العدل والإنصاف للوارجلاني
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
كتاب العدل والانصاف في معرفة أصول الفقه والاختلاف
... قال الشيخ الإمام الفقيه النبيه الوجيه المج الأرشد أبو يعقوب يوسف بنإبراهيم بن مناد السدراتي رحمه الله .
... الحمد لله الذي خلق الخلق لا لحاجة ولا لاستفادة ، وخلق الملائكة المقربين للقرب والسعادة ، وخلق الجن والأنس للابتلاء والعبادة ، وخلق سائر الخلق للدلالة والشهادة ، والصلاة على نبي الرحمة ، هادي الأمة ، محمد بن عبدالله خاتم النبيين ، رسول رب العاملين . وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ، وعلى سائر المؤمنين والمؤمنات أجمعين . آمين رب العالمين.
... أما بعد ، فإن الحكمة الإلهية قد اقتضت وجود الخلق ، واقتضى وجود الخلق وجود العقل ، واقتضى وجود العقل وجود التكليف ، واقتضى وجود التكليف / وجود الجزاء ، وهو الحق ، قال الله تعالى : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } (¬1) . ثم إن الله عز وجل بعد أن خلق الخلائق أرسل رسلا تترى ، وأنزل كتبا تتلى ليتفكر متفكر فينظر ، وينظر ناظر فيبصر ، ويبصرمبصر فيعتبر ، ويعتبر معتبر فيتذر ، ويتذكر فيزدجر ، ويزدجر مزدجر فيتستبشر ، ويستبشر مستبشر فيشكر ، ويشكر شاكر فيؤمن ، ويؤمن مؤمن فيحسن ، { الذين أحسنوا الحسنى وزيادة } . وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ والاحسان الأول هو الإيمان ، والإحسان الثاني هو السعادة الأبدية ، وللإيمان باب ومدخل ،وعليه إقليد ومقفل ، وهو الكتاب والسنة والرأي . / ومفتاح الباب أصول اللسان وأصول الجنان ، فأصول
صفحة ١
اللسان اللغة والنحو ، وأصول الجنان المنطق والفقه ، وهذه الأربعة الأصول لا غنى لسبيل الهداية عنها ، إذ باللغة يكون البيان ، وبالنحو يكون التبيان ، والمنطق تظهر (¬1) حجج البرهان ، وبأصول الفقه تظهر معاني القرآن فنسبة صناعة المنطق إلى العقل في المعقولات كنسبة صناعة النحو إلى اللسان في المقولات ، وإنما المرء بأصغريه فؤاده ولسانه ، قال القائل (¬2) :
... لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... ولم يبق إلا صورة اللحم والدم
فإذا كانت الحاجة ماسة إلى هذه المعاني الأربعة ، لا سيما لمن يتعاطى طريق الهدى طريقا، واتخذه إماما رفيقا ، وجعله أليفا صديقا (وسلك مجدا) (¬3) حقيقا ، فرأينا أصولي اللسان ؛ اللغة والنحو قد لحبت (¬4) سبيلها / واستقامت أصولهما فرأينهما كالمجمتع عليهام ، وقد تصدى لهما أقوام فألقوا فيهما ما فيه الكفاية لمن أراد الله إرشاده وهداه ، فكفينا المئونه فيهما . وإن كان المنطق بمثابتهما في اتساق مباينة وصحة معانيه ، لكنه عوص المسلك على الأقوام ،سريع الدثور على الأفهام . فلذلك غامت فنونه وانطمست عيونه ، واندمجت قوانينه ، وتعطلت براهينه ، فالتحق بالأولين في البيان وقصر عن التبيان.
... فأما معرفة الفقه وأصوله فإنها غير مضبوطة بكثرة الاختلاف في فصولها ، وقلة الاتفاق على أصولها ، وكثرة التنازع في محصولها ، لأنها بنيت على أمارة وإشارة. وبراهينها مقصورة على تلويحات وتنبيهات ولم تكن براهينها عقليات مطردات منعكسا بحججها ، غير مقطوع بها ولا متفق / عليها فلذلك أردنا أن نشير إلى الطريقة الوسطى منها، ونستعمل الجواد ، ونطرح الشواذ ، ونسلك مسلكا قصدا بين الغلو والتقصير
صفحة ٢
ليقرب المأخذ على المقتصد و )تهون) (¬1) المشقة على المجتهد، والله ولي التوفيق والفضل والهداية والطول.
ومعولنا -بعد حمد الله- في استخراج الحق من خلل الباطل أمران؛ أحدهما خبر، والآخر.
أما الخبر فقول رسول الله عليه السلام: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين» (¬2) وذلك أن الله ركب في طباع البشر عشق صنايعهم والشغف بها والدب عنها والحياطة لها وتخليصها من الشوايب والمعايب. وإيثارها على المطاعم والمشارب والمفارش والمراكب، لا سيما صناعة العلوم خصوصا قد ائتلفت القلوب والهمم والطبايع والشيم من العرب / والعجم على تلخيص هذه المعاني وتخليصها من الميون والكذب والأماني، ولا سيما هذه الأربعة وهي الخادمة لأصول الدين، فائتلفت القلوب على اختلاف البلدان والأماكن، وتباعد الأقطار والمساكن، وتنافر أهل المدائن والمواطن، وهو أدب اله تعالى في القرون الماضية والأجيال الخاليه، وهو دأبه في الأمم الجائية الآتية { ولن تجد لسنة الله تبديلا } (¬3) ، { ولن تجد لسنة الله تحويلا (¬4) } وهو معنى الحديث الذي ذكرناه أولا.
... وأما النظر، فاستعمال كل شيء من العلوم في موضعه، وإعطاء كل ذي حق حقه. وعول على الأصول التي اجتمعت عليها الأمة واجعلها منارك، واتخذها معيارك، وأرد الله يردك، واضرب العلوم بعضها ببعض يخلص لك الذهب من الخبث، والمخض من بين الدم والفرث. وقد جعل الله للإسلام ضوءا ومنارا كمنار الطريق / وحلاوة وطلاوة في اللها والحلوق، وسكونا وقبولا
صفحة ٣
في النفوس والقلوب، والحق يصدق بعضه بعضا ولا يكذب بعضه بعضا. وأجتنب التقليد فيما يخالف التقييد والمنكر في الصدور و(الشواذ) (¬1) في الأمور. والد ... ين بين الغلو والتقصير. واستعمل الحذر في مظان التهم والعلم في حناديس الظلم، واستعمل الاثنى عشرية تسلم؛ وذلك أن (سعادة) (¬2) الآخرة العلم، ثم الإيمان، ثم العلم، ثم التوفيق، ثم حسن الخاتمة، فإذا لم يكن حسن الخاتمة لم يكن التوفيق، فإذا لم يكن التوفيق لم يكن العمل الذي يجدي، وإذا لم يكن العمل الذي يجدي لم يكن الإيمان الذي يجزي، وإذا لم يكن الإيمان الذي يجزي لم يكن العلم الذي يغني، وإذا لم يكن العلم الذي يغني خسر المرء الدنيا والآخرة؛ { ذلك هو الخسران المبين } (¬3) ثم إني نظرت في العلم وهو الباب الأول فرأيته منحدبا من آفات كثيرة فلم يسلم العبد من واحدة منها بله جملتها. فرأيت من التوفيق -إن شاء الله- وهو من ملاك الأمر، استعمال آيتين من كتاب الله، وحديثين من حديث رسول الله - عليه السلام - ، وخبرين عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ، وأثرين عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - . ونظرين عن علي بن أبي طالب، وأوكدها وأشدها استعمال أمرين من أمور أبي عبدالله محمد بن بكر - رضي الله عنه - . فأول الآفات ألا تكون للعبد همة في الطلب بعد الجهل وللهو واللعب، وألا يريده، فإن سلم وطلب وأراد وأحب استقبلته آفة أخرى، وهو أنى له بالعلم الصافي من كدرات الكذب، ولقول رسول الله - عليه السلام - : «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع» (¬4)
صفحة ٤
بالجنان؛ فأما العلم باللسان فذلك حجة الله على ابن آدم، وأما العلم بالجنان فذلك هو العلم النافع» (¬1)
ومنها التقليد للآباء والأجداد، وانتصار الأخلاق للأسلاف لأجل الصبا السابق واللهو اللاحق. وتفضيل العصار على الأعمار. والمألوف على المعروف ، ولم يجعلوا للنهي في أنفسهم نصيبا. ومنها قطاع الطرق على ذوي الحق، وسراق العقول من أهل الألحاد والفرق، وتلبيس إبليس عند لوائح الصدق. فأما الآيتان من كتب الله فقوله تعالى: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } (¬2) والآية الأخرى قوله تعالى: { اتقوا الله ويعلمكم الله } (¬3) فمن اتقى علم، ومن علم تفقه. اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل يا رب العالمين.
وأما الحديثان فقوله - عليه السلام - : «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويعلمه / التأويل ويلهمه رشده» (¬4) .
وأما الحديث الثاني فقوله - عليه السلام - : «لن يتفقه أحدكم كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة» (¬5) . وهو معنى قوله تعالى: { وقل رب زدني علما } (¬6) وفقر الأعمى إلى الرؤية أشد من فقر الرائي إلى كثرة الوجوه. وهاتان الآيتان والحديثان ترغيب في التقوى وتوفيق في الطلب وإلهام في نيل الأدب.
صفحة ٥
وأما الخبران عن أبي بكر الصديق فقوله: (ما من عالم إلا وفي علمه مأخوذ ومتروك ما عدا صاحب هذا القبر) والتفت عن يمينه وأشار إلى قبر رسول الله - عليه السلام - وهو على المنبر، وهذا الحديث يدل على التخيير بين أقاويل العلماء.
والخبر الآخر قوله: (أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إن أنا فسرت القرآن برأيي!؟) (¬1) وهذا الحديث صيانة للعلم عن الكذبة والخونة والتقليد.
وأما الأثران عن عمر فقوله: جردوا / الحديث وأنا شريككم في الأجر (¬2) . وهذا الحديث صيانة لرسول الله - عليه السلام - لا يلتبس بغيره لأنه أوتي جوامع الكلم.
والثاني: أنه يكتب إلى عماله وأمراء الأجناد أن علموا أولادكم النحو والعربية وهما لسانا الدين ومفتاحاه وركناه.
وأما النظران، فقول علي حيث قال: (لا تكونن إمعة). وهذا نهي عن التقليد. والثاني: قوله: (عدو المرء ما جهل), وصدق الله تعالى: { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } (¬3) وكما قال - عليه السلام - : «ما من رجل يحدث قوما بما لم تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم» (¬4) . والداء العضال في الأمرين قول أبي عبدالله محمد بن بكر - رضي الله عنه - : (من أراد الطريق فليقطع عليه من فوق). والثاني، قوله لسائله وقد سأله عن الرخصة في مسألة وألح عليه، فقال الشيخ: أرأيتك لو أجبتكها أكنت تعمل بها؟ فقال له السائل: نعم، ولا ألتفت ولا أبالي.
فقال له الشيخ: لا، ولكن تزن كل ما قلت لك بميزان الهندي إلى عين الشمس (¬5) .
صفحة ٦
فمن استعمل هذه الاثنا عشرة ووزن بميزانها سلم من الطغيان والخسران وأداه إلى حقيقة الدين والإيمان. وأما أصول الديانات فهناك الداء العياء، والداء العضال، إذ لا يسع أحد خلاف دين الله الذي شرع، وحكمه الذي صدع، ونوره الذي سطع. فها هنا تورط الخلايق وتغشمروا (¬1) وتقحموا وتهوروا وتغشموا. وعول على ما استحسن واستسلف. فجرى الخلف على منهاج السلف فكل قد ركب أشقر صدف في سنن التلف. وأقربهم قربى من تتبع الشبه واتخذه إماما لنفسه، وزماما لعيسه، ولا يدرون إن العلم حياة القلوب، وغذاء الأرواح، والحي يحتاج إلى غذاء ودواء؛ أن صح تغذى، وإن مرض تداوي ولا ينفع المريض الغذاء، ولا الصحيح الدواء. فالغذاء هو العلم النافع / المعقول، والدواء هو الشرع الناقع (¬2) المنقول. ومن استعمل كلا في موضعه أحكم أمره وقل خطره. فذلك هو الطبيب الحاذق والعالم الصادق. ومن خلط الأصول بالفصول، والفصول بالأصول، وهو حال الأكثرين ، انتكس وارتكس.
فلما ابتلي الجمهور بهذه الأمور اختلفت الأغراض والمطالب، وكثرت الآراء والمذاهب، فاقتصروا على رأيهم في مناظراتهم، وعرجوا على اعتقاداتهم في محاوراتهم. فجدوا في محاولاتهم وكدوا في مجاولاتهم، وفرحو بما عندهم من العلم، { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } . فهنالك ذهبوا شذر مذر (¬3) ، وتفرقوا شغر بغر (¬4) . فبعض ذهب به تلفيق الآباء وتقليد الأسلاف كل مذهب فهؤلاء أصحاب الحديث. وبعض قد استولى عليهم العمى
صفحة ٧
والشبهات أينما تقلب، فهؤلاء المارقة. وبعض قد انشعب بهم اللهو والشبهات كل مشعب فهؤلاء المرجئة. وبعض قد استعملوا التقييد زعمهم وتجنبوا التقليد جهدهم حتى تعمق ونشب فهؤلاء القدرية. وبعض حول العيون، عور القلب أشتبه عليهم الخالق والمخلوق فحادوا يسار الطريق، فهؤلاء المجسمة. وبعض غليظ القفا حليف الجفا عليه العفاء (¬1) ، يسترط (¬2) السفى، ويزعم أنه الشفاء، يقول لا إله إلا الخلفاء من ذرية علي والمصطفى، حسبي الله وكفي، فهؤلاء الرافضة والغالية من الشيعة. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وبعض قادة التوفيق والتسديد، وحداه العون والتأييد، وساقه التمهيد والتوطيد، وغذاه الألطاف ورباه الإسعاف حتى ظفر بعزيز المطلب كريم المنصب دين الله الأصوب، وهم المسلمون كما قال أبو نوح صالح الدهان (¬3) : ولدت زمان مقتل عثمان بن عفان فأدركت الناس ثلاثة أصناف: فوم يزينون أمر عثمان ولا يفرطون في الإرجاء، وقوم يزينون أمر علي ولا يفرطون في التشيع، والمسلمون بعد على هداهم وما رزفهم الله من التوفيق.
فإن قال قائل: أراك قد نلت ونلت (¬4) ، وعبت وغبت، ورميت الأمة بالأمة (¬5) ، والملة بالقلة، وشملت السانح والبارح. وخلطت الساذج بالطازج ومدحت نفسك بالوفاء، ونبزت غيرك باللفاء (¬6) ، فكيف وحتام بلغت المنى، وفاز غيرك بالمنى (¬7) ، ومن عاب اجتنب المعيب، ومن طاب استعمل الطيب. وأراك
صفحة ٨
قد وضعت أمورا متشاكهة (¬1) متلاحقة (¬2) ، وأشياء متشابكة متلابكة (¬3) . فأين السنى (¬4) والسدى (¬5) من اللحمة (¬6) والطعمة (¬7) وأين الضياء والنور من السدفة/ والظلمة؟ ألك علم بغيب العباد، أم ظهرت لك أحكام البارئ غدا في المعاد؟ فإن كان فانصب منوا لك وأنسج عليه أقوالك، حتى يظهر الحق ولسان الصدق عند جميع الخلق، وإلا التحقت بالأخرين أعمالا المبطلين أقوالا.
فأقول، والله الموفق للصواب، والهادي إلى سبيل الرشاد: لا جرم أن من ادعى منهاج المحجة فعليه إيضاح الحجة، وعند شواهد الإمتحان تظهر فضايح الإنسان والتبرز في الميدان.
واعلم أن لله - عز وجل - طريقا في الدنيا يقوم بها العدل ويتبين بها الجور والميل. قال الله تعالى في محم كتابه: { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } (¬8) . وقال: { ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } (¬9) . وقال أيضا سبحانه: { الرحمن علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان. الشمس والقمر بحسبان. والنجم والشجر يسجدان. والسماء رفعها ووضع الميزان. الأ تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان } (¬10) .
صفحة ٩
فلا تكونن من الأغبياء الغفال فتظن أن هذا الميزان ميزان الأنقال والأحمال. ذكر الله عز وجل صنيعة الإنسان، وأنه امتن عليه بتعليم البيان، لعجايب ما أودعه الله تعالى في القرآن، فذكر الشمس والقمر، والنجم والشجر، عجائب ملكوت السموات بحسبان. وعجائب ملكوت الأرض، وهي النجم والشجر يسجدان. ثم ذر رفع السموات ووضع الأرض، ووضع الميزان فجعل السماء والرض طر في شاهد للميزان، فابتدأ بالسماء ورفعها، وعقب بذكر الأرض ووضعها؛ بالسماء وشاهداها الشمس والقمر، والأرض وشاهداها النجم والشجر دلالة على نباهة هذا الميزان العظيم للأمر الجسيمن وهو الإشارة إلى ميزان العقل لا ميزان الثقل فالثقيل يراد لمعاملة الأغبياء في الدنيا، والعقل يراد / لمعاملة الأتقياء للأخرى.
ثم وصف الميزان فقال: { .. ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان } فالطغيان في الميزان انتحال الألوهية للأوثان. والخسران في الميزان تقصيرها عن الرحمن.
فأول موازين الله - عز وجل - كتبه المنزلة، وأنبياؤه المرسلة، والأولياء المحدثة المروعة، والحواس المطبوعة المسخرة، والعقول المضيئة المنورة. فمن بهذه الموازين فزاد وطغى، أو نقص فبغى، ضل وغوى وهلك وتردى. ومن وزن وعدل وتحرى الصدق ولم يمل فاز ونجا. وأنا أدعو إلى هذه الموازين على أن تكون لي وعلي. ومن حكم على غيره كما يحكم على نفسه فقد عدل، ومن أحب لغيره مثل ما يحب لنفسه فقد أنصف. وأنا أدعو إلى طريق العدل والإنصافن وأنهى عن الجور والإنحراف فمن أجاب اصاب، ومن أبى واستكبر فقد خسر وخاب/:
سل السيف يا صيقل ... ... أيكما يقتل.!؟
وميزان خالقنا ..... ... ... هو الحق لا الأميل
وميزانك،م مائل ... ... دعوه ولا تسألوا
وإلا هلم نزن ... ... تروا أيكم أعدل
أعمالي أعمى لي. أعمالك أعمى لك. أحوالي أحوى لي، أحوالك أحو لك. أفعالي أفعى لي. أفعالك أفعى لك ، فهذا مثل ينبئك بالمالك والهالك.
صفحة ١٠
وأنا أشرع -إن شاء الله- فيما أنا بسبيله، وأستعين الله وأستهديه لمراشد الأمور، فإن أصبت فبتوفيق من الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان. وأستغفر الله وأسأله المنتوبة. اللهم أرنا الحق حقا وأرزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا اجتنابه، وأعذنا من أن يشتبه علينا/ فنتبع أهواءنا بغير هدى منك يا أرحم الراحيمن. واستعتب كل مسلم قرأ هذا الكتاب أن يحمل كلامنا على أحسن وجوهه. وهو دين الله تعالى الذي تعبد به عباده وشرع فيه مراده، وقد قال الله تعالى: { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } (¬1) الآية. وحسبنا ما لا ينفك عنه الآدمي في غالب الحال من الخطأ والسهو والنسيان. وقد أوسع الله عز وجل عذر المستنبطين في فروع الشريعة في ألفاظهم ومعانيهم فليوسعنا عذرا كما أننا توسعه أعذارا في مثل ذلك. فليس أحد أكثر معاذيرا من الله - عز وجل - وقد قال: فخذوا بأحسنها. وقال الإمام (¬2) - رضي الله عنه - : إذا أتى أحد بوجه يحتمل الوجوه في دين الله - عز وجل - وأن يحمل على المعول دون المموه الصريح (¬3) . وإلى الله أشكو عجزي وبجري ممن أكدي فهمه، وقل/ علمه، تخاطبه بكلام خاصي، ويراجعك بكلام عامي، ولسن لقن يستلين الأخشن، وستخشن الألين، ويركب الكوذان يحسبه من أفره الحصن، ويزعم أنه أبن من ومن. وآخر طاغ باغ يقول ما على الرسول إلا البلاغ، وهو نصراني الصباغ. اللهم نور قلوبنا بأنوار الحكم، واشرح صدورنا لفهم جوامع الكلم، وأعذنا من زلات القدم في حنادس الظلم. ومن طغيان القلم في مظان التهم.
صفحة ١١
بك عنن العنن ومنن المنن عن سنن السنن، والإفتتان في غير فن. ونعوذ بك من حيرة الحصر وفضول الهدر، والإنهمار في غير بر، وعافنا من العفو والعافية ومن آثار القافية، وارزقنا العفو والعافية في الدنيا والآخرة. ولا تكتبنا في ديوان الأشقياء ولا تحرمنا عوايد الأتقياء، وحطنا حياطة الأولياء، واكفنا كفاية الأكفياء، إنك على كل شيء قدير. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم تسليما والحمد لله رب العالمين.
وصية جامعة لأهل الأدب والنهى والطلب
ونريد أن نقدم ها هنا بابا من الأدبيات لطلب العلم.
إعلم أن طلاب العلوم تدعوهم أنفسهم أولا لتحقيق مآربهم وتصحيح مطالبهم، فإذا دخلوا فيها وتوغلوا وارتقوا إلى المناظرة دعتهم أنفسهم إليها فنعما رأوا. حتى غذا حصلوا وجمحت بهم أنفسهم إلى المجادلة في الميزان الشهي الرضي، لا قتل ولا قتال ولكن الغلبة والنضال. واعتقاد النفوس فيها الدب عن الدين. والدعاء إلى الحق المبين.
حتى إذا غالتهم الغول، وذهب بهم القول ، نشبوا فغلوا وطغو وبغوا غلا المحسنين { فأولئك ما عليهم من/ سبيل } (¬1) وقيل ما هم. فالمذاكرة من شأن الطلبة المجتهدين. والناظرة هي دأب الفقهاء المحققين. والمجادلة ديوان السفهاء الجاهلين إلا المحسنين. قال الله تعالى: { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } (¬2) وقال: { إن جادلوك فقل: الله أعلم بما تعملون } (¬3) وقال لرسوله عليه السلام: { وجادلهم بالتي هي أحسن } (¬4) وعني بالتي هي أحسن: البلاعة في المقال، والمناصحة في الفعال، والأعراض عن النضال.
وقد قال الله عز وجل: { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } (¬5) ذما مطلقا لا حمدا مواثقا.
صفحة ١٢
الأولى: فينبغي للطلبة إذا أرادوا ركوب هذه السفينة المنجية، وخوض لجة هذه البحار المهلكة المردية، أن يقدموا بين أيديهم تقوى الله، فإن التقوى رأس كل بر، وسبب كل خير، وحاصل خير الدنيا والآخرة./ فلن ينفعك شيء إى بالتقوى. ولا قبول إى من المتقين، وقال رسول الله عليه السلام لمعاذ بن جبل: «اتق الله في حكمك إذاحكمت» (¬1) .
الثانية: إخلاص النية لله فيما تحاول وتقاول فإن الله عز وجل لن يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه خالصا مخلصا. قال الله تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } (¬2) وقال عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬3) .
الثالثة: قبول الحق ممن جاء به، والإعتراف له والإقرار به، والإذغان له، وأن يستنكف عن صفات من وصفه الله بالاستنكاف عن الحق. ومن امتنع عن قبول الحق علما خدع نفسه، ومن أباه جهلا أوتع (¬4) نفسه. قال الله تعالى: { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } (¬5) وقال أيضا: { قلوبهم منكرة وهم مستكبرون } (¬6) وقال: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان اقبة المفسدين } (¬7) .
الرابعة: ألا يعود نفسه المجادلة في كل شيء؛ قال الله تعالى: { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } والمجادلة تدعو إلى اللجاجة، وتدعو إلى المجادلة، وإلى إغماض الناس، وإعجاب النفوس. وهي حبالة إبليس. وقد غلط الناس قديما في أشعارهم وأنثارهم. وقد نهى الله عنها لنصرة الحق. فما ظنك بمن جادل بالباطل ليدحض به الحق؟!
قال الله تعالى وعيدا وتهديدا: { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } (¬8) .
صفحة ١٣
الخامسة: أن يراعي العدل والإنصاف بينه وبين خصمه، فلن تتم مرؤة أحدكم ما لم تجتمع فيه هاتان الخصتان، ولا تقوى حتى يجمعها. وقد نصبنا العدل وافنصاف ميزانا بين كل خصمين. فمن حاد حاذه (¬1) / آد آده واستمنت منته، وخابت حجته، ومن لاذ كاده نال مراده وفلجت حجته. والحذر كل الحذر أن تظلم خصمك مثقال حبة من خردل فيكون ربك خصمك وظلمك وقصك. قال رسول الله عليه السلام: «الظلم ظلمات يوم القيامة» (¬2) .
السادسة: أن يحسن خلقه ويستعمل الأدب بين يدي ربه، ويستعمل الوقار والعلم والتقى والحلم، ولا يهمز ولا يغمز ولا يلمز. وليقابل مناظره بكل وجهه، ويظهر البشر والتبسم في وجهه، والإعظام والذب عنه في مغيبه.
فأول ما يحسن أدبه مع الله عز وجل إذا سمع كلامه أن يظهر إجلاله وإعزاز، ويصغي إلى الفائدة منه. وإنما ظهرت فوائده على قدر عقولنا، لأن فيه علم الأولين والآخرين. وقد قال علي بن أبي طالب: ما من شيء إى وفي القرآن علمه، ولكن عقول الرجال تعجز عنه. ولهل العلم في / توعيته فوائد وعوائد.
صفحة ١٤
ولا ينبغي له أن يخلط كلام رب العالمين بكلام غيره، ولا يقطعه عن خصمه، ولا يماري فيه ولا يداري. قال رسول الله عليه السلام: «لا تماروا في القرآن فإن مراء فيه كفر» (¬1) وقال عليه السلام: (اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا» (¬2) . ولا يضرب بعضه ببعض، سواء كان ذلك منه وحده أو مع خصمه. فإن نزع خصمه آية من كتاب الله عز وجل فليتربص وليلق السمع وهو شهيد، لئلا يحصل في الوعيد: قال الله تعالى: { وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } (¬3) وقد قالوا: ينبغي خفض الصوت في ثلاثة مواطن: عند قراءة القرآن، وعند الجنائز، وعند القتال.
فإذا ظهرت لك من أحد مثل هذه الأخلاق فانصحه فإنه لغو، فإن أبى فإعرض عنه واقطع كلامك دونه. قال الله تعالى: { وإذا مروا باللغو/ مروا كراما } (¬4) وقال تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فإعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، فإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } (¬5) وكذلك قول رسول الله عليه السلام، ينبغي له أن يوقره ويعزره حتى كأنه حاضر معه. فالإيمان به غائبا
صفحة ١٥
كالإيمان به حاضرا وأفضل. ويتتبع فوائده، فإنه قد أوتي جوامع الكلم. وقد عوتب في قلة الكلام فقال لأصحابه: «أعذروني فإني رسول مبلغ (¬1) « ولينته عند أمره ونهيه، قال الله تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } (¬2) وقال بعضهم: ما قطع كلام رسول الله عليه السلام أحد عن أحد إلا أصابته فتنة في دينه. ونعوذ بالله من سوابق الشقاء.وينبغي (له) (¬3) أن يستعمل الأصغاء والقبول، ولا يقابله بالرد والعدول ولا يضرب بين أقواله ولا يناقضها بأفعاله، وليؤمن ويصدق، أو ليتوفق حتى يقق، ولا يستقبلها بالتكذيب إذا ظهر/ فيها شيء من التشبيه بل يطلب لها تأويلا يحملها عليه تحميلا، ويقول: غن صح الحديث. وليقتصر في كلامه على أدنى ما يبلغ به مراده فإنه البلاغة. وما زاد فعي. وليجتنب التكرار والترداد فإنه من العي، وليجتنب التقعير (¬4) فإنه التنفير. واليجتنب التشدق (¬5) والتفيهق (¬6) والتعمق (¬7) والتوهق (¬8) والتعمق (¬9) ، وليراع العقول الحضرة، ومن وراء ذلك الحفظة الكرام البررة. وليستعمل في كلامه إذا تلكم ألا يخطب ولا يطنب، ولا يسهب ولا يعجب ولا يطرب
ولا يصخب ولا يغضب ولا يكذب، وليحذر أن يستب فإن المستبين شيطانان يتهاتران، ولا يغتب أحدا. وليجتنب ما يعتذر منه، ولا يعذر نفسه في المواطن التي لا يعذر فيها غيره، ولكن عدلا وسطا بينه وبين ربه، وبينه وبين خصمه.
صفحة ١٦
تمت الصدرة. من ها هنا/ مشره في المقصود الذي أردناه، ونبتدئ بطرق العلم ونوطدها توطيدا، ونمهدها تمهيدا إن شاء الله, ولا حولة ولا قوة إلا بالله.
باب
أقسام العلوم
أعلم أن الطرق التي تطرق فيها العلوم إلى العباد ثلاثة أقسام: حس متصل، وحس منفصل، وحس بنية . فالحس المنفصل كاللمس والذوق، والحس المنفصل هو الرؤية والسمع والشم. وحس البنية ما يجده الإنسان من نفسه من غير طريق الحاسة كالألم واللذة، والفرح والحزن، والوجود والعدم، والحدوث والقدم.
وتنقسم العقليات ثلاثة أقسام: واجب، وجائز، ومستحيل. فأما الواجب فهو ما لا بد من كونه كمعرفة الفاعل بعد ثبوت الفعل. قال الله تعالى: { أفي الله شك فاطر السموات والأرض } (¬1) فأثبت الشك عمن انتفى عنه/ جهل الفطور، فليس بعد انتفاء الشك إلا العلم. ومن قبيله شكر المنعم، بعد حصول النعم، وكفره.
ومن الواجبات أيضا ثبوت القدرة لمن ثبت له العقل، وثبوت العلم لمن ثبتت له القدرة، وثبوت الحياة لمن ثبت له العلم، وثبوت الوجود لمن ثبتت له الحياة، فهذه مقتبسة من أوائل العقول في مثلها.
وأما المستحيل فكاجتماع الضدين ووجود شيء واحد في مكانين، وتحرك الجسم إلى جهتين، ومحال فاعل غير قادر، وقادر غير عالم، وعلام غير حي، وحي غير موجود.
وأما الجائز فما عرى منهمان وسيوغ في العقل وجوده وعدمه.
وينقسم الشرع المسموع ثلاثة أقسام: أصل ومعقول أصل، واستصحاب حال الأصل.
وينقسم الأصل ثلاثة أقسام: الكتاب والسنة والإجماع. وينقسم معقول الأصل/ ثلاثة أقسام: لحن الخطاب، وفحوى الخطاب، ومعنى الخطاب، وهو العبرة. وينقسم اتصحاب حال الأصل ثلاثة أقسام: براءة الذمة، وشغل الذمة، والاستحسان.
صفحة ١٧
فأما براءة الذمة، فإن الأصل في الفرائض براءة الذمة منها، لا فرض إلا بثبوت المشرع عليه، فمن ادعى بشغلها فعليه الدليل، وما ثبت من الفرائض فالأصل شغل الذمة، ومن نفاه بعد ثبوته فعليه الدليل، وأما الاستحسان فقول بتقليد، لا تقييد ولا دليل ولا برهان, وأما فحوى الخطاب فالذي يقتضيه المعنى المذكور دون ما ذكر، كقول الله تعالىك { ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما .. } (¬1) فالشتم والضرب والأذىوالقتل أولى بالنهي.
وأما لحن الخطاب، فالضمير الذي لا يتم الكلام إلا به، كقوله تعالى: { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية.. } (¬2) أي: إن حلق وقوله:/ { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } (¬3) أي: فعليه ما استيسر من الهدي . وقوله: { ولكم في القصاص حياة } (¬4) أي: إن فعلتم. وقوله: { وما تفعلوا من خير يعلمه } (¬5) أي: فينبئكم عليه، في مثل هذا.
وأما معنى الخطاب الذي هو العبرة، فسيأتي معناه، إذا صرنا إليه.
باب في ترتيب العلوم
أعلم أن العلم ينقسم: محدث وغير محدث. فغير المحدث علم القديم سبحانه، والمحدث علم المحدث. وعلم المحدث ينقسم قسمين: ضروريا ومكتسبا. فالضروري ينقسم أقساما:
صفحة ١٨
أولهما علم البنية، وهو علم الإنسان بوجوده وبذاته وأفعاله وصفاته، وما يختلف عليه من حالاته، وما يجد من آلامه ولذاته، وقتبس من ذلك استمرار هذه الأشياء على جميع أبناء جنسه ولداته (¬1) . وإن كان/ هذا العلم ضروريا فربما تختل عليه هذه الأمور إذا كانت البنية مأفوهه (¬2) أو معتوهه: فتلتبس الحقائق بالخيال، والدقائق بالجلال، مثل ما يعترض المبرسمين (¬3) من العقلاء والمجانين.
الثاني: ما علما من العقليات الواجبات والجائزات والمستحيلات، فهذه العلوم ضرورية، وربما تفع في نفس الإنسان من أول وهلة، وربما تقع بعد تردد الخاطر فيها. فأما وقوعها من أول وهلة فكالحادثات في اقتقارها إلى محدث، والبناء إلى بان، والكتابة إلى كاتب، وسبق النفوس إلى استحسان الفاعل لحسن فعله، وذمه لسوء فعله.
فأما ما يكون عن تردد الخاطر فما يعد من الأعداد كالألوف عند الآلاف في حق أناس، والآلاف عند المئين في حق آخرين، وفوق ذلك إلى ما دون ذلك في حق آخرين حتى ينتهي إلى ما سبق عند النفس علمه/ من التفرقة بين الواحد والأثنين والبعض من الكل، والأقل من الأكثر.
والجائزات كذلك؛ فمنها ما يقع العلم به من أول وهلة، كالممعتاد من الأمور في الشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر والنبات، والشجر والسماء والأرض والدواب والبشر.
صفحة ١٩
ومنه ما لا يقع من أول وهلة، كبعثة الرسل، وتزول الكتب، وإثبات صانع ليس بجسم، وفاعل في غير ذاته، وعالم لا بحلول العلم في قلبه، وحدوث الدار الآخرة، ونشر الأموات. فلذلك استعمل أهل الجحود والإنكار الإنكار والكفران بالنشأة الأخرة بعد إقرارهم بالنشأة الأولى، فصدموا قوارع القرآن قبل محك الإمتحان.
والمستحيلات أيضا كذلك؛ ربما تقع من أول وهلة، كاجتماع الشيء وضده وكون شيء معدوم مع وجوده. فأما ما لا يقع من أول وهلة فإثبات البداية للمحدثات/ واستمرار النهايات للموجودات، وإثبات العالم بأسره محدثا والصانع القديم جسما.
والثالث: ما يعلم من جهة الحاسة. كلها ضروري، أما من جهة البصر فالأدوات والألوان، والصور والأكوان. وأما من جهة السمع، فالأصوات بأصنافها. وأما من جهة الذوق، فالطعوم بأصنافها من الحلو والمر والقارص والبشيع وغير ذلك. وربما يقع الغلط في هذه الحواس وإن كان علمها ضروريا، كالذي يجري للبصر، قد يغلط في عشرة أمكنة:
أولها: يرى البعيد قريبا والقريب بعيدا.
والثاني: يرى الصغير كبيرا والكبير صغيرا.
والثالث: يرى المتحرك ساكنا والساكن متحركا.
والرابع: يرى الأسود أبيضا، والأبيض أسودا.
والخامس: يرى الواحد اثنين والأثنين واحدا.
والسادس: يرى الخيال فيتوهنه حيوانا أو مواتا.
والسابع: يرى الأشياء على غير ما هي عليه كالسحر.
والثامن: يرى ذا الزوايا مدورا، والمدور مسطحا.
والتاسع: يرى القائم نائما والنائم قائما كالذي يعرض لأهل الميد (¬1) والدوار.
والعاشر: السمادير ضعف البصر، ويقال: هو الشيء الذي يعتري الإنسان من ضعف بصره عند السكر من الشراب وغيره.
وأما غلط حاسة السمع في المسموعات كالذي يجري للسمع من النبأة (¬2) والدوي تحسبها أصواتا من بعيد، والبعيد منها قريبا والقريب بعيدا. وكغلط في الجهة.
صفحة ٢٠