جامعة القاهرة الجيزة فى ١٥/ ٣ / ١٤٢١ هـ
1 / 5
خطة التحقيق
١ - قمنا بضبط النص على مخطوطة الكتاب المحفوظة بدار الكتب المصرية.
٢ - قمنا بترقيمه بعلامات الترقيم المناسبة.
٣ - تخريج الشواهد القرآنية.
٤ - تخريج الشواهد الحديثية فى كتب الحديث المشهورة.
٥ - تخريج الشواهد الشعرية فى دواوينها ومصادرها لا سيما كتب الأدب وكتب التراث البلاغى.
٦ - شرح معانى الألفاظ الغريبة.
٧ - الترجمة لأعلام البلاغة المذكورين فى الكتاب.
٨ - ترجمنا ترجمة مختصرة لكل من الخطيب القزوينى صاحب التلخيص والسبكى صاحب عروس الأفراح.
٩ - وضع متن التلخيص أعلى الصفحة وعروس الأفراح كالشرح عليه أسفل الصفحة.
١٠ - الفهارس العلمية الشاملة للموضوعات وللشواهد القرآنية الشعرية.
1 / 6
ترجمة جلال الدين القزوينى صاحب" التلخيص"
اسمه ونسبه:
هو محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن الحسن بن على بن إبراهيم بن على بن أحمد بن دلف بن أبى دلف العجلى القزوينى جلال الدين أبو المعالى بن سعد الدين بن أبى القاسم بن إمام الدين الشافعى العلامة.
ولادته ونشأته:
ولد سنة ست وستين وستمائة ٦٦٦ هـ وسكن الروم مع والده وأخيه واشتغل وتفقه حتى ولى قضاء ناحية بالروم وله دون العشرين، ثم قدم هو وأخوه أيام التتر من بلادهم إلى دمشق.
صفته:
كان فهما ذكيّا مفوها حسن الإيراد جميل الذات والهيئة والمكارم، وكان جميل المحاضرة حسن الملتقى حلو العبارة حاد الذهن جيد البحث منصفا، فيه مع الذكاء والذوق فى الأدب حسن الخط.
وكان جوادا صرف مال الأوقاف على الفقراء والمحتاجين. وكان مليح الصورة فصيح العبارة كبير الذقن موطأ الأكناف جم الفضيلة يحب الأدب ويحاضر به ويستحضر نكته.
طلبه للعلم ومشايخه:
سمع من العز الفاروتى (١) وطائفة وأخذ عن الأيكى وغيره وخرج له البرزالى جزءا من حديثه وحدث به وتفقه واشتغل فى الفنون وأتقن الأصول والعربية والمعانى والبيان.
وكان يرغب الناس فى الاشتغال بأصول الفقه وفى المعانى والبيان.
_________
(١) كذا فى الدرر الكامنة، وفى بغية الوعاة: الفاروثى، وفى مفتاح السعادة: الفاروقى.
1 / 7
ولى القضاء فى ناحية الروم ثم دمشق ثم مصر ثم دمشق، وخطب بجامع القلعة لما أتى مصر بأمر من السلطان.
قال عنه صاحب كشف الظنون:" المعروف بخطيب دمشق" ولعل هذا سبب شهرته بالخطيب القزوينى، وكان يفتى كثيرا.
مصنفاته:
قال ابن كثير:" له مصنفات فى المعانى، مصنف مشهور اسمه التلخيص اختصر فيه المفتاح للسكاكى". وهو من أجل المختصرات فيه كما قال السيوطى. وله: إيضاح التلخيص، والسور المرجانى من شعر الأرجانى.
وفاته:
قال ابن حجر:" قال الذهبى: مات فى منتصف جمادى الأولى سنة ٧٣٩ هـ وشيعه عالم عظيم وكثر التأسف عليه وسيرته تحتمل كراريس وما كل ما يعلم يقال. هذا كلام الذهبى على عادته فى الرمز إلى الحط على من يخشى غائلة التصريح فيه". اه كلام ابن حجر.
وقال الحافظ ابن كثير:" دفن بالصوفية .. وكان عمره قريبا من السبعين أو جاوزها" (١).
_________
(١) راجع ترجمته فى الدرر الكامنة لابن حجر (٤/ ٣، ٤)، والبداية والنهاية للحافظ ابن كثير (١٤/ ١٨٥)، وبغية الوعاة للسيوطى (١/ ١٥٦،
١٥٧)، ومفتاح السعادة لطاش كبرى زاده (١/ ١٩٤) والأعلام (٦/ ١٩٢)، وكشف الظنون (١/ ٤٧٣).
1 / 8
ترجمة بهاء الدين السبكى صاحب شرح عروس الأفراح
اسمه ونسبه ونسبته:
أحمد بن علىّ بن عبد الكافى بن على بن تمّام بن يوسف بن موسى بن تمّام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن على بن مسوار بن سوّار بن سليم السّبكى.
هكذا ساق أخوه تاج الدين نسب والده فى الطبقات الكبرى (١)، ووقع فى بعض المراجع" سوار" مكان" مسوار"؛ قال محققا الطبقات (٢):" وضبطناه بكسر فسكون، وما بعده بفتح فتشديد من الطبقات الوسطى" اه. والطبقات الوسطى من تأليف تاج الدين أيضا وفى بعض المراجع تصحيفات أخرى، انظر الدرر (الكرنكوى ج ١ ص ٢١٠).
وأمّا نسبته" السبكى" فهى إلى" سبك" الواقعة فى المنوفية، وهى موجودة إلى الآن، غير أن اسمها" سبك العبيد" وهى الآن سبك الأحد أو سبك العويضات، وفى محافظة المنوفية أيضا" سبك الثلاثاء" وكانت تعرف قديما ب" سبك الضحاك"، أما البيت السّبكى الذى نترجم لواحد منهم فمنسوب إلى" سبك العبيد" أو" سبك الأحد" كما يسمى الآن؛ قال السيد محمد مرتضى الحسينى الزبيدى، نزيل مصر، فى تاج العروس من جواهر القاموس (سبك) (٣):" (وسبك الضحاك بالضمة بمصر) (٤) من أعمال المنوفية، وهى المعروفة الآن بسبك الثلاثاء، وقد دخلتها وبت بها ليلتين".
" (وسبك العبيد) قرية أخرى بها من المنوفية أيضا، وقد دخلتها مرارا عديدة، وهى تعرف الآن بسبك الأحد وبسبك العويضات منها شيخنا تقى الدين على بن عبد الكافى بن على بن تمام
_________
(١) ج ١٠ / ص ١٣٩.
(٢) الأستاذ الدكتور/ محمود الطناحى والأستاذ الدكتور/ عبد الفتاح الحلو رحمهما الله تعالى.
(٣) ج ٧ ص ١٤٠.
(٤) التاء المربوطة يرمز بها إلى القرية.
1 / 9
قاضى القضاة، أبو الحسن السبكى، شافعى الزمان، وحجة الأوان ... " (١).
وينسب السّبكية إلى الأنصار، رضى الله عنهم. قال تاج الدين فى (طبقات الشافعية الكبرى) (٢):" نقلت من خط
الجد ﵀ نسبتنا معاشر السبكية إلى الأنصار رضى الله عنهم".
وقد رأيت الحافظ النّسابة شرف الدين الدّمياطى ﵀ يكتب بخطه للشيخ الإمام الوالد ﵀: الأنصارى الخزرجى.
وصورة ما نقل من خط الجد: حدثنا الصاحب بهاء الدين أبو الفضائل تمّام، الوزير المالكى المذهب، ولد يوسف بن موسى بن تمام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن على بن مسوار ابن سوار بن سليم بن أسلم الأنصارى الخزرجى ...
وهو عن مسوّدات بخطّ الجدّ ﵀ وذكر بعده النسبة إلى آدم ﵇، ثم قال فى آخره: وقد نقلت هذا من خط الفقيه الفاضل الحافظ شرف الدين محمد بن المخلص بن أسلم السّنهورىّ، فى سنة اثنتين وخمسين وستمائة ...
ولم يكتب الشيخ الإمام ﵀ بخطه لنفسه: الأنصارىّ، قطّ، وإن كان شيخه الدّمياطى يكتبها له، وإنما كان يترك الشيخ الإمام كتابة ذلك؛ لوفور عقله، ومزيد ورعه، فلا يرى أن يطرق نحوه طعن من المنكرين، ولا أن يكتبها مع احتمال عدم الصحة، خشية أن يكون قد دعا نفسه إلى قوم وليس منهم.
وقد كانت الشعراء يمدحونه، ولا يخلون قصائدهم من ذكر نسبته إلى الأنصار، وهو لا ينكر ذلك عليهم، وكان ﵀ أورع وأتقى من أن يسكت على ما يعرفه باطلا ... اه.
ثم ذكر تاج الدين أمثلة من الشعر فيها ذكر تلك النسبة، وسكوت الشيخ تقى الدين، وإقراره
_________
(١) ونسبة السبكى إلى سبك العبيد التى هى سبك الأحد الآن، هو ما حقق صحته الأستاذ/ محمد الصادق حسين فى كتابه القيم" البيت السبكى"، ورد القول بأنها سبك الضحاك أو سبك الثلاثاء، فراجعه إن شئت، والكتاب المذكور فيه فوائد جليلة وإن كنت أرى أيضا فيه بعض التسرع فى الحكم على بهاء الدين السبكى وأيضا على سلاطين المماليك، والحق هو ما كتبه الأستاذ/ محمود رزق سليم فى موسوعته القيمة:" عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمى والأدبى" انظر فيه - على سبيل المثال - المجلد الثالث ص ١٦ - ٨٦، ثم - على وجه الخصوص - ص ٢١ - ٢٥.
(٢) ١٠/ ٩١ - ٩٤.
1 / 10
على ذلك.
وخلاصة الأمر أن تقى الدين السبكى لم يكن ينكر نسبته إلى الأنصار - رضى الله عنهم - وهو أيضا لم يكن
يجزم بها جزما، وإنما يرى احتمالا لعدم صحتها، وهذا مذهب الذين ترجموا له فى الجملة، وبعضهم جزم بها كالشيخ الأديب صلاح الدين أبى الصفاء خليل بن أيبك الصّفدى فى كتابه" أعيان العصر" (١).
الأسر البارزة:
عرف تاريخ الإسلام أسرا اشتهر أفرادها بالعلم، كما عرف أسرا اشتهر أفرادها بالشجاعة، أو الحكمة ...، وقال الأستاذ/ محمود رزق سليم فى موسوعته (عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمى والأدبى) (٢):
" أشرقت فى أفق هذا العصر أسر عدة من صميم الأمة أنجبت، ونبغ منها رجال خدموا الدولة فى مصر، أو الشام خدمات جليلة، سواء أكان ذلك فى وظائف الجيش أو الإدارة أو القضاء أو الكتابة، أو فى العلم والأدب.
والبحث عن هذه الأسر ونجائبها وذكر مآثرهم بحث طريف، يحتاج إلى عناية مستقلة يبذلها أحد الأدباء".
ثم ذكر أسرة السبكى ضمن ما ذكر.
والده (٣):
على بن عبد الكافى: سبق سياق نسبه، أول من ذاع صيته فى العالم الإسلامى من علماء السبكية، ذاع صيته فى مصر والشام والعراق والحجاز، وإن عرف بالعلم من السبكية قبله من أب وقريب، لكن لم ينتشر ذكر أحد منهم كما انتشر ذكر تقى الدين أبى الحسين شيخ الإسلام.
أراد الله به خيرا فى طلب العلم، فقدّر له أبوين صابرين على تعليمه، وقدّر له نفسا صابرة
_________
(١) عن الطبقات الكبرى ١٠/ ١٥٧.
(٢) ج ٢ ص ٣٥٧.
(٣) من مصادر ترجمته: البداية والنهاية ١٤/ ٢٥٢، البدر الطالع ١/ ٤٦٧، بغية الوعاة ٢/ ١٧٦، تذكرة الحفاظ ٤/ ١٥٠٧، حسن المحاضرة ١/ ٣٢١ وقبل كل هذا الطبقات الكبرى لابنه تاج الدين ج ١٠، وانظر مصادر أخرى فى حاشية الطبقات.
1 / 11
على الطلب، وقد عاش نحو ٧٣ سنة، وكان إلى أن بلغ نحو ٥٦ سنة منقطعا للعلم تحصيلا وتدريسا، وتأليفا، وفتيا، فبلغ الغاية، وطار اسمه فملأ الأقطار، وحلق على الدنيا، ولم يكتف بمصر من الأمصار.
" ولد فى صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وتفقه فى صغره على والده وعلى غيره، وصحب فى التصوف الشيخ تاج الدين بن عطاء، ودرس بالقاهرة، وولى قضاء دمشق ستّ عشرة سنة، ودرّس بعدة مدارس.
وقد ذكر له ولده فى (الطبقات الكبرى) ترجمة طنانة. ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر" (١).
وكان أشعريّا فى الاعتقاد لم يختلف فى ذلك من ترجموا له، بل قطعوا بذلك، وانظر ما حكاه ابنه تاج الدين فى الطبقات الكبرى ج ١٠ ص ٢٠٠ - ٢٠١. هذا من حيث علم التوحيد، وأما فى الفقه فكان شافعيّا.
إخوته:
أخوه محمد بن على - أبو بكر: أكبر أولاد على بن عبد الكافى؛ لكنه مات قبل أن يكون له شأن، ولم أقف على شئ من أخباره سوى ما جاء فى الطبقات، ومن ذلك قول تاج الدين (٢):
" أنشد الشيخ الإمام قصيدة يخاطب بها أخى الأكبر أبا بكر محمد - تغمده الله برحمته - وهى طويلة الأبيات ... ".
أخوه الحسين: قال أخوهما:" واجتمعنا ليلة أنا والحافظ تقى الدين أبو الفتح، والأخ المرحوم جمال الدين الحسين ... ".
أخته سارة: بنت على بن عبد الكافى (٧٣٤ - ٨٠٥ هـ) ذكرها ابن حجر العسقلانى فى معجمه (٣).
_________
(١) بتصرف من (ابن قاضى شهبة) وفيات سنة ٧٥٦ هـ.
(٢) الطبقات الكبرى ج ١٠ ص ١٧٧، وانظر البيت السبكى ص ٦٥ - ٦٦.
(٣) الضوء اللامع ج ١٢ ص ٥٢، البيت السبكى ص ٦٥.
1 / 12
أخته ستيتة: بنت على بن عبد الكافى، ت ٧٧٦ هـ بالطاعون (١).
أخوه عبد الوهاب تاج الدين أبو نصر: ولد بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة - على الراجح (٢)، وتوفى عام ٧٧١ هـ، صاحب طبقات الشافعية، كان يجل أخاه بهاء الدين أبا حامد إجلالا، ونقل فى طبقاته كثيرا مما يتعلق بوالده عن أخيه، وبهاء الدين يكبره بنحو عشر سنين.
إجلال أخيه ووالده له:
يذكر أخوه تاج الدين فى طبقاته:" نقلت من خط أخى شيخنا شيخ الإسلام أبى حامد أحمد، سلمه الله تعالى أن الوالد .. " الطبقات ١٠/ ١٨١.
ووصفه بشيخ الإسلام أيضا فيها ١٠/ ٢٠٩، ٩/ ١٢٤.
تاج الدين:" كتاب المناقضات للأخ الشيخ الإمام العلامة بهاء الدين أبى حامد أحمد، أمتع الله ببقائه ... " ١٠/ ١٩٠.
ووصفه بالشيخ الإمام العلامة أيضا فى ١٠/ ٢١٦.
تاج الدين:" ورأيت الأخ، سيدى الشيخ الإمام أبا حامد، سلمه الله، ذكر فى شرح التلخيص فى المعانى والبيان ... ".
الوالد:
يقول تاج الدين عن والده:" وأنشدنا لنفسه وقد وقف على كتاب المناقضات للأخ الشيخ الإمام العلامة بهاء الدين أبى حامد أحمد، أمتع الله ببقائه:
أبو حامد فى العلم أمثال أنجم ... وفى النقد كالإبريز أخلص بالسّبك
فأوّلهم من إسفرايين نشؤه ... وثانيهم الطوسىّ والثالث السبكى
_________
(١) شذرات الذهب ج ٦ ص ٢٤٢، البيت السبكى ص ٦٧.
(٢) قلت على الراجح؛ لأن هذا قول الصفدى فى الوافى (١٩/ ٣١٥)، وقيل سنة ٧٢٧، وقيل سنة تسع وعشرين، وإنما رجحت قول الصفدى؛ لأنه من أقرب الناس إلى هذه الأسرة.
1 / 13
وهذه منقبة للأخ، سلمه الله، فأى مرتبة أعلى من تشبيه والده، وهو من هو، علما ودينا وتحرزا فى المقال، له بالغزالى وأبى حامد الإسفرايينى.
ولقد كان الوالد - رضى الله عنه - يجل الأخ ويعظمه، سمعته غير مرة يقول:" أحمد والد" ...
وكذلك سمعت الشيخ الإمام ﵀ يقول فى مرض موته، والأخ غائب فى الحجاز:" غيبة أحمد أشد علىّ مما أنا فيه من المرض".
وبلغه أن دروس الأخ خير من دروسه فقال:
دروس أحمد خير من دروس على ... وذاك عند علىّ غاية الأمل (١)
أبناؤه:
١ - تقى الدين أبو حاتم محمد: ترجم له عمه (٢) فقال: ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة وتوفى فى طاعون القاهرة سنة أربع وستين وسبعمائة، وله ذكر فى الطبقات الكبرى لعمه تاج الدين (٣).
٢ - صالحة: ذكرها الأستاذ/ محمد الصادق حسين نقلا عن الضوء اللامع ١٢/ ٧٠ العدد ٤٢٨.
٣ - عبد الله - جمال الدين: ت ٧٧٦ هـ ذكره الأستاذ/ محمد الصادق حسين.
٤ - عبد العزيز: ت ٧٧٦ هـ مع أخيه عبد الله بالطاعون، راجع شذرات الذهب ٦/ ٢٤٢ (نقلا عن البيت السبكى).
شيوخه:
أحضر على أبى العباس الحجار وأسمع على يونس الدبوسى وأبى الحسن على بن عمر الوانى، والبدر بن جماعة، وجماعة، وبدمشق من الجزرى والمزى، وغيرهما.
وأخذ عن أبيه وأبى حيان والرشيدى، والأصبهانى، وسمع على الشيخ تقى الدين بن الصائغ
_________
(١) الطبقات ١٠/ ١٩٠.
(٢) ٩/ ١٢٤.
(٣) ١٠/ ٢٠٩
1 / 14
عدة قراءات، وتفقه على المجد الزنكلونى وابن القماح وغيرهما.
هذا ما ذكره الحافظ ابن حجر (١) وغيره، وأكثر هذه الأسماء يحتاج إلى ترجمة وتحقيق، فلعل الله ييسر ذلك فى مقام آخر.
تلاميذه:
- الدميرى: كمال الدين محمد بن موسى صاحب كتاب" حياة الحيوان الكبرى"
ويقول ابن شهبة:" إن الدميرى قدم على الشيخ بهاء الدين السبكى وأخذ عنه ... " (٢).
وقد نقل ابن حجر فى الدرر كلاما للدميرى يدل على صحبته لبهاء الدين السبكى فراجعه.
وظائفه:
أذن له بالإفتاء وعمره عشرون سنة (٣) ولما توجه والده إلى قضاء القضاة بالشام ولاه السلطان الملك الناصر محمد مناصب والده فى تدريس المنصورية، والسيفية والهكارية (٤) وله عشرون سنة (٥).
وذكر الصفدى توليه مشيخة الحديث بالجامع الطولونى والجامع الظاهرى (٦) ولفظ ابن قاضى شهبة بعد ما ذكر المنصورية والسيفية والهكارية (٧).
" ثم درس بتربة الشافعى، وبجامع الحاكم، ودرّس بالشيخونية أوّل ما فتحت، وخطب بجامع
_________
(١) الدرر الكامنة ج ١ ص ٢١٠.
(٢) عن مقدمة (حياة الحيوان الكبرى) ط. دار الشعب، والمقدمة منقولة عن دائرة معارف الشعب مادة حياة الحيوان الكبرى. بقلم د. حسين فرج زين الدين.
(٣) الوافى ٧/ ٢٤٦.
(٤) السابق.
(٥) ابن قاضى شهبة سنة ٧٧٣ هـ.
(٦) الوافى ٧/ ٢٤٦ وما بعدها.
(٧) هذه أسماء لمدارس نسبت إلى من أنشأها أو قام عليها أو غير ذلك من مكان ونحوه؛ فالهكارية مدرسة بدرب الهكارية بجواره حارة الجودرية، هكذا نقل الأستاذ/ محمد صادق حسين من خطط المقريزى ج ٢ ص ٤١، ونقلته من كتابه (البيت السبكى)، والأمر مع ذلك يحتاج إلى الرجوع إلى كتب المدارس والحضارات للعلم بدقيق ذلك.
1 / 15
الحاكم، وولى إفتاء دار العدل، ثم ولى قضاء الشام فى شعبان سنة ثلاث وستين (أى ٧٦٣ هـ) كارها لذلك (١)، وتوجه أخوه إلى مصر على وظائفه، ودرس بدمشق بمدارس القضاء، ثم عاد إلى مصر فى صفر سنة أربع وستين على وظائفه، ثم ولى قضاء العسكر (٢) ". اه.
وثمة وظيفة أخرى تولاها شابا؛ لكن سرعان ما نزعت منه، ذلك ما فهمته من كلام أخيه فى الطبقات الكبرى (٣) وهى قضاء القضاة بالعساكر المنصورة، سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.
وفاته:
توفى البهاء السبكى سنة ٧٧٣ هـ، قال الحافظ ابن حجر فى كتابه الدرر الكامنة (٤):
" ومات بهاء الدين مجاورا بمكة ليلة الخميس السابع عشر من شهر رجب سنة ٧٧٣ وله أربع وخمسون سنة وبضع أشهر، ووهم ابن حبيب فقال: عاش ستا وخمسين سنة".
_________
(١) لأن أخاه عزل وكان هو عوضه.
(٢) وذلك فى سنة ٧٦٦ هـ.
(٣) ٩/ ٩٧ ترجمة محمد بن أحمد الكنانى.
(٤) ج ١ ص ٢١٦ ترجمة ٥٤٤.
1 / 16
مصنفاته:
- تناقض كلام الرافعى والشيخ محيى الدين النووى:
صنفه وكان عمره ست عشرة سنة.
- تعليق على الحاوى:
ذكره فى مصنفاته ابن حجر فى الدرر الكامنة ١/ ١٢٥ ط. دار الكتب العلمية. وذكره أيضا صاحب معجم المؤلفين.
- تكملة شرح المنهاج
- شرح مختصر ابن الحاجب:
وقد وصف هذا الشرح بأنه مطول، كما فى معجم المؤلفين.
- شرح كتاب تسهيل الفوائد لابن مالك:
ذكره فى معجم المؤلفين.
- شرح التخليص للقزوينى فى المعانى والبيان، سماه" عروس الأفراح":
وهو كتابنا هذا.
ذكره صاحب معجم المؤلفين وقال أخوه فى الطبقات الكبرى (١):" ورأيت الأخ، سيدى الشيخ الإمام أبا حامد، سلمه الله، ذكر فى شرح التلخيص فى المعانى والبيان ... ".
- قطعة على شرح المنهاج:
شرح المنهاج لأبيه. فكأنه أراد أن يكمله لا أن يعلق عليه؛ ولهذا يقال له: تكملة شرح المنهاج. كما فى معجم المؤلفين.
- هدية المسافر فى المدائح النبوية:
وقد ذكره بهاء الدين السبكى ضمن شعراء المديح النبوى فى العصر المملوكى، وذلك فى موسوعة الأستاذ/ محمود رزق سليم (٢).
_________
(١) ٢/ ١٩٦.
(٢) (عصر سلاطين المماليك) ج ٨ ص ٢٨٤.
1 / 17
الفنّ الأول علم المعانى
1 / 18
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المصنف لعروس الأفراح
قال الشيخ الإمام، العالم العلامة، حجة الإسلام، مفتى الأنام أوحد الفصحاء والبلغاء، شيخ النحاة والأدباء، كنز المحققين وسيف المناظرين بهاء الملة والدين: أبو حامد أحمد ابن سيدنا ومولانا قاضى القضاة بقية المجتهدين ولسان المتكلمين تقى الدين السبكى، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته:
الحمد لله الذى فتق عن بديع المعانى لسان أهل البيان، ورتق الأفواه عن تفسير المثانى إلى أن فتحتها بلاغة آل عدنان، ومحق ببراعة كتابه العربى، وأسنة دينه القوى ما خالفهما من جدال اللسان، وجلاد السنان، ورزق الفصاحة المحمدية من الحكمة البالغة ما مزق حكم اليونان.
نحمده على نعمتى الإنشاء والإعادة، ونشكره شكرا ورد به الخبر المسند فنصدر عن مبتداه بمنتهى السعادة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تشتمل على جناح القلب فتسكن بمد النصر لها يرمى بشرر كالقصر، وتنكس حصون الشرك بملائكة السبع الطباق لما شيد لها النفى والإثبات من القصر، وتفتح عند موازنة الأعمال باب الغفران بعد المعاضلة، وتتحف بالجبر (١) إذا بدت من كتاب السيئات تخاريج المقابلة، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، صاحب الفصل والوصل فى الواقعة إذا وقف الصف يوم الحشر، والمسند إليه الشفاعة إذا التفت الساق بالساق، واشتد كرب ذلك اللف والنشر ﷺ وعلى آل محمد وصحبه، الذين اغتدوا باستخدامه لهم ملوكا يستعبدون معالى الصفات، وارتدوا ملابس التقوى بتجريد قلوب لم يكن لها إلى غيره التفات، واقتدوا به فهم فى التشبيه كالنجوم، لأن محاسن الأمة منهم استعارة، وإليهم إضافات صلاة جارية على الخطاب المنصف والأسلوب الحكيم، حاوية لتمام الاتصال بالصراط المستقيم، وسلم تسليما يعلن به اللسان الطاهر، ويبطن القلب من اعتباره المناسب ما يساعده مقتضى الظاهر، ما خفقت للبلاغة راية مجد فى بنى غالب بن فهر، وتعلقت بأزمة الفصاحة أهل مصر، لما لهم من نسب وصهر.
_________
(١) كذا بالأصل المخطوط بدار الكتب المصرية ٣٨ بلاغة.
1 / 19
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
(أما بعد) فإن تلخيص المفتاح (١) فى علم البلاغة وتوابعها بإجماع من وقف عليه، واتفاق من صرف العناية إليه أنفع كتاب فى هذا العلم صنف، وأجمع مختصر فيه على مقدار حجمه ألف، ولم أزل مشغوفا بهذا الفن وله محبا، مشغول الخاطر بالعزم على التجرد إليه وإن كنت على غيره من العلوم مكبا، منذ أبرزتنى الإرادة إلى الوجود إبراز الهلال، وبشرتنى حال المولد بالبلوغ لهذا العلم براعة الاستهلال، وآذنتنى الفراسة أن حسن التخلص حينئذ إنما كان كناية عن مقتضى الحال، وتعريضا بحقيقة ما سيكون من إدراك الآمال.
أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكّنا (٢)
إلى أن أعربت عن حال التمييز، وبلغت ما تنازع إليه النفس من الاشتغال بمصنفاته ما بين مطنب ووجيز، فلم أطلع للمتأخرين فيه على تصنيف محكم تقر بتهذيبه العين، ولا وقفت لهم فيه على تأليف مجمل أو مفصل أشاهد صحاح معانيه فلا أطلب أثرا بعد عين، أما أهل بلادنا فهم مستغنون عن ذلك بما طبعهم الله تعالى عليه من الذوق السليم، والفهم المستقيم، والأذهان التى هى أرق من النسيم، وألطف من ماء الحياة فى المحيا الوسيم، أكسبهم النيل تلك الحلاوة، وأشار إليهم بأصبعه فظهرت عليهم هذه الطلاوة، فهم يدركون بطباعهم ما أفنت فيه العلماء فضلا عن الأغمار الأعمار، ويرون فى مرآة قلوبهم الصقيلة ما احتجب من الأسرار خلف الأستار.
والسيف ما لم يلف فيه صيقل (٣) ... من طبعه لم ينتفع بصقال (٤)
فيا لها غنيمة لم يوجف عليها من خيل ولا ركاب، ولم يزحف إليها بعدو عديّة ولا بلحاق لا حق وانسكاب سكاب، فلذلك صرفوا هممهم إلى العلوم التى هى نتيجة أو مادة لعلم البيان، كاللغة، والنحو، والفقه، والحديث، وتفسير القرآن. وأما أهل بلاد المشرق، الذين لهم اليد الطولى فى العلوم، ولا سيما العلوم العقلية والمنطق، فاستوفوا هممهم الشامخة فى تحصيله،
_________
(١) طبع الكتاب فى طبعة أنيقة بتحقيقى فى مكتبة دار الكتب العلمية. بيروت.
(٢) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى مفتاح العلوم ص ٩١ ط المطبعة الأدبية، والتبيان للطيبى بتحقيقى (١/ ١٤٣) ط المكتبة التجارية بمكة. وهو لقيس ليلى العامرية فى روح المعانى للآلوسى (١/ ٣٩).
(٣) الصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها.
(٤) الصقل: الجلاء، والاسم: الصّقال.
1 / 20
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
واستولوا بجدهم على جملته وتفصيله، ووردوا مناهل هذا العلم فصدروا من عندها (١) بملء مسجلهم، وكيف لا وقد أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، فلذلك عمروا منه كل دارس، وعبروا من حصونه المشيدة ما رقد عنه الحارس، وبلغوا عنان السماء فى طلبه" ولو كان الدين بالثريا لناله رجال من فارس" (٢)، إلى أن خرج عنهم المفتاح فكأن الباب أغلق دونهم، وظهر من مشكاة بلاد المغرب المصباح، فكأنما حيل بينه وبينهم وأدارت المنون على قطبهم الدوائر، فتعطلت بوفاته من علومه أفواه المحابر، وبطون الدفاتر، وانقطعت زهراتهم الطيبة عن المقتطف، وتسلط على العضد لسان من يعرف كيف تؤكل الكتف، فلم نظفر بعد هؤلاء الأئمة - رحمهم الله تعالى - من أهل تلك البلاد بمن مخض هذا العلم فألقى للطالب زبدته، ومخض النصح فنشر على أعطاف العارى بردته، ولا حملت قبول القبول إلينا عنهم بطاقة، ولا حصلت للمتطلعين لهذا العلم على تلك الأبواب طاقة، ولا رأينا بعد أن انطمست تلك الشموس المشرقة، واندرست طبقة تحرى الفرقة، ولم يبق إلا رسوم هى من فضائلهم مسترقة، من أطلع غصن قلمه من روض الأذهان زهرة على ورقه، ولا من علق شنه بطبقتهم فيقال: وافق شن طبقة (٣)، بل ركدت بينهم فى هذا الزمان ريحه، وخبت مصابيحه، وناداهم الأدب سواكم أعنى، ورب كلمة تقول دعنى.
وما بعض الإقامة فى ديار ... يهان بها الفتى إلّا بلاء (٤)
فعند ذلك أزمع هذا العلم الترحل، وآذن بالتحول:
وإذا الكريم رأى الخمول نزيله ... فى منزل فالرّأى أن يتحوّلا
وفزع إلى مصر فألقى بها عصا التسيار، وأنشد من ناداهم من تلك الديار:
_________
(١) فى الأصل: عنها.
(٢) لفظ حديث أخرجه مسلم بنحوه فى" فضائل الصحابة"، باب: فضل فارس، (ح ٢٥٤٦)، واتفقا على صحته بلفظ آخر.
(٣) وافق شنّ طبقة: هذه عبارة تضرب مثلا، وتفسيرها فى بعض الروايات: أن شن قبيلة كانت تكثر الغارات فوافقهم طبق من الناس فأباروهم وأبادوهم، عن اللسان.
(٤) البيت من الوافر، وهو لقيس بن الخطيم فى ديوانه ص ١٥٣، ولسان العرب (نوك)، وتاج العروس (نوك)، وخزانة الأدب ٧/ ٣٦.
1 / 21