ثم يواثب القلق بسمارك فيسأل كابريفي عن المعاهدة الروسية في أثناء تنزه في حديقة المستشارية، فيجيب هذا الجنرال عن ذلك بقوله: «يمكن رجلا مثلكم أن يلعب بخمسة كرات دفعة واحدة على حين يكتفي الآخرون باللعب بكرة واحدة أو كرتين.» ويجتمع المستشارون، ويوجههم هولشتاين، ويصرحون بأن ما تشتمل عليه هذه المعاهدة من فوائد هو لروسية، ويقولون إنها تشجع روسية على إثارة أزمة في الشرق، فتنقض فرنسة على ألمانية آنئذ!
وهكذا ترى إزالة ركن من أسس عمل بسمارك في ثلاثة أيام نتيجة لتلك الحجج الواهية التي تنم على قصر بصر، ونتيجة لحقد ودس فيهتز جميع البنيان، وهولشتاين فضلا عن ذلك يؤثر في أناس من ذوي القدر بكلام يخرج من فيه، ثم يؤثر كابريفي فيما يأتي به هولشتاين من تلقين قاصدا أن يجيء بشيء جديد يحمل به مولاه الشاب على الإعراض عن القيصر البغيض، ويسر الإمبراطور بأنه وجد أخيرا ناصحا بدلا من الثعلب الخطر «يعمل بهدوء وصراحة ووضوح ومع اجتناب للمخاطر الدبلمية»، ويشعر ولهلم بأنه يسير سيرا مستقيما كالبروسي الحقيقي في قديم الأزمان، وينبئ هولشتاين في نهاية المقابلة بأن الإمبراطور قال: «والآن يجب أن يسدل ستار على المسألة، وأراني آسفا على قول هذا.»
كلمات قليلة يسهل النطق بها في حجرة صغيرة من ذلك القصر الذي ولد فيه ذلك الإمبراطور الشاب منذ ثلاثين سنة، كلمات قليلة يمليها الميل والحقد والحسد والطموح والحمى والفزع والهلع والهوى ونسيج مستعص من الفتون كان عدم شعور العاهل به أقل من سواه، كلمات قليلة لم يسطع أحد أن يبصرها غير ذلك البصير الذي عاد لا يسأل عن رأيه، كلمات قليلة تزلزل سلامة الإمبراطورية الألمانية، كلمات قليلة تسفر عن التحالف الفرنسي الروسي.
وبسمارك في الأيام الأخيرة التي يقضيها في برلين يزيد ثبات خلق، وبسمارك لا يكظم غيظه، ولكن ضربا من المكر كان يحول دون تبرمه فيهدف إلى إظهار نفسه رجل العالم، وهو لا يبدي شيئا لزملائه العدائيين، وهو يقول لبوتيشر الذي قبل يديه مودعا: «إنكم مسئولون جزئيا عن هذا الفراق.» ويقيم مأدبة وداع خيالية للوزراء في الغرف الخالية التي أنى له أن يغادرها فلم يصافح بوتيشر عند وصوله مزدريا مع أنه هو الداعي ومع اشتهاره بمراعاة الرسميات في مثل هذه الأمور، ويعرض عليه زملاؤه إقامة وليمة له فيرفض ذلك بصوت ثابت: «لم أر بين موظفي الإمبراطورية غير وجوه باسمة، وهذا إلى أنني عدت الآن غير مستشار بما اقترفتموه من ذنب.» وفي تلك الأحايين تساور فؤاد ذلك الوثني مشاعر الحقد والانتقام، وليس هذا من الخسة، بل هو زئير أسد جريح.
ومن يزره يأخذ رشاشا من الصحة، ومن ذلك أن جاءه سفير النمسة بكتاب ودي رقيق من الإمبراطور فرنسوا جوزيف، وفي هذا الكتاب إشارة إلى أن استقالة بسمارك كانت لانحراف صحته، فيرد المستشار السابق هذا السبب مناقضا بذلك ما ذكره الإمبراطور ولهلم مصدرا للأمر، مبينا أنه كان يتمتع بصحة جيدة جدا حين استقالته، ومن ذلك أن جعل السلطان يعلم بواسطة سفير تركية أنه عزل من منصبه عزلا، ومن ذلك أن قال لسفير بافارية إن الإمبراطور لا قلب له وأن وصف له ولهلم بالرجل الذي «سيدمر الإمبراطورية» وقد ذهب مودعا إلى السفارات الأجنبية فمحى بالقلم الرصاصي كلمة «مستشار الإمبراطورية» من البطاقات التي تركها فيها، وقد تكلم عن وضعه الجديد فقال: «يسرني أن يخاطبني الناس باسم بسمارك، فإذا حدث أن استعملت لقب دوك كان ذلك عند سياحتي متنكرا.» وقد اتهم دوك بادن الأكبر مواجهة بحوك الدسائس حتى تركه هذا الأخير مغاضبا.
ويذهب بسمارك لتوديع الإمبراطور شكلا، فلا يدع مسئولية ولهلم في عزله تمر مقنعة، ولما تظاهر الإمبراطور بالسؤال عن صحته مع الاكتراث قاطعه بغلظة قائلا: «إن صحتي جيدة يا صاحب الجلالة.» ولكنه لم يستطع أن يجعل ولهلم يوافق على نشر كتاب استقالته، ويعود إلى المنزل فيقول: «إن أمورا نفسية استحوذت علي» في تلك الزيارة، وفي الوقت نفسه يضطر بسمارك إلى رزم ثلاثمائة صندوق وثلاثة عشر ألف زجاجة خمر على عجل فيؤدي هذا إلى انكسار أدوات ثمينة؛ وذلك لأن خلفه كان قد تسلم عمله، ولأنه أمهل يوما واحدا كما روى، وتموت أوغوستا، وتحاول عدوته الأخرى فيكتورية أن تشمله بكل مجاملة بعد فوزها العظيم.
ويزور بسمارك التربة الملكية قبل رحيله نهائيا، وينتحل وضع شاعر فيضع ثلاث وردات على ضريح مولاه الشائب، ثم يتناول القربان في منزله، ويريد القسيس أن يعظ بآية «أحب أعداءك»، فتنهض حنة التي نظمت تلك الحفلة وتسكت القسيس المذعور. ثم تمدد بسمارك على متكأ فلخص السنين العشرين التي قضاها في هذا البيت كما يأتي: «لقد أمتعت نفسي بأمور كثيرة، وأنا الآن في الخامس والسبعين من عمري، ولا تزال زوجتي معي ولم أفقد أحدا من أولادي، فهذه من النعم الكبرى، وكنت أعتقد دوما أنني أموت في منصبي، والآن ليس لدي ما أصنعه، وكنت أقوم بشئون الخدمة مترجحا بين المرض والصحة مدة ثمان وعشرين سنة فأستقبل بريدا وأرسل بريدا في كل يوم، والآن قد انتهى ذلك، ولا أعرف ماذا يجب علي أن أعمل، وأجدني مع ذلك أحسن مما أنا عليه في أي وقت مضى.»
وهنالك العامل الفاجع في الوضع، فعمل الشيخ اليومي هو الذي نزع منه، وبسمارك في تلك الليلة لم يتكلم عن الخطط ولا عن الريخ الذي أوجده فيشعر اليوم بأنه في خطر، بل يتكلم عن بريده اليومي، وهكذا تكون آخر يد يصافحها هي اليد التي لم يحدث أن مسها قبل اليوم مع تناوله مواده منها في كل يوم منذ عشرين سنة، هي يد لفرستروم المعروف بالفارس الأسود وببريد بسمارك، لا يد وزير أو يد سفير أو يد أمير، ويتجلد لفرستروم بعد أن يدعى قبل انصراف الأمير بثلاث ساعات فيقابل من فوره، ويظهر أن هذا هو الوداع الوحيد الذي فقد فيه المستشار السابق رباطة جأشه هنيهة عند النهاية.
ويدخل لفرستروم فتتوارد ذكريات اليوم الأول من الإمبراطورية إلى خاطر بسمارك، ويفكر بسمارك في أيام فرساي حينما نظر إلى ذلك الرجل للمرة الأولى فعينه في وظيفته الحاضرة، ويسأله بسمارك عن بقائه محبا لعمله، ويقول: «لا أزال أذكر الغرفة التي قدمت إلي فيها تقريرك الرسمي الأول حينما كنت قائد عشرة.» ثم يشكر بسمارك له صدق خدمته في تلك السنوات الكثيرة، أي يبدي له من الشكر ما لم يبد مثله لأحد من رجال الإمبراطورية، ثم يقدم إليه ما هو بدع لديه من هدية، ويتناول بسمارك أول كأس تقع تحت يده من الكئوس الفضية الكثيرة ويسلمها إليه «لتكون شاهدة على عرفاني الجميل ولكيلا تنساني».
الفصل السادس
صفحة غير معروفة