ارادة نافذة ولا عزم قوي لا ينال تلك الجنة ولا ذلك المقام الرفيع .
جاء في الحديث ، ان اهل الجنة عندما يستقرون فيها ، تنزل عليهم رسالة من ساحة القدس الالهي جلت عظمته بهذا المضمون : «هذه رسالة من الحي الثابت الخالد الى الحي الثابت الخالد . انا الذي اقول للشيء : كن ، فيكون . وقد جعلتك اليوم ايضا في مستوى اذا امرت الشيء : وقلت له كن ، فيكون» .
فلاحظ اي مقام وسلطان هذا ؟ واية قدرة الهية هذه التي تجعل ارادة الانسان مظهرا لارادة الله ! فيلبس العدم لباس الوجود ؟ هذه القدرة وهذا النفوذ هما افضل وارفع من كل النعم الجسمانية . وبديهي ، ان تلك الرسالة لم تكتب عبثا وجزافا . ان من كانت ارادته تابعة للشهوات الحيواينة ، وعزيمته ميتة خامدة ، لا يصل الى هذا المقام . ان أعمال الله منزهة عن العبث فكما ان هذا العالم قائم على النظام والترتيب ، على الاسباب والمسببات ، كذلك هي الحال في العالم الآخر ، بل ان العالم الآخر أليق بالنظام والاسباب والمسببات ، وان جميع نظام عالم الآخرة ينبعث من المناسبات والاسباب ، وان نفوذ الارادة يجب ان يتهيأ من هذا العالم ، فان الدنيا مزرعة الآخرة وان هذا العالم مادة لكل نعم الجنة ونقم النار .
اذا ، كل عبادة من العبادات وكل منسك من المناسك الشرعية ، فضلا عن ان لها صورة اخروية وملكوتية ، وبها يتم عمارة الجنة الجسمانية وقصورها ، وتهيئة الغلمان والحور طبقا للبراهين والاحاديث فان لكل عبادة من العبادات ايضا اثرا يحصل في النفس ، مما يقوي الارادة شيئا فشيئا ويصل بقدرتها الى حد الكمال . لذلك كلما كانت العبادات اشق كانت ارغب : «افضل الاعمال احمزها» (1) . فالتنازل عن النوم اللذيذ في ليل الشتاء البارد ، والانصراف الى عبادة الحق المتعال ، يزيد من قوة الروح وتغلبها على قوى الجسم ، ويقوي الارادة . واذا كان هذا في اول الأمر على شيء من المشقة والعناء ، فان ذلك يخف تدريجا كلما واصل العبادة ، وازدادت طاعة الجسم للنفس . اذ اننا نلاحظ ان اهل العبادة يقومون بالاعمال دون مشقة وتكلف . اما نحن فشعورنا بالكسل وبالمشقة ناشئ من اننا لا نبدا بالعمل . فلو اننا بدانا العمل وكررناه عدة مرات ، لتبدلت مشقته الى راحة ، بل ان اهلها يلتذون بها اكثر مما نلتذ نحن بمشتهيات الدنيا . اذا ، فالامر يصبح عاديا بالتكرار . والخير عادة .
ولهذه العبادة ثمرات ، منها : ان صورة العمل نفسه تصبح على قدر من الجمال في ذلك العالم لا يكون له نظير في هذا العالم ، ونكون عاجزين عن تصور مثلها .
ومنها : ان النفس تصبح ذات عزم واقتدار ، فتكون لها نتائج كثيرة ، وقد سمعت واحدة منها .
صفحة ١٢٥