فإذا علم البالغ(1) أن هذا هكذا، كان عليه أن يشكر المنعم عليه، فإذا علم أن شكر المنعم عليه واجب؛ كان عليه يشكر المنعم(2)، وشكر المنعم عليه هو: الطاعة له، وفي الحكمة التقويم بين المطيع والعاصي، وفي ذلك إيجاب الثواب والعقاب. فلما تصرمت أعمار المطيعين ولم يثابوا، وتقضت آجال العاصين ولم يعاقبوا؛ وجب على قود التوحيد واطراد الحكمة أن دارا بعد(3) هذه الدار؛ يثاب فيها المطيعون، ويعاقب فيها المسيئون. وهذه أمور أوجبتها الفطرة، واستحقت بالإيمان، وقليل من تقررت المعرفة في قلبه إلا باستقرار أوليها، وشهادة بعضها على بعض، وتضمين كل شيء منها ما قبله وبعده، واستطراد ذلك كله في العقول.
فلما أن كان ذلك كذلك، كان في ضرورة العقل أن لا سبيل له إلى علم كيفية الطاعة دون الخبر(4) من عند المنعم بكيفية الطاعة، إذ لا يمكن الخبر من الله ملاقاة لله، فإذا علم أن الخبر لا يمكن من الله مشافهة لله، علم أن خبر الطاعة لا يمكن إلا برسول من عند المنعم، بائن من البشر في أعلامه وأفعاله.
فمن هاهنا لزم البالغ المدرك أن يعلم أن لله رسولا من قبل(5) أخبار الناقلين، فلما لم يجز إلا بعثة الرسل، وكانت الرسل من البشر، وفي مثل تركيب المبعوث إليهم، وعبادا لله مثلهم؛ لم يجز تصديقهم على الله إلا بدلالة بينة، وحجة قاطعة؛ يعلم الخلق بعجزهم عنها أن الله تولى ذلك على أيديهم، فجاءت الرسل بالآيات التي ليس في قوى الخلق المجيء بمثلها، فوجب تصديقهم على الله بعد الحجة والبيان.
صفحة ١٦٩