لشيخ الإسلام قاضي القضاة أبي الفضل ابن حجر رحمه الله تعالى
صفحة ١٧
بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخ الإسلام، أبو الفضل، ابن حجر -رحمه الله-:
سئلت عما ذكره الشيخ كمال الدين في (حياة الحيوان) في البرغوث.
قال: ولا تسب؛ لما روى أحمد، والبزاز، والبخاري في (الأدب)، والطبراني في (الدعوات)، عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يسب برغوثا، فقال: ((لا تسبه؛ فإنه أيقظ نبيا لصلاة الفجر)) وفي معجم الطبراني عن أنس -رضي الله عنه-: ذكرت البراغيث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إنها توقظ للصلاة)).
وفيه: عن علي -رضي الله عنه-: نزلنا منزلا، فآذتنا البراغيث، فسببناها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوها؛ [فنعمت الدابة] فإنها أيقظتكم لذكر الله -عز وجل-)).
وكان سؤال السائل خاصا بقوله: ((لصلاة الفجر))، هل هي ثابتة عن الذين نسب تخريج الحديث إليهم؟ أو عند بعضهم، زائدة على غيره؟
صفحة ١٨
فإن قيل: هي ثابتة فهل يستفاد منها أن يفسر ((النبي)) الذي أيقظته، بنبينا محمد - عليه من ربه الصلاة والسلام صلى الله عليه وسلم ؛ لكون صلاة الفجر لم تفرض على غيره من الأنبياء -عليهم السلام-؟ أو لا يفسر به؟ ولو فرضت عليهم أو على بعضهم فلا يتعين تعيين النبي المذكور في الخبر بنبينا وهو على الإحتمال.
والجواب عن ذلك: أنه يبدأ أولا بتحرير المنقول المذكور، فإذا تحرر، حصل الجواب عن ذلك.
فأقول:
قوله أولا: ((لما روى أحمد)) فيه نظر؛ فإن الحديث المذكور ما هو
في مسند أحمد، وقد راجعت مسند أحمد من أصلي، ومن ترتيبه لابن المحب، ثم لابن كثير، ثم في زوائده التي أوردها شيخنا الهيثمي مما ليس في الكتب الستة، فما وجدت الحديث المذكور فيه.
وقوله: ((والبزار، والبخاري في (الأدب)، والطبراني في (الدعوات)
عن أنس رضي الله عنه إلى آخره)) ظاهره أن لفظ الحديث في هذه الكتب الثلاثة واحد؛ وليس كذلك بل في سياقه مغايرة لكل من الكتب الثلاثة:-
أما البزار: ففيه تقديم وتأخير ونقص كلمة وإبدال لفظة بأخرى؛ لأن لفظه: ((سب رجل برغوثا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - والباقي مثله إلا أنه زاد بعد قوله: (نبيا)- (من الأنبياء)، وقال: (لصلاة الصبح).
صفحة ١٩
أما البخاري: فلفظه: ((أن رجلا لعن برغوثا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا تعلنه فإنه أيقظ نبيا من الأنبياء للصلاة))؛ فأبدل السب باللعن، ولم يعين الصلاة، وزاد: ((من الأنبياء)).
وأما الطبراني: فلفظه مثل البخاري؛ لكن لم يقل: ((عند النبي صلى الله عليه وسلم)). وقال: ((نبه)) بدل: ((أيقظ)).
وفي إطلاقه أن البخاري أخرج له في الأدب ما يوهم أنه أخرج له في كتاب الأدب من صحيحه؛ وليس كذلك؛ بل إنما أخرج له في جزء مفرد خارج الصحيح.
فحاصل هذا: أن عزوه لتخريج أحمد خطأ، وللثلاثة الآخرين صحيح؛ لكن اللفظ الذي ذكره ليس هو لفظهم ولا لفظ واحد منهم.
وقد وجدنا الحديث في: مسند أبي يعلى، وفي الكامل لأبي أحمد بن عدي، وفي مسند الشاميين للطبراني ووجدنا اللفظ الذي ساقه لفظ: أبي أحمد ابن عدي من طريق: النضر بن طاهر -وقد كذبوه-.
عن سويد بن إبراهيم أبي حاتم، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، فيتعجب من كونه يسوق لفظه ولم يتقدم له ذكر، ويترك ألفاظ من نسب إليهم الحديث.
قوله: ((وفي معجم الطبراني إلى آخره)) هذا الإطلاق ينصرف إلى
صفحة ٢٠
المعجم الكبير للطبراني الذي هو كالمسند؛ لأنه مرتب على حروف المعجم، في أسماء الصحابة -رضي الله عنهم- وليس هذا الحديث في ترجمة أنس بن مالك رضي الله عنه منه؛ ولكنه ساقه في المعجم الأوسط للطبراني، وهو معجم شيوخه رتب أسماؤهم فيه على حروف المعجم، واللفظ الذي ذكره أورده من طريق الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس رضي الله عنه.
وقد أخرجه الطبراني أيضا في مسند الشاميين من طريق معن بن عيسى عن سعيد بن بشير فساقه بلفظ آخر وهو لفظ البخاري في (الأدب) سواء؛ لكن زاد فيه ((من الأنبياء)) وكلام الطبراني في الأوسط يقتضي أنهما حديثان؛ فإنه قال عقبه في الأوسط: ((لم يروه عن قتادة إلا سعيد بن بشير، تفرد به الوليد بن مسلم)).
وأما البزار: فالحديثان عنده واحد اختلف الرواة في لفظه؛ فإنه قال: -بعد أن أخرجه باللفظ الماضي-: ((لا يعلم رواه عن قتادة إلا سويد بن إبراهيم)).
ثم قال: ((وقد ذكروا أن سعيد بن بشير رواه عن قتادة)).
ذكر ما اتصل لي من الطرق المذكورة
صفحة ٢١
قرأت على أبي بكر بن أبي عمر بن محمد بن إبراهيم الحموي، ثم المصري -بمنزله على شاطئ النيل- أن جده محمد بن إبراهيم بن سعد الله - وهو آخر من حدث عنه بالسماع - عن مكي بن علان عن الحافظ أبي طاهر السلفي، أنا أبو غالب محمد بن الحسن الباقلاني، أنا القاضي أبو العلاء، محمد بن علي الواسطي، أنا أبو نصر، أحمد بن محمد بن الحسن البخاري ثنا أبو الخير، أحمد بن الجليل العبقسي، ثنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، ثنا محمد بن بشار، ثنا صفوان بن عيسى، ثنا سويد أبو حاتم، عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلا لعن برغوثا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا تلعنه؛ فإنه أيقظ نبيا من الأنبياء)).
وقرأت على فاطمة بنت محمد بن أحمد بن محمد بن عثمان بن المنجا بدمشق، عن سليمان بن حمزة -وهي آخر من حدث عنه في الدنيا-، أنا إسماعيل ابن ظفر. أنا أبو عبد الله بن أبي زيد، أنا محمود بن إسماعيل، أنا أبو الحسين ابن فاذشاه، أنا أبو القاسم الطبراني: ثنا إبراهيم [بن] هاشم البغوي، ثنا عمار بن هارون أبو ياسر، ثنا سويد أبو حاتم، فذكر مثله سواء؛ إلا أنه لم يقل: ((عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((فقال النبي صلى الله عليه وسلم)) وقال: ((نبه)) بدل: ((أيقظ)).
وقرأته عاليا -متصلا بالسماع- على عبد الرحمن بن عمر بن عبد الحافظ الوراق بصالحية دمشق، وأجازني أخوه عبد الله قبل ذلك -مكاتبة- قالا: أنا أحمد بن محمد بن معالي الزبداني، وأبو بكر بن محمد بن عبد الجبار قالا: أنا محمد ابن إسماعيل بن أبي الفتح قال: قرئ على فاطمة بنت سعد الخير -وأنا أسمع-.
صفحة ٢٢
عن زاهر بن طاهر -سماعا-، أنا أبو سعد الكنجروذي، أنا أبو عمرو ابن حمدان، ثنا أبو يعلى، ثنا أبو ياسر المستملي، ثنا سويد أبو حاتم الجحدري، ثنا قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلدغت رجلا برغوثة، فلعنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنها فإنها نبهت نبيا من الأنبياء للصلاة)).
وقرأنا على فاطمة بنت محمد بن عبد الهادي، عن أبي نصر بن الشيرازي، أنا عبد الحميد بن عبد الرشيد -في كتابه إلى جدي لأبي، الحافظ [أبي] العلاء المصيصى العطار-، أنا أبو علي الحداد، أنا أبو نعيم، ثنا الطبراني، ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: ذكرت البراغيث عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنها توقظ للصلاة)).
وبه إلى الطبراني. ثنا هاشم بن مرثد، ثنا آدم بن أبي [إياس]، ثنا أبو أيوب القاضي، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نزلنا منزلا فآذتنا البراغيث، فسببناها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوها؛ فإنها أيقظتكم لذكر الله عز وجل)).
صفحة ٢٣
قال الطبراني: لا يروى عن علي إلا بهذا الإسناد، تفرد به آدم.
ومحصل القول في حديث أنس رضي الله عنه:
أنه روي عنه في هذه الكتب وغيرها من طريق قتادة بالألفاظ المذكورة المختلفة، والمعروف بروايته عن قتادة: سويد بن إبراهيم، أبو حاتم الحجازي، الحناط، صاحب الطعام، البربري، وهو ضعيف عند الجمهور.
وقال ابن معين - في رواية: صالح، وفي أخرى: ضعيف، وفي أخرى: أرجو أن لا يكون به بأس.
وقال أبو زرعة: ليس بالقوي، حديثه حديث أهل الصدق.
وقال البزار: ليس به بأس.
وقال [الساجي]: فيه ضعف، حدث بحديث منكر.
وقال أبو أحمد بن عدي: ليس بذلك، ويخلط على قتادة، وهو إلى الضعف أقرب.
صفحة ٢٤
وفي تخريج البخاري له في كتاب الأدب المفرد ما يدل على .. (¬1) عنده، وقد أفحش القول فيه أبو حاتم بن حبان؛ فقال: يروي الموضوعات عن الثقات، وهو صاحب حديث البرغوث، ثم ساقه عن الحسن بن سفيان قال: حدثنا النضر بن طاهر، سمعت سويدا أبا حاتم يحدث عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، فذكر الحديث باللفظ الذي أخرجه به البزار، سواء.
قلت: والنضر أضعف من سويد، قالوا: إنه كان يسرق الحديث.
قال ابن عدي - بعد أن ساقه من طريقه بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يسب برغوثا فقال: ((لا تسبه؛ فإنه نبه نبيا من الأنبياء لصلاة الفجر)) -: هذا الحديث يعرف بصفوان بن عيسى، عن سويد؛ فسرقه منه النضر بن طاهر، وهو معروف في جملة من يسرق الحديث. انتهى، وقد سرقه منه آخر.
أخرجه أبو يعلى عن أبي ياسر، عمار بن هارون المستملي، عن سويد، ولفظه: ثنا قتادة، عن أنس رضي الله عنه كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فلدغت رجلا برغوثة، فلعنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنها؛ فإنها نبهت نبيا من الأنبياء للصلاة)).
وأخرجه الطبراني في الدعاء باللفظ الذي قدمته عنه.
ووجدنا الحديث من رواية سعيد بن بشير، عن قتادة في كتابين للطبراني: المعجم الأوسط -وقد ذكرت لفظه-،
صفحة ٢٥
- والثاني: مسند الشاميين -وقد ذكرت له لفظه أيضا-، وليس فيه لتعيين الصلاة ذكر، والحصر يعين الصلاة بلفظ: ((صلاة الفجر)) التي اقتصر عليها المصنف في تخريج ابن عدي من طريق النضر بن طاهر الذي كذبوه.
ووجدناه في مسند البزار من طريق صفوان بن عيسى باللفظ الذي ذكره عنه، وفيه: ((لصلاة الصبح)) وقد شذ بهذه اللفظة؛ فإن الذين .. (¬1) فكأنه دخل [عليه] حديث النضر بن طاهر في حديث صفوان بن عيسى.
والصواب في حديث صفوان: إطلاق الصلاة بغير وقت الصبح ولا الفجر، ويقوي هذا الطريق، أن الذين رووه عن صفوان بن عيسى، وإن اختلفت ألفاظهم فالمعنى واحد، ووافقهم أبو ياسر عن سويد، مع ما قيل فيه.
وأما النضر بن طاهر: فساق لفظه ابن حبان عن الحسن بن سفيان، وابن عدي عن محمد بن [الحسين] ابن شهريار، وعن محمد بن صالح بن توبة ثلاثتهم عن النضر، ولم يختلف لفظهم إلا في اللفظة التي انفرد بها النضر، وهي تعيين الصلاة؛ فقال مرة: ((الصبح))، ومرة ((الفجر))، فلم يصح تعيين الصلاة في حديث أنس رضي الله عنه.
وأما حديث علي رضي الله عنه فهو ضعيف لضعف [راويه] وهو سعد بن
صفحة ٢٦
طريف الإسكاف، الحنظلي الكوفي قال فيه يحيى بن معين: لا يحل لأحد أن يروي عنه، وقال النسائي، والدارقطني، والأزدي متروك، وضعفه الأكثر، وقال ابن حبان: يضع الحديث؛ فلم يثبت حديث عن علي رضي الله عنه في ذلك.
وأما حديث أنس رضي الله عنه فإنه متماسك، يعمل به في فضائل
الأعمال.
والعلم عند الله تعالى، وله الحمد على كل حال.
آخر البسط المبثوث بخبر البرغوث لشيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله.
علقه أحمد بن خليل بن اللبودي عفا الله عنه، بجامع مصر المحروسة، والحمد لله.
صفحة ٢٧