فأعجبت أرمانوسة بشهامته، وتناثرت الدموع من عينيها لعظم تأثرها، وقالت: «حماك الله من كل سوء، أنا في خير، وقد من الله علينا باللقاء.»
فقال: «لمن هذا العلم الذي على باب القصر؟» قالت: «هو علم عربي بعثوه إلينا لحمايتنا من السلب، وكأني بهم لا يريدون بنا سوءا.» وغسلت له جرحه فإذا هو طفيف نتج عن شدة العنف في محاولته قطع الوثاق، فضمده ولبس الثياب، وأطل من النافذة فرأى العرب قد أمعنوا في المدينة قتلا ونهبا، فثارت حميته الرومانية، وجعل يتململ ويحزن على ما أصابه العرب منهم، فقالت أرمانوسة: «ما بالك تتململ؟» قال: «أتململ أسفا على ما حل بجندنا، ألا ترين العرب ينهبون المدينة ويقتلون حاميتنا؟ مهلا سوف يلقون منا في حصن بابل ما يردهم على أعقابهم.»
ولم تشأ أرمانوسة أن تحبره بما دار بين أبيها وبين العرب من الأخذ والعطاء خوفا من الفضيحة عند الروم، فقالت: «حماك الله يا أركاديوس من نوائب الزمان، فلو كان في جند الروم مثلك لما مكن للعرب في هذه البلاد، فاجلس الآن واسترح لنرى ما يأتي به الغد.»
قال: «آه يا أرمانوسة، لا أستطيع البقاء على هذا الذل، ولا أطيق أن أرى الروم يذبحون ذبح الأغنام، وإن نفسي تحدثني بأن أتقلد الحسام وأهجم على العرب لأروي غليلي من دمائهم.»
قالت: «لا تلق بنفسك إلى التهلكة، وسوف تلقاهم في الحصن، وما لنا وللحرب يا أركاديوس؟ فأنا لا أطيق فراقك.»
فعاد صوابه إليه وقال: «أما رأيت مرقس يا أرمانوسة؟» قالت: «لا لم أره، ولماذا؟ وكيف وقعت في الأسر؟ قل لي.»
قال: «خرجت من عندك إلى المكان الذي واعدت مرقس فيه، فلم أقف له على أثر، وفيما أنا أبحث عنه وصل العرب بخيولهم وقبضوا علي، فوالله لو كنت على ظهر جوادي ما استطاعوا إلي سبيلا.» ثم تذكر جواده وثيابه فقال: «ولا أدري كيف ذهب مرقس بثيابي والجواد، وأخشى أن يكون رجالنا قد قبضوا عليه وساقوه إلى الحصن واتهموه بقتلي، وربما قتلوه ظنا منهم أنه قتلني.»
فقلقت أرمانوسة على مرقس وقالت: «مسكين مرقس! إنه لا يستحق ذلك، وعسى أن يكون في مأمن، وسننظر في أمره. أما أنت فابق هنا ريثما ينجلي الأمر.»
فتنهد تنهدا عميقا وقال: «أتعلمين إنه لا أشهى إلى قلبي من جوارك، ولكن النجدة والمروءة يقتضيان اللحاق بالجند، وهم في حالة حربهم مع العرب، وإني لا أدري ماذا أبدي لوالدي عندما أعود، ولا أظنه يصدق قولي مهما بالغت في الاعتذار.»
قالت: «غدا نرى ما يكون.» وقضوا بقية اليوم وباب القصر موصد.
صفحة غير معروفة