وينبغي لي أن أفيض في أمر هذه المناظرة ووجوه الكيد لأبي بكر فيها، فأقول: إنّه ورد على نيسابور بديع الزمان الهمذاني، وكان قد سلب في الطريق إليها، فكتب رقعة إلى أبي بكر فاستقبله في داره استقبالا لم يرض عنه بديع الزمان، فقد كان يريد من أبي بكر أن يقوم له عن مجلسه قياما تاما، وكان أبوبكر يرى أنّه قد أجلّه بما فيه الكفاية، ولم يرفع عليه في المجلس أحدا سوى رجل من ذريّة رسول الله ﷺ، مما جعل في نفس بديع الزمان- وهو لم يخل من سكر الشباب بعد- شيئا أقرب ما يكون إلى الاعتقاد بأنه لم يوفّ حقّه.
ويلفت النظر في هذه المسألة برمّتها أنّ بديع الزمان وهو ابن أربع وعشرين سنة يوم جاء إلى نيسابور سنة ٣٨٢ هـ يريد من أبي بكر أن يوفّيه فضله ثم ينسى أن لأبي بكر من الفضل والسنّ ما يجعلان استقبال أبي بكر إياه في داره على غير معرفة سابقة تشريفا. وإلّا فمن هو بديع الزمان- يومئذ- إزاء مكانة أبي بكر وفضله؟
ترى أكان بديع الزمان يجهل هذا الأمر، أم أنّ هنالك جماعة من خصوم أبي بكر في نيسابور يستغلّون حداثة سنّ بديع الزمان وإعجابه الزائد بنفسه فيدفعون به إلى حيث يريدون؟ أمّا بديع الزمان- وهو يكاد يكون المصدر الوحيد في رواية ما وقع له مع أبي بكر- فيعترف بأنّ طائفة من الناس كانت تسعى إليه بما يتفوّه به أبو بكر، وبلغ البديع من تصديق ما ينقل إليه أن كتب إلى أبي بكر رقعة يتهمه فيها بالتعالي عليه، وبلغ أبوبكر- على ما يبدو- من الضيق بهذه المسألة
1 / 34