مقدمة
...
البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر
تأليف: محمد بن علي الشوكاني
تحقيق: عبد الكريم بن صنيتان العمري
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيِّد الأولين والآخرين، وقائد الغر المحجلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الله تعالى خلق الإنسان ليعبده وحده لا شريك له، كما قال جل شأنه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ ١.
وعبادة الله - تعالى- تتمثل في تنفيذ أوامره، وامتثالها، واجتناب نواهيه، والبعد عن محارمه، والتأدب بالآداب الإسلامية الفاضلة، والتحلي بالأخلاق الحميدة النبيلة، وقد جاء كل ذلك موجها إلى المؤمن، ومخاطبا به، في آيات القرآن الكريم، وأحاديث رسول الله ﷺ، فقد تضمن هذان الأصلان (الكتاب والسنة) التكاليف الشرعية التي-أُمِر بها المسلم، وألزم بتنفيذها.
وضمانًا لامتثال ذلك كله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب؛ لتبليغ شرع الله إلى خلقه، ومن أجل أن يقوم الإنسان بالمهمة الجليلة
_________
١ الآية (٥٦) من سورة الذاريات.
1 / 5
التي خلق. من أجلها، ميَّزه الله- تعالى- عن سائر المخلوقات، فوهبه العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، والخير والشر، والنافع والضار، والحسن والقبيح.
فالعقل هو آلة التمييز والتفريق، ووسيلة الفهم والإدراك، أحاطه الشارع بسياج متينة، فجعله مناط التكليف في العبادات كلها يدور معه التكليف! وجودا وعدما، وذلك أمر ثابت في الشرع، ومعلوم من الدين بالضرورة.
فقد أشارت الكثير من الآيات القرآنية- التي خوطب بها المكلفون- إلى نعمة العقل ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ١ ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ٢ ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ٣
وذمَّ الله تعالى أولئك المعرضين عن التفكر بمخلوقات الله، الذين استخدموا عقولهم في غير ما كلفوا به ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾ ٤.
لذلك كله فإن الشريعة الإسلامية حرصت أشدَّ الحرص على حفظ العقل، وصيانته، وحمايته من كل ما يخل به، أو يتسبب
_________
١ الآية (٢٤٢) من سورة البقرة.
٢ من الآية (١٠٩) من سورة يوسف.
٣ الآية (١٠) من سورة الأنبياء.
٤ الآية (٥٨) من سورة المائدة.
1 / 6
إزالته، كما أكدتْ على وجوب حفظ الضرورات الأربع الأخرى: الدين، النفس، العرض، المال.
وإذا حفظ المرء عقله وحافظ عليه، وصانه عن كل ما يخدشه، أو يغيره، سهل عليه القيام بما كلف به، وفهم الخطاب الموجه إليه، وقام به على أكمل وجه، فيحفظ دينه، ويحافظ على نفسه، ويستبسل في الدفاع عن عرضه، ويحرص على إنفاق ماله في الوجوه المشروعة. أما إذا أهمل العقل وضيعه، واستعمله فيما لا ينفعه، فإن انحرافه عن جادة الصواب قريب، ووقوعه في مزالق الرذيلة وشيك.
إن العبث بالعقل، وإفساده، جريمة كبيرة تعد من أفظع الجرائم، وإن من أعظم الوسائل التي تفسد العقل، وتغيره، تعاطي المسكرات أو المخدرات، إذ إن تناولها يؤدي إلى تغطية العقل، وحجبه عن أداء واجبه الذي خلق من أجله، فلا يعرف ماهيته في هذه الحياة، ولا يدرك وظيفته فيها، فيكون بذلك قد فرط في المحافظة على إحدى الضرورات التي أمر بصيانتها، والعناية بها، وعدم الاعتداء عليها.
إن ذلك الفرد الذي اعتدى على عقله، وغيَّره عن صورته الحقيقية التي خلق عليها، يعد واحدًا من أفراد المجتمع، ولبنة من لبناته، يمثل مع غيره المجتمع بأسره، الذين باستقامتهم يستقيم المجتمع، وبصلاحهم تسعد الأمة الإسلامية، وتكون قوة ضاربة تقف في وجه أعدائها المتربصين بها من كل جانب.
لقد حرص أعداء الأمة الإسلامية شرقا وغربا، وفي كل مكان، على إفساد هذه الأمة، وهدم كيانها، وشلِّ حركتها، والقضاء عليها،
1 / 7
فبعد أن فشلوا في القضاء عليها بالقوة العسكرية، ابتكروا طرقا أخرى؛ لضربها من حيث لا تشعر، فجندوا كافة إمكانياتهم، وسخروا كل مبتكراتهم الحديثة، لتسهيل مهامهم الخبيثة، وتنفيذ مخططاتهم الماكرة، من خلال شنِّهم لغاراتهم المتلاحقة؛ لإفساد شباب هذه الأمة، ونخر أجسامهم وعقولهم؛ حتى يصبحوا لقمة سائغة لهم.
وقد تمثلت محاولة إفسادهم لشباب المجتمع المسلم، بضرب كل ميدان ومرفق من مرافق المسلمين، بغزوٍ نشط ومكثف من جميع الاتجاهات، ومن كل النواحي: الثقافية، والأخلاقية، والفكرية. ولعل سلاح المسكرات والمخدرات الذي صدَّروه إلى كافة المجتمعات الإسلامية، وتفنَّنوا في إرساله بشتى الصور، ومختلف المسمَّيات، هو من أكبر الأخطار المحدقة بالأمة، والتي تواجهها الشعوب الإسلامية، محاولة من أعدائها للقضاء على دينها، وأخلاقها، ومواردها.
ولقد هبَّ المخلصون والناصحون من أبناء هذه الأمة - كل في زمنه - لمواجهة هذا الداء الوبيل، وذلك الخطر المستشري، الذي بدأ يفتك بشبابها، فسخروا كل إمكانياتهم، وأمضوا أوقاتهم في بث الوعي الإسلامي بين الشباب، وبيان ذلك الخطر القادم إليهم، الهادف إلى استئصالهم والقضاء عليهم.
وكتب العلماء المتقدمون والمعاصرون الكثير من الرسائل والمؤلفات، بيَّنوا فيها الأضرار الدينية، والاجتماعية، والاقتصادية، الناتجة عن استعمال المسكرات والمخدرات، وأوضحوا الأدلة الشرعية
1 / 11
لمحرمة لها، كل منهم بحسب ما كان موجود في عصره منها.
ومن أولئك العلماء الأخيار الذين أسهموا في الكتابة عن هذا الموضوع، العلامة محمد بن علي الشوكاني، المتوفى سنة (١٢٥٠ هـ)، حيث صنف كتابه هذا: [البحث المسفِرُ عن تحريم كل مُسْكر ومفتِّرٍ] .
وهو كتاب قيِّم ومفيد، أورد فيه المصنف ﵀ الأدلة من الكتاب والسنة على تحريم المسكرات والمخدرات، ونقل فيه أقوال المتقدمين، وأدلتهم في تحريم أنواع أخرى من المخدرات، كما ذكر فيه حكم البيع والاتجار في ذلك.
وقد عثرت على هذا الكتاب في إحدى زياراتي لمكتبة الحرم المكي الشريف، فأحببت أن أسهم في إخراجه إلى الإخوة القراء، وتزويد المكتبة الإسلامية بواحدٍ من أهم المصادر التي تحتاجها في هذه الحقبة من الزمن، ولاسيما أنه لواحد من العلماء المبرزين، والجهابذة المشهورين في مجال التأليف والتصنيف. أسأل الله تعالى أن يجنِّب هذه الأمة وشبابها كيد الكائدين، ومكر الماكرين، ويعيد لها عزّتها وكرامتها وسؤددها.
كما أسأله تعالى أن يحفظ على هذا البلد دينه، وأمنه، واستقراره، ويصدَّ عنه كل سوء ومكروه، وأن يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه: أفقر العباد إلى الملك الجواد
عبد الكريم بن صنيتان بن خليوي العمري الحربي
غرة شهر رجب الفرد عام (١٤١٤هـ) .
في: الحناكية - المدينة المنورة
1 / 12
القسم الدراسي
الفصل الأول: دراسة حياة المصنف
المبحث الأول: اسمه ونسبه
...
تمهيد: (مصادرة ترجمة الإمام الشوكاني)
يعتبر العلامة الشوكاني - رحمه الله تعالى - واحدا من أبرز العلماء الذين ظهروا في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، وبدأ مرحلة العلم والتعلم، ونشر العلوم الإسلامية، حتى أصبح علمًا من الأعلام الذين ذاع صيتهم، وانتشرت علومهم، حتى احتل منزلة مرموقة، ومكانة عالية في الإفتاء، والتدريس، والتصنيف، واستمر حتى منتصف القرن الثالث عشر، لذلك استحق تقدير معاصريه ومن بعدهم بشخصيته الفذة، فاهتم به المؤرخون والباحثون، ودرسوا حياته، وترجموا له في كتبهم، مع غيره من مشاهير العلماء، بل أفرد بعضهم دراسة خاصة، ومؤلفا مستقلا للحديث عن شخصيته، وحياته العلمية.
ومن خلال تتبعي للمصادر التي ترجمت له، وجدت أن الكتابة عنه جاءت على ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
أفرد بعض الكتَّاب والباحثين، مصنَّفا خاصَّا، تناولوا فيه سيرته، وحياته العلمية من جميع الجوانب، ومن هذه المصنفات:
أولا: (التِّقصار، في جيد زمن علاَّمة الأقاليم والأمصار، ومشايخه
1 / 15
وتلاميذه ذوي الافتخار) .١
تأليف: القاضي محمد بن حسن الشجني، الذماري، المتوفى سنة (١٢٨٦هـ) . ولا يزال الكتاب مخطوطا، ومنه نسخة في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء.
ثانيا: (شيخ الإسلام، المجتهد، محمد بن عن الشوكاني اليماني) .
تأليف: قاسم غالب، طبع بالقاهرة، سنة (١٣٨٨هـ) .
ثالثا: (الشوكاني المفسِّر) .
تأليف: د. إبراهيم توفيق الدِّيب، رسالة دكتوراه، جامعة الأزهر، (١٣٩٦ هـ) .
رابعا: (الإمام محمد بن علي الشوكاني، أديبا، شاعرا) .
تأليف: د. أحمد بن حافظ الحكمي. الرياض.
خامسا: (الإمام الشوكاني مفسِّرا) .
تأليف: د. محمد بن حسن الغماري. (١٤٠١هـ)، جدة.
سادسا: (الإمام الشوكاني، حياته وفكره) .
تأليف: د. عبد الغنى الشرجي (١٤٠٨هـ) . مؤسسة الرسالة.
_________
١ نيل الوَطَر ٢/ ٢٥٧، ٢٩٨، إيضاح المكنون ١/ ٣١٥، أبجد العلوم ٣/ ٢٠٧، الأعلام ٦/ ٩٣.
٢ المصادر السابقة. وستأتي ترجمته في مبحث (تلاميذ الشوكاني) إن شاء الله تعالى. انظر: ص ٣٨.
٣ فهرس مخطوطات المكتبة الغربية؛ الجامع الكبير بصنعاء ص ٦٥٧ وعدد أوراقه (٨٨ ورقة)، تاريخ النسخ ١٥ / ٣/ ١٣٣٠هـ.
1 / 16
سابعا. (منهج الإمام الشوكاني في العقيدة) . رسالة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
للطالب: عبد الله توموك، مطبوعة بالآلة الكاتبة.
القسم الثاني:
هذا النوع من الترجمة يأتي مصدَّرًا في بداية كل مصنَّف من مصنفاته المطبوعة، فكلما أخرج أحد الباحثين مؤلفا من مؤلفات الشوكاني المخطوطة، كتب في مقدمته دراسة عن حياة الشوكاني، وتختلف هذه الكتابة من محقق لآخر، من حيث القوة، والجودة في الأسلوب.
ولعل أحسن من كتب- عن حياة الإمام الشوكاني - من هذا القسم، الدكتور. إبراهيم هلال، محقق كتاب (قطر الولي)، وقد استفاد منه بعض أولئك الذين أفردوا دراسته بمؤلف مستقل. غير أن بعضهم لم يشر إلى ذلك.
القسم الثالث:
كُتُب ومصادر التراجم العامة، والتي تشمل التعريف بالأعلام والعلماء المشهورين، دون الإطناب أو الاسترسال - في الغالب - في ذكر كل ما يتصل بالشخص المترجم له، ومن هذه المصادر التي ترجمت له١:
* البدر الطالع: ٢ / ٢١٤- ٢٢٥، حيث ترجم الشوكاني لنفسه.
_________
١ رتبتها حسب أسبقية الوَفيات.
1 / 17
* النَّفس اليماني: ١٧٦- ١٧٨.
* أبجد العلوم: ٣/ ٢٠١- ٢١١.
* التاج المكلَّل: ٤٤٣- ٤٥٨.
* إيضاح المكنون: ١/ ١١، ١٥، ٢٠، ٥٨، وغيرها.
* هدية العارفين: ٢/ ٣٦٥- ٣٦٧.
* الرسالة المستطرفة: ١١٤.
* زعماء الإصلاح في العصر الحديث: ٢٣- ٢٥.
* المجددون في الإسلام: ٤٧٢- ٤٧٥.
* نيل الوطر: ٢/ ٢٩٧- ٣٠٢.
* الأعلام: ٦/ ٢٩٨.
* فهرس الفهارس: ٢/ ١٠٨٢- ١٠٨٨.
* معجم المؤلفين: ١١/ ٥٣- ٥٤.
* المدارس الإسلامية في اليمن: ٢٦٥- ٢٦٦.
* تاريخ اليمن الثقافي: ٢/ ٢٧٥- ٢٧٦.
* مصادر تاريخ اليمن في العصر الإسلامي: ٢٩٤- ٢٩٥.
* مصادر الفكر الإسلامي في اليمن: ٢٤٢- ٢٤٣.
1 / 18
المبحث الأول: (اسمه ونسبه)
هو العلامة، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله، الشوكاني، ثم الصنعاني.
فـ: محمد: اسمه.
و: علي: اسم والده، علي بن محمد بن عبد الله، وكانت ولادة أبيه سنة (١١٣٠هـ)، بهجرة (شوكان) في اليمن، ثم ارتحل إلى (صنعاء)؛ لطلب العلم، فقرأ على جماعة من علمائها، حتى برع في علم الفقه، والفرائض، على مذهب الزيدية، ثم تولى القضاء ب (صنعاء)، إضافة إلى الإفتاء، والتدريس، واستمر بها إلى أن مات ليلة الاثنين ٤/ ١١/١٢١١هـ، وكان قد ترك القضاء قبل موته بسنتين١.
الشوكاني: نسبة إلى (شوكان)، مكان ولادته٢، وهى قرية
_________
١ البدر الطالع ١/ ٤٧٨- ٤٨٥.
٢ ذكر المصنف الشوكاني ﵀ في ترجمة والده، في (البدر الطالع ١ / ٤٨١): أن نسبته إلى (شوكان)، ليست حقيقة؛ لأن وطنه، ووطن سلفه، وقرابته هو مكان (عدني شوكان)، بينه وبينها جبل كبير مستطيل يقال له: (الهجرة)، وبعضهم يقول له: (هجرة شوكان)، فمن هذه الحيثية كان انتساب أهله إلى (شوكان) .
1 / 19
من قرى اليمن١، بالقرب من (ذمار) الواقعة في وسط اليمن إلى الجنوب من (صنعاء)، على بعد مائة وعشرة كيلو مترات٢.
و(شوكان) في الوقت الحاضر عبارة عن خراب وأنقاض، وفيها مآثر حميرية٣.
الصنعاني: نسبة إلى (صنعاء) عاصمة اليمن، حيث استوطنها والده قبل ولادة ابنه (المصنِّف)، لكنه خرج إلى وطنه القديم (هجرة شوكان) في أيام الخريف، فولد له صاحب الترجمة هنالك٤.
_________
١ تطلق (شوكان) على عدة مواضع هي: موضع بالبحرين، وحصن باليمن، وبلدة بين (سرخس) و(أبِيوَرْد)، من أرض خراسان. وانظر: معجم البلدان: ١/ ٨٦، ٣/ ٢٠٨، ٣٧٣، القاموس المحيط ٣/ ٣٢٠ (شوك) ..
٢ نشر العَرْف: ١/٥
٣ حاشية: صفة جزيرة العرب ٢٠٢.
٤ البدر الطالع ٢/ ٢١٥.
1 / 20
المبحث الثاني: (مولده)
اختلف المترجمون له في تحديد تاريخ ولادته:
فقد جزم أكثرهم بأنها كانت في عام (١١٧٣هـ) ١.
وذكر بعضهم أن ولادته كانت سنة (١١٧٢هـ) ٢.
وقال صاحب كتاب (أبجد العلوم) ٣: وجدت على ظهر كتابه (الدراري المضيّة)، أن مولده، كان عام سبع وسبعين ومائة وألف.
ولا شك أن القول الأول أرجح الأقوال، وأصحها، فقد ذكر العلامة الشوكاني، تاريخ ولادته في كتابه (البدر الطالع) ٤ عند ترجمته لنفسه، فقال: ولد- حسبما وجد بخط والده- قي وسط نهار
_________
١ هدية العارفين ٢/٣٦٥، نيل الوطر ٢/ ٢٩٧، الأعلام ٦/ ٢٩٨، معجم المؤلفين ١١/ ٥٣، تاريخ اليمن الثقافي ٢/ ٢٧٥، مصادر تاريخ اليمن ٢٩٤.
٢ زعماء الإصلاح في العصر الحديث ٢٣، المجددون في الاسلام ٤٧٢، فهرس الفهارس ٢/ ١٠٨٣.
٣ أبجد العلوم ٣/ ٢٠٥.
٤ البدر الطالع ٢/ ٢١٤- ٢١٥.
1 / 21
يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة سنة (١١٧٣هـ)، فلا مجال -إذًا- للاختلاف في تاريخ مولده، بعد أن أثبت هو ذلك، ونصَّ عليه١.
_________
١ الأعلام ٦ /٢٩٨.
1 / 22
المبحث الثالث: (نشأته وحياته العلمية)
لو أمعنا النظر في نشأة العلامة الشوكاني، لوجدنا أنه نبغ وترعرع في بيت عريق في العلم والصلاح، فهو من أسرة عرفت بالنجابة، وكان لها في ابن منزلة كبيرة، فمنها علماء، ودعاة، وأدباء، وللكثير من أبنائها أياد طولى في الإصلاح والإفتاء والتدريس، ويأتي في مقدمتهم والده، الذي تولى قضاء (صنعاء)، وكان كبير رجال الإفتاء والتدريس فيها١.
فبعد أن حفظ - المصنف الشوكاني - القرآن، وجوَّده على جماعة من معلميه، ومشايخه في مدينة (صنعاء)، وهو في طفولته، وحفظ عددا من المختصرات في الفقه، واللغة وغيرهما، وحرص على مطالعة كتب التواريخ، ومجاميع الأدب٢، شرع في طلب العلم، حيث وجد بيئة علمية مناسبة، تعلمه العلوم المختلفة، فكان يختلف إلى حلقات كبار المشايخ، والعلماء في (صنعاء)، ولم يرحل إلى غيرها من المدن الأخرى طلبًا للعلم؛ وذلك لأعذارٍ لم تسمح له بالخروج منها،
_________
١ الإمام محمد بن علي الشوكاني، أدبيًا، شاعرًا، للحكمي: ٣١٤.
٢ البدر الطالع ٢/ ٢١٥.
1 / 23
أحد تلك الأعذار، عدم الإذن من الأبوين، كما ذكر ذلك١
وقد أشار الشوكاني ﵀ إلى سبب آخر، ثناه عن الرحلة في طلب العلم، حيث قال في كتابه (فتح القدير) ٢:
ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم، إثما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه، في الحضر من غير سفر.
وقد استنبط هذا السبب من مفهومه لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ ٣.
وقد طبَّق ﵀ هذا الفهم لحيثيات الرحلة، وبعد تردده في القيام بها، أو الإحجام عنها، استقر رأيه على البقاء داخل اليمن ٤.
وهكذا نجد أنه آثر ملازمة كبار العلماء، والمشايخ في مدينته، فبدأ بقراءة كتب الفقه على والده، ثم على علماء عصره البارزين، وكانت (صنعاء) إذ ذاك زاخرة بالعلماء والأدباء، الذين أثروا علمه وثقافته ٥.
وقد ذكر الشوكاني أسماء أساتذته الذين لازمهم، وأنواع العلوم
_________
١ البدر الطالع ٢/ ٢١٨.
٢ فتح القدير ٢/ ٤١٦..
٣ الآية (١٢٢) من سورة التوبة.
٤ الشوكاني، حياته وفكره ١٦٦.
٥ المصدر السابق ١٥٧
1 / 24
التي تلقَّاها عنهم، وقرأها عليهم في التفسير، والحديث، والفقه، واللغة، والأدب، والمنطق وغيرها.
يقول الشوكاني ﵀ بعد أن ذكر مشايخه والعلوم التي أخذها عنهم -:
هذا ما أمكن سرده من مسموعات صاحب الترجمة، ومقروءاته، وله غير ذلك من المسموعات، والمقروءات، وأما ما يجوز له روايته، بما معه من الإجازات فلا يدخل تحت الحصر١.
وبذلك يتضح لنا أنَّه قد درس دراسة واسعة، واطَّلع اطلاعا يندر أن يحيط به غيره، وقد أعانته الثقافة الواسعة والعميقة، وذكاؤه الخارق، إلى جانب إتقانه للحديث الشريف وعلومه، على الاتجاه وجهة اجتهادية، وخلع ربقة التقليد، وهو دون الثلاثين، وكان قبل ذلك على المذهب الزيدي، وصار علمًا من أعلام الاجتهاد، ومن أكبر الدعاة إلى ترك التقليد، وأخذ الأحكام اجتهادًا من الكتاب والسنة، وقد أحسَّ بوطأة الجمود، وجناية التقليد الذي ران على الأمة الإسلامية من بعد القرن الرابع الهجري، وأثر ذلك كله في زعزعة العقيدة الإسلامية في نفوس بعض الناس، واعتناق البدع والاعتقاد في الخرافات، وشيوعها، وتحلل بعض الناس من التعاليم الدينية، وانكبابهم على الموبقات والمنكرات، مما جعله يشرع قلمه ولسانه في وجه الجمود، والتقليد، فيعمل جاهدا على محاولة تغيير هذه الأوضاع، وتطهير تلك العقائد٢، فكتب عدة
_________
١ البدر الطالع ٢/٢١٨.
٢ مقدمة كتاب (قطر الولي): ١٧.
1 / 25
رسائل في ذلك، ضمَّنَها دعوته إلى عقيدة السلف، وتطهيرها وتنقيتها من مظاهر الشرك والبدع، ونبذ التقليد، ومن تلك الرسائل١:
١- شرح الصدور في تحريم رفع القبور.
٢- التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف.
٣- الدر النَّضيد في إخلاص كلمة التوحيد.
٤- القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد.
وبالجملة فإن الشوكاني- ﵀ يُعدُّ من أبرز العلماء المجدِّدين، والمجتهدين في العصر الحديث، وأحد كبار الأئمة الذين شاركوا في إيقاظ الأمة الإسلامية في هذا العصر٢.
_________
١ جميع هذه الرسائل مطبوعة ضمن مجموع بعنوان: الرسائل السلفية.
٢ مقدمة كتاب (قطر الولي): ١٧
1 / 26
المبحث الرابع (شيوخه):
ذكرت فيما سبق أن الإمام الشوكاني- ﵀ نشأ في مدينة (صنعاء)، وتلقى على أيدي علمائها البارزين مختلف أنواع العلوم، وقد كانت إذ ذاك، مكتظة بالعشرات من جهابذ العلماء، وكانت المساجد تغص بالحلقات الدراسية المتنوعة، التي تُعقد في رحابها.
لقد حرص على ملازمة أولئك العلماء، وزاحم أقرانه من طلبة العلم على الحضور إلى الصفوف الأُوَل من تلك الحِلَق، لينهل من مناهلها العذبة، وليستقى من معينها الذي لا ينضب، فكان لذلك كله أثر في نضوج فكره، وتكوينه العلمي والثقافي.
ومن أبرز مشايخه الذين تلقى عنهم:
١- أحمد بن عامر، الحدائي، الصنعاني، ولد سنة (١١٢٧هـ)، قرأ عليه الشوكاني (الأزهار)، وشرحه، والفرائض، كان زاهدا، متقللا من الدنيا، مواظبا على الطاعات، يغضب إذا بلغه ما يخالف الشرع، مات سنة (١١٩٧هـ) ١.
٢- أحمد بن محمد بن أحمد بن مطهر، القابلي، الحرازي، ولد سنة (١١٥٨هـ)، قرأ عليه في الفقه، والفرائض، ووصفه
_________
١ البدر الطالع ١/ ٦٢، ٢/ ٢١٥، نشر العرف ١/ ١٤٦.
1 / 27
الشوكاني بأن له قدرة على حسن التعبير، وجودة التصوير، مع فصاحة لسان، ورجاحة عقل، وجمال صورة، مات سنة (١٢٢٧ هـ) ١.
٣- إسماعيل بن حسن بن أحمد الصنعاني، ولد سنة (١١٢٥هـ) تقريبا، وقرأ عليه (مُلْحة الإعراب)، وشرحها، وكانت له مشاركة قوية في علم الصرف والمعاني، والبيان، والأصول. مات سنة (١٢٠٦هـ) ٢.
٤- الحسن بن إسماعيل بن الحسين المغربي، ولد سنة (١١٤١هـ) تقريبا، قرأ عليه (تنقيح الأنظار) في علوم الحديث، وبعض (صحيح مسلم)، وبعض شرحه للنووي، و(سنن أبي داود) وغير ذلك، وكان زاهدا، ورعًا،. عفيفًا، متواضعًا، مات سنة (١٢٠٨ هـ)
٥- عبد الرحمن بن حسن الأكوع، ولد سنة (١١٣٥هـ)، قرأ عليه أحد كتب الحديث، وقال عنه الشوكاني: كان شيخ الفروع، ومحققها، وكان يحضر درسه جماعة نحو الثلاثين والأربعين، مات سنة (١٢٠٦ هـ) ٤.
٦- عبد الرحمن بن قاسم المداني، ولد سنة (١١٢١هـ)، أخذ عنه في (شرح الأزهار)، وكان زاهدا، حسن الأخلاق، عفيفا،
_________
١ البدر الطالع ١/ ٩٦، ٢/ ٢١٥، نيل الوطر ١/ ١٩٧.
٢ البدر الطالع ١/ ١٤٥، ٢/ ٢١٥، نيل الوطر ١/ ٢٦٦.
٣ البدر الطالع ١/ ١٩٥، ٢/ ٢١٦، نيل الوطر ١/٣١٩.
٤ البدر الطالع ١/ ٣٣٥، ٢/ ٢١٧، نيل الوطر ٢/٢٦.
1 / 28
جميل المحاضرة، راغبا في الفوائد العلمية، مات سنة (١٢١١هـ) ١.
٧- عبد القادر بن أحمد بن عبد القادر، ولد سنة (١١٣٥هـ)، قرأ عليه بعض (جمع الجوامع) وشرحه، وبعض (الصحاح)، وبعض (القاموس)، وبعض (منظومة الزين العراقي)، في المصطلح، وغير ذلك، وقد بالغ الشوكاني في الثناء عليه، من مصنفاته: (شرح نزهة الطرف)، (فلك القاموس)، مات بصنعاء سنة (١٢٥٧هـ) ٢.
٨- عبد الله بن إسماعيل بن حسن النَّهمي، ولد بعد سنة (١١٥٠هـ)، قرأ عليه (شرح كافية ابن الحاجب)، و(قواعد الإعراب)، وشرحها للأزهري، وغير ذلك وتبادل معه الشعر، وكان بارعًا في علوم العربية، مات سنة (١٢٢٨ هـ) ٣.
٩- عبد الله بن الحسن بن علي الصنعاني، ولد سنة (١١٦٥هـ)، قرأ عليه (شرح الجامي) وكان نابغة في التفسير، والحديث والفقه وغير ذلك، مات سنة (١٢١٠هـ) ٤.
١٠- علي بن إبراهيم بن علي الصنعاني، ولد سنة (١١٤٥هـ)، سمع
_________
١ البدر الطالع ١/٣٣٦،٢/٢١٥، نيل الوطر ٢/٣٥
٢ البدر الطالع ١/ ٣٦٠، ٢/ ٢١٧، النَّفَس اليماني ١٦٩، ١٧٦، الأعلام ٤/ ٣٧.
٣ البدر الطالع ١/ ٣٧٩، ٢/ ٢١٦، نيل الوطر ٢/ ٦٩.
٤ البدر الطالع ١/ ٣٨٠، نيل الوطر ٢/ ٧٤.
1 / 29