وإن كانت الأموال للترك جمعها
فما بال متروك به المرء يبخل
اليأس
اليأس عنوان الشقاء، وأصل كل تعاسة، بل هو فاتحة الشر ودليل الخسران ومنبع الكبائر، كم بدد لذات ، وقوض من آمال، وأوهن من عزائم، وأذل من نفوس! بل هو علة مخلوقات الله تعالى. «اليأس والبؤس» كلمتان متشابهتان؛ فاليأس حليف الموت، والبؤس حليف الفقر. ومن بواعث اليأس: الهم، والغم، والشر، والشقاء.
وموضوع اليأس مريع حير فلاسفة العالم، وأدهش حكماء الكلام، وتاهوا في معنى أسبابه وحصوله. كم من ملوك دوخوا أقطار العالم، ورهبت بأسهم الدنيا! إذا استولى عليهم اليأس تراهم وقد تزلزلوا عن عروشهم، وتقوضت دعائم مجدهم، وفي لحظة واحدة تجدهم تحت رحمة القضاء العاجل والحتف المميت. وكم ملك فتح مدائن الأرض بمرهف سيفه، وهدم القلاع بقوة بطشه، واستعبد الأحرار بجبروته، وأسر الملوك بعزمه وحزمه، وسار القواد تحت أمره ورأيه، ومشت سنابك خيله على جثث العباد، ورفات الخلائق من بني الإنسان! ولو شاء لجرى القضاء طبق ميوله، واستلم النصر بيمينه، ولعب بالخلائق لعب الباشق بالعصفور الحقير، يقلبهم كيف شاء وشاءت أطواره وأفكاره، وبينما جيشه يسد فراغ الأرض، ويحجب غباره ضياء الشمس، وقد سطع شعاع سيفه كبرق لامع أضاء تلك الآفاق ليهتدي ببريقه جيشه وقواده، ومتى لعبت به صروف الدهر أو عاكسته الأيام؛ تجده وقد أشاح عنه القدر تلك العظمة، وزلزلته النكبات فهبط من سماء مجده إلى الحضيض الأسفل من الأرض، بائسا يائسا كأنه قنط من رحمة الله تعالى، وكأنه لم يكن شيئا مذكورا بعد تلك الانتصارات التي سطرتها له الأيام على جبين الدهر، ولم يوطد دعائم مجده وفخاره، وكأنه وهو في تلك الحالة من تقويض الآمال العظيمة ترك عليه الشقاء أثرا من بلائه؛ فأصبح يناجي الموت ليريحه من متاعب الدنيا ونحوسها، بعد أن كان يناجيه الحظ، وتخدمه السعادة، وتنحني أمامه الرءوس رهبة، والهامات هيبة وإجلالا. خانه الدهر وتنكرت عليه الأيام؛ فأصبح وكأنه لم يكن ذلك المخلوق المجدود الذي أسعدته ظروف الولادة. ومن أدراك به فربما مات شريدا عن وطنه، أو حكمت عليه يد غاشمة بالنفي الدائم أو السجن المؤبد؟! وهذا قليل من كثير ممن صادفهم سوء الطالع، وهم من الملوك العظام يضيق بنا المقام عن حصرهم.
القسم الثاني
تعساء الشقاء حلفاء الفقر
«الفقر» هو الفاقة، والفاقة هي البؤس الحقيقي، ومن أصابته علة الفقر صار شقيا. والفقر متى حل بقوم جعلهم في نكد مستمر، وجلب عليهم الهم من كل صوب. ومن نكب بالفقر فهو من بؤساء الدنيا، والبائس من عاش محروما من مشتهيات نفسه. ولقد داهم الفقر طائفة من المشاهير الأعلام، نوابغ الدنيا وحكماء الكلام، وفلاسفة الدهور وعلماء الإسلام.
تراهم وقد حلينا برسومهم هذا الكتاب؛ إتماما للفائدة التي بسببها اعتمدت على الله عز وجل وقمت بواجب طبعه ونشره بين الناس، وأنا على يقين من أنه لم يسبقني في وضعه أحد، بل هو الكتاب الوحيد في هذا الفن.
الفارابي «الفارابي» وهو محمد أبو نصر بن محمد بن أوزلع بن طرخان، من مدينة فاراب ببلاد الترك، كان إماما فاضلا، وفيلسوفا كاملا، برع في الفلسفة وأتقنها وأظهر محاسنها، وتفنن في فن الموسيقى واخترع فيه ما لم يسبقه إليه أحد، وشرح كتب الأوائل. وكان في أول الأمر قاضيا ببلاده، فأودع عنده رجل من التجار جملة من كتب أرسطاطاليس، فتلاها فصادفت عنده قبولا؛ فانكب عليها بجملته. وتجرد عن مركزه وترك القضاء لأجلها وسافر إلى بغداد، وأقام بها. وقرأ المنطق على ابن حبلان، وقرأ النحو على أبي بكر بن السراج، ثم سافر إلى مصر، ومنها رحل إلى الشام وأقام بها إلى أن توفي سنة 1334 هجرية. وكان على ما هو عليه من العلم والحكمة والفلسفة قانعا باليسير من عيشه، ولم يتحصل من الرزق إلا على القليل التافه.
صفحة غير معروفة