باب في وصف النفاق والدليل على أن كل عاص منافق
إعلم هداك الله أن كل من عصى الله بكبائر معاصيه ، وأصر على ذلك فليس فعله ذلك إلا عن قلة يقين بوعيد الله واستخفاف بحرماته, وإنهم في شك من الجنة والنار ومما يدعوهم اليه مريب ، وذلك أن القلوب والأبدان والعقول مطبوعة على الحذر من قليل الآلام والأوجاع ، حتى إن الإنسان إذا صدع أوحم يوما فقيل له : احتم ودع الطعام والشراب أو الجماع ، وذلك فلذة الدنيا يجوع ويعطش جهده ، وترك لذاته جميعا حذرا من أن يزيد وجعه أويدوم ورجاء العافية, وهذه فلذات الدنيا التي بها يفتتن المفتتنون ، ولها تباع الآخرة، وتقطع الأرحام ويكتسب سوء الأحدوثة ويعبد أحدهم سلطانه الظالم بالطاعة له إذا خاف منه حبس يومين أوضرب عشر درر ، أوإرهاقا في خراج أو ازورار وجه عنه ، أوشدة حجاب ، اوكان منه رغبة في غرض من الأغراض فخاف فوات مارغب فيه ، ويدع عبادة ربه ، فلو كان هؤلاء الناس موقنين بالجنة والنار وماوعدالله وأوعد الأبرار والفجار, وصدقوا بقول الله سبحانه :?كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما? عزيزا في أخذه وتعذيبه أعداءه ، حكيما في تدبيره وتحقيق وعده ووعيده لكانوا لايعصونه متعمدين ، ولايصرون على مايكره منها ، مستخفين بحرماته والله المستعان.
واعلم أنه لاإيمان لمن لاإيقان له ، ولاإيقان لمن يصر على معاصي خالقه قال الله سبحانه :?ألم ذلك الكتاب لاريب فيه? الى قوله :?وأولئك هم المفلحون? وماالغالب على الناس في اصرارهم على معاصي الله إلا قلة اليقين ، وماالذي يظهر منهم من الإقرار بالشهادتين والصوم والصلاة إلا شيء قد تعودوه ، وحقنوا به دماءهم ، وماأتوا به من ذلك أيضا ، فليس يأتي على حقيقة إلا القليل ممن عصم الله وخافه.
صفحة ٣٩