بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي: قد فرغنا ولله الحمد من ذكر أَخبار القاهرة والأحداث في أَيامه إِن شاء الله.
ولما خلع القاهرة في يوم الأربعاء، لست خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة أخرج الحجرية والساجية محمد بن المقتدر بالله ويكنى أَبا العباس وأمه أم ولد يقال لها ظلوم في هذا اليوم على ثلاث ساعات من النهار وكان في الخلافة هو وأخوه هارون على سبيل توكيل بهما من القاهرة فأجلسوه على السرير، وبايعوه بالخلافة مختارين له مجتمعين عليه، من غير أَن يواطئهم على ذلك ولا كانت بيعتهم مراسلة فيه إلا ما كان يعلمه من كراهيتهم لأمر القاهر وأنهم في وحيه عليه.
وتولى التدبير في ذلك رجل من الساجية، يعرف بسيما المناخلي إلى أن تم، فأجلس محمد بن المقتدر على السرير، وجلس القاهر بالله في بيت بقربهم وأمر الراضي بالتوكل به والاحتياط عليه، ولم يعش المناخلي بعد هذا إلا أقل من مائة يوم.
وكنت في هذا اليوم قد أخذت دواء لحاجة إليه، وشيء وجدته،
1 / 1
وعلم بذلك الأمير أبو العباس قبل أن يتسمى بالراضي بالله، فجاءني رسوله يأمرني أن أوجه إليه بالأسماء التي ينعت بها الخلفاء، وتكون أوصافًا لهم، وإني لأعجب من إطباق الناس على تسميتها ألقابًا فيقولون لقب بكذا وهذا عندي خطأ، كبير، زلل عظيم، لأن الألقاب مكروهة ومنهي عنها في كتاب الله جل وعلا، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه جل وعز " وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَاب " فوجهت إليه برقعة فيها ثلاثون اسمًا، ليختار منها ما يريد، وأشَرت عليه في رقعتي أن يختار منها المرتضى بالله، ولم أشك في اختياره له، وابتدأت من وقتي فعملت أَبياتًا ضادية قافيتها المرتضى، على أني أنشده إِياها وهي:
أَثْبَتُ الرَّحْمنُ بالسَّعْدِ المْضُي ... دَوْلَةً قَائِمَةً لاَ تَنْقْضِي
لأَبِي الْعَبَّاسِ عَفْوًا سَاقَهَا قَدَرُ اللهِ الإِمَامِ الْمُرْتَضِي
دَوْلَةٌ يَأْملُهَا كُلُّ الْوَرَى ... مَالَهَا إِنْ ذُكِرَتْ مِنْ مُبْغِضِ
كَاَنَ وَجْهُ المُلْكِ مُسْوَدًّا فَقَدْ ... قَابَلَ اللَّحْظَ بِوَجْهٍ أَبْيَضِ
يَا أَمِينَ اللهِ يَا مَنْ جُودُهُ ... إِنْ كَبَا دَهْرِي بِحَظِّي مُنْهِضِي
غَلَبُ الْوَجْدِ وفِقْدَانُ الرِّضَي ... وكَلاَّ جِسْمِي بِهَمٍّ مُمْرِضِ
1 / 2
كانَ حَظِّي بِكَ نَحْوِي مُقْبِلًا ... فَانْثَنَى عَنْهُ بِوَجْهٍ مُعْرِضِ
أَقْرَضَ الدَّهْرُ شَبَابِي شَيْبَةً ... لَمْ أَكُنْ أَطْلُبُهَا مِنْ مُقْرِضِ
لَيْسَ لِلشُّهْبِ إِذَا مَا جَارَتِ ال ... دُّهْمَ في سَبْقِ الْهَوَى مِنْ رائِضِ
أسفَتْ نَفْسِي عَلَى قُرْبِي الَّذي ... كَانَ مِنْ يَومِ احْتِفَالِي مُغْرِضِي
لَكَ عَبْدٌ مَسَّهُ بَعْدَكُ مَا ... وَكَّلَ الْجِسْمَ بِدَاءٍ مُحْرِضِ
قُضيَ الْبُعْدُ عَلَيْهِ كَارِهًا ... لاَ يَرُدُّ النَّاسُ أَمْرًا قَدْ قُضِي
كُلَّ يَوْمٍ يَنْتَضِي سَيْفَ أَذًى ... بِالتَّكَاذِيبِ عَلَيْكُمْ مُنْتَضِي
مَا يُبَالِي إِذْ رَأَى فِيكَ ألْمَي ... غَضِبَ الدَّهْرُ عَلَيْهِ أَمْ رَضِي
وهذه الأَبيات لم تَهَّن بها المدة، ولا راضها الفكر. وإنما قيلت مقتضية فليست بالمختارة، وإن صفرت من العيب. ولولا الحاجة دعت إلى ذكرها ما ذكرتها، وسيمر بعون الله من جيد الشعر في أوقاته ما يعفى عليها إن شاء الله.
فلما فرغت منها جاءني رسوله برقعته منه يقول فيها: قد كنت عرفتني أن إبراهيم بن المهدي لما بويع أيام الفتنة بالخلافة
1 / 3
أراد أَن يكون له ولي عهد فأحضروا منصور بن المهدي وسموه المرتضى، وما أَحب أن أتسمى باسم قد وقع لغيري، ولم يتم له أمره، وقد اخترت الراضي بالله، فكنت أشكر الله على ما وفقه له ووهبه فيه فمضى اسمه على ذلك، وما زال الناس يبايعونه بقية يومهم.
ووجه من وقته فاستحضر أبا الحسن علي بن عيسى، ومعه أخوه أبو علي عبد الرحمن بن عيسى بالنظر في الأمور، وأراده للوزارة فاحتج بكبر وضعف وأقرها إلى أخيه بذلك، وأن يكون الاسم والخلعة له، ويتولى هو النظر في أمر الملك وتدبير الناس وجباية الأموال على كره منه لذلك وتغلب، لما رأى من تعذر مال البيعة إلا أنه كتب بالبيعة إلى النواحي ونظر في المهم الذي يوجبه الوقت، ومعه أخوه معرفًا له ما يعمل، ومستأذنًا له فيه. إلى أن وافت وقعة أبي علي بن مقلة إلى سيما المناخلي، يتضمن له أنه يحتال في وقته خمسمائة ألف دينار يصرفها في الرجال للبيعة، ويتضمن له إن أَتم ذلك خمسمائة ألف دينار لنفسه.
وكان المتولي لإيصال الرقعة إلى المناخلي كاتب له حدث، يعرف بعلي بن جعفر وضمن له ألفي دينار معجلة وأضعافها مؤجلة، فصار المناخلي بالرقعة بضمان الخمسمائة ألف دينار إلى الراضي بالله، فلما وقف عليها أحضر علي بن عيسى وأقرأه إياها فقال له: أمير المؤمنين
1 / 4
في هذا الوقت محتاج إلى زكاة هذا المال وما عندي وجه لبعضه! والصواب إن صح هذا المال أن يمضي أمر هذا الرجل ويستكتبه وانصرف فجلس في منزله فكان الراضي بعد ذلك يقول لم يتحصل لنا من الخمسمائة ألف دينار درهم، وأخذ من أموالنا وأموال الناس مثلها.
واختير أبو علي محمد بن علي للوزارة يوم السبت لتسع خلون من جمادى الأولى، وخلع عليه وركب الناس معه إلى داره، ولقيني أبو سعيد ابن عمرو الكاتب - كاتب للراضي قبل الخلافة - وكان أخص الناس به فقال لي أمير المؤمنين قد أمرني بإعطائك عشرة آلاف درهم لتقسيمه وما عندي دراهم، فلا تلح علي ودعني أدفعها إليك في مرات قلت فعجل منها ما ترى فأعطاني ثلاثة آلاف درهم ووفانيها بعد شهرين.
وبلغ الراضي بالله أن هارون بن غريب خال المقتدر بالله مقبل إلى بغذاذ فكره ذلك وما كان بصافي النية له، لأن الراضي بالله كان في حجر مؤنس المظفر، وكان العباس بن المقتدر في حجر الخال ثم في حجر ابنه هارون بعده، فكان يتهمه بإيثاره عليه. ولأنه كان أيضًا منحرفًا عن جدته شغب أيام حياة أبيه، ثم رأيت من ذكره لها في خلافته وتحننه عليها ما كنت أسمع ضده منه في أيام إمارته، وكذلك عاد منه كل تشعيث كان قديما نفث به في أبيه مدحًا وتقريظًا، ووصف محاسن. وإني لأذكر يومًا في إمارته وهو يقرأ علي شيئًا من شعر بشار وبين يديه كتب لغة وكتب أخبار إذا جاء خدم من خدم جدته السيدة فاخذوا
1 / 5
جميع ما بين يديه من الكتب فجعلوه في منديل دبيقي كان معهم، وما كلمونا بشيءِ ومضوا فرأيته قد وجم لذلك واغتاظ فسكنت منه وقلت له ليس ينبغي أن ينكر الأمير هذا فإنه يقال لهم إن الأمير ينظر في كثير لا ينبغي أن ينظر في مثلها، فأحبوا أن يمتحنوا، ذلك وقد سرني هذا ليروا كل جميل حسن، ومضت ساعات أو نحو ذلك ثم ردوا الكتب بحالها.
فقال لهم الراضي قولوا لمن أمركم بهذا قد رأيتم هذه الكتب وإنما هي حديث وفقه ولغة وأخبار وكتب العلماء، ومن كمله الله بالنظر في مثلها وينفعه بها، وليست من كتبكم التي تبالغون فيها مثل عجائب البحر، وحديث سندباد والسنور والفأر.
وخفت أن يؤدي الخادم قوله، فيقال: من كان عنده؟ فيذكرني فيلحقني من ذلك ما أكره إلى ما لي عندهم مما سأذكره والسبب فيه في موضعه من أخباره إن شاء الله فقمت إلى الخدم فسألتهم ألا يعيدوا قوله فقالوا: والله ما نحفظه فكيف نعيده! فكتب الراضي بيده إلى هارون بن الخال أن يقيم بمكانه ولا يتجاوز ذلك إلى ناحية الحضرة، ويعده أنه يأذن له في القدوم عليه في الوقت الذي يراه صلاحًا، فكتب جوابًا عن هذا الكتاب بأنه جاء محتاطًا مشفقًا من أشياءِ قد بلغته وأقلقته وأقبل حتى نزل النهروان
1 / 6
فاشتد ذلك على حمد بن ياقوت وكان قد حجبه وملك على الوزير محمد بن علي، فندب الراضي الناس للخروج مع ابن ياقوت لمحاربته من غير أن يرى ابن الخال أنه يحب، قتاله وإنما أحب تأخيره مديدة استيطارًا منه لأنه لم يدر كيف تؤول الأمور. فلقيه ابن ياقوت بنهر يتن بقرب النهروان، فقتله واحتز رأسه فجيء به إلى الراضي فأظهر سرورًا بذلك وسلمه إلى أهله فدفن بقرب قبر أبيه في قصر عيسى بن علي في الكرخ في الجانب الغربي.
وخلع في يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة على محمد بن ياقوت لقتله ابن الخال وطُوِّقَ وَسُوِّرَ.
وخلع في يوم الخميس بعد ذلك بيومين على الوزير محمد بن علي لمعاونته على ذلك.
وكان قتل هارون بن غريب في يوم الثلاثاء لسبع بقين من جمادى الآخرة وإلى هذا الوقت فما ذكر الراضي أحدًا من الجلساء ولا جلس ولا كان يشرب النبيذ ولا يوافقه، وكنت أحسن تركه وكان في إمارته ربما اشتهى أن يصل مجالسه ويبر من يحضره ويشرب اليسير منه، فيتأذى بذلك وما زال ذكيًا فطنًا لقنًا لما يسمع يحضره ما يريده من غير فكر فدعا يومًا أخاه هارون وكانا نفسًا واحدة في جسمين في أيام أبيهما، مكتبهما واحد وأمرهما واحد، يقدم طباخوه الطعام لهما شهرًا ثم يقدمه في الشهر
1 / 7
الآخر طباخو أخيه هارون، وكان في حجر نصر الحاجب وكان بره به أكثر من الباقين بالأمراء الذين في حجورهم فدعا يومًا أخاه هارون إلى الثريا فشرب هارون وأحب أن يساعده فدخل النبيذ إلى أن غيره وكان يقرأ علي شعر أبي نواس في تلك الأيام فأنشدت معرضًا به بيتًا أبي ذؤيب:
إذَا رَأَتْنِي صَرِيعُ الْخَمْرِ يَوْمًا فَرُعْتُهَا يُقْرآنَ إِنَّ الْخَمْرَ شَغْبٌ صِحَابُهَا
ففطن لما أردت، فقال لم أقرأتني بالأمس قول أبي نواس:
فَمَا الْعَيْشُ إلًاّ أَنْ تَرَانِيّ صَاحِيًا وَمَا الْعَمْرُ إلاَّ أَنْ يُتَعْتِعَنِي الْسُّكْرُ
ثم قطع، وانصرف، فلما فرغ قلبه من أمر ابن الخال وجه إلى من ها هنا ممن جالس الخلفاء، وممن يصلح أن يجالسني؟ فوجهت إليه: إنه لم يبق ممن جالس الخلفاء غير إسحاق بن المعتمد، وها هنا من رسم بالمجالسة وما جالس بعد، مثل محمد بن عبد الله بن حمدون ومثل ابن المنجم. فقال: قد عزمت على الجلوس وتقدم بإحضار الجماعة، وأمر أن يكون فيهم أحمد بن محمد المعروف بالعروضي، واليزيديان إسحاق وعلي ابنا إبراهيم، وكانا يعلمان الجماعة الخط، وكان العروضي مرسومًا بتأديب أبي إسحاق المتقي بالله أمير المؤمنين، وأخيه علي رسمه بذلك والمعروف بابن غالب، وكانت رياسة التأديب إليه لأن الزجاج النحوي كان ندب لتأديب المقتدر بالله فاستخلفه فغلب على الأمر وحظي به دون الزجاج، ووهب له وأقطع لما ولي المقتدر وما أغناه وكفاه فرسم العروضي بهذين، ورسم أبا عبد الله محمد بن العباس اليزيدي بتأديب الراضي وأخيه
1 / 8
هارون، ورسم لتأديب العباس بن المقتدر رجلًا آخر يعرف بابن غدانة العماني.
ثم إن علي بن المقتدر توفي فكان العروضي يصير إلى الراضي وأخيه هارون فيكرمانه، وتوفي اليزيدي وابن غالب قبل خلافة الراضي بالله فلم يكن يجلس إليهما غيره، وغير علي بن إبراهيم اليزيدي، على نوبة وملازمة.
ورسم لتأديب عبد الواحد بن المقتدر المعروف بابن الأنباري النحوي فأمر الراضي أن يحضر الجماعة الدار في مستهل رجب سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ليجالسوه وأحضرنا وأمر بأن يكون ترتيب جلوسنا على ما أنا أذكره - رسم أن يكون على يمينه أقربنا إليه إسحاق بن المعتمد، ثم أكون أنا تاليًا له، ثم يكون العروضي تاليًا له، ثم يكون ابن حمدون تاليًا له، ثم يجلس الباقون عن يسرته على ترتيب ربما اختلف.
فكنا في المجلس في أول جلسة جلسها أربعة عن يمينه، كما ذكرت وخمسة عن يساره وهم: يوسف وأحمد ابنا يحيى بن المنجم، وعلي بن هارون بن علي بن يحيى واليزيديان إسحاق وعلي ابنا إبراهيم، وكان قد أمرني أن أعمل أبياتي الضادية على قافية المرتضى قصيدة ضادية غيرها على قافية الراضي، فعملتها فلما وصلنا إليه في ذلك اليوم أنشده أحمد بن يحيى وعلي بن هارون قصيدتين يهنيانه فيها بالخلافة ويصفان سرورهما لاغتباطهما فاستمعهما وأظهرا استحسانهما، ثم أمر بإنشاد
1 / 9
الضادية فأنشدته أياها، وأنا أذكرها ها هنا لأنها ليست من الشعر الذي يأباه القلب ويمجه السمع، وفيها مدح لابن ياقوت وللوزير وهي:
أَصْبَحَ الْمُلْكُ عاليًا بأَبي الْعَ ... بَّاسِ أَعْلَى الْمُلُوك بَعْدَ انْخِفَاضِ
واسْتَفَاضَ السُّرُورُ في سَائِرِ ال ... نَّاسِ بِمُلْكِ الْمُهَذَّبِ الْفَيَّاضِ
رَضِيَ اللهُ هَدْيَهُ فَاصْطَفَاهُ ... فَهُوَ بِاللهِ وَالْمَقَادِيرِ رَاضِي
مَنْ غَذَتْهُ الْعُلُومُ يَرْفَعُ مِنْهَا ... فِي جِنَانِ أَنِيقَةٍ ورِيَاضِ
كَمُلُ الْفَضْلُ والْفَضَائِلُ فِيهِ ... قَبْلَ عِشْرِينَ مِنْ سِنِيهِ مَوَاضِي
فَهُوَ بِالْعِلْمِ والتَّفَرُّغِ فِيهِ ... خَيْرُ آتٍ مِنَ الْمُلُوكِ وَمَاضِي
خَطَرَتْ نَحْوَهُ الْخِلافَةُ طَوْعًا ... بِاتِّفاقٍ مِنَ الْوَرَى وَتَرَاضِ
واصْطِفاقٍ مِنَ الأَكُفِّ دِرَاكًا ... واجْتِمَاعٍ مَوفٍ وَعَزْمٍ مُفَاضِ
مَرِضَ الدِّينُ قَبْلَهُ وَأَتَاهُ ... بَارِئًا عِنْدَهُ مِنَ الأَمْرَاضِ
واسْتَلَذَّ الزَّمَانُ إِذْ أَسْفَرَ الْمُلْ ... كُ وَجَلَّى سَوَادَهُ بِبَيَاضِ
وَاجِدٌ بِالْعُلُومِ وجْدَ مُحِبٍّ ... رَاعَهُ مَنْ يُحِبُّ بِالإِعْرَاضِ
يَرِدُ النَّاسُ مِنْهُ أَغْدَارَ جُودٍ ... طَيِّبُ الْوِرْدِ مُتْرَعُ الأَحْوَاضِ
1 / 10
حَمُدوا مِنْ مُحَمَّدٍ حُسْنَ مُلْكٍ ... بِتَقَضِّي حَقِّ الْوَرى وَتَقَاضِي
نِعَمٌ لِلْوَلِّي مِنْهُ حَبَاهُ ... وَمَنَايَا عَلَى الْعَدُوِّ مَوَاضِي
تَمْلِكُ الْخَطْبَ مِنْهُ عَزْمَةُ رَأْيٍ ... يُذْعِنُ الصَّعْبُ عِنْدَهَا لاِرْتِيَاضِ
يَا إمَامًا إِلَيْه حُلَّتْ عُرَى الْفَخْ ... رِ وَفُلَّتْ مَعَاقِدُ الأَغْرَاضِ
حَازَ بِالمَكْرُمَاتِ كَامِلَ مَجْدٍ ... عَلِقَ النَّاسُ فِيهِ بِالأَبْعَاضِ
وَتَعَالَى عَلَى النُّجُومِ بِبَيْتٍ ... سَامِقِ الْعِزِّ ظَاهِرِ الأَغْرَاضِ
حُجَّةُ اللهِ أَتَتْ يَا قْبَلَةَ ال ... دِّينِ فَلَيْسَتْ تُرَدُّ بالإِدْحَاضِ
آذَنَ السِّيْفُ مَنْ عَصَاكَ مَن ال ... نَّاسِ بِهُلْك وَاشِكٍ وانْقِراضِ
وَبِثُقْلٍ مِنَ الْعَذَابِ وَوِزْرٍ ... يَنْقُضُ الظَّهْرَ أَيَّمَا إِنْقَاضِ
لَسْتُ ممَّنْ يُرِيدُ بِالْمَدْحِ حَالًا يَبْسُطُ الْجَاهَ مِنْهُ بَعْدَ إِنْقِبَاضِ
قَدْ تَرَوَّيْتُ مِنْ نَوَالِ إمَامٍ ... لَسْتُ مَا عِشْتُ فِيهِ بِالمُعْتَاضِ
بِشْرُهُ زَائِدُ الْعَطَاءِ كَمَا الْبَرْ ... قُ دَلِيلُ الْغُيُوثِ بالإِيمَاضِ
وَتَقَدَّمْتُ فِي مَديحِي لَهُ النَّا ... سَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ ذَوِي الإِبْغَاضِ
وافْتَرَعْتُ الأَبْكَارَ مِنْ عِزَّةِ الشِّعْ ... رِ فَذَلَّلْتُ صَعْبَهَا بِافْتِضَاضِ
1 / 11
وَعَذَابِي بِطَوْلٍ مِنْهُ فِي سَا ... بِقِ أَيَّامِي الطِّوَالِ الْعِراضِ
جَاءَ عَفْوًا بِلاَ سُؤَالٍ وَلاَ وَعْ ... دٍ وَلاَ مُذَكِّرٍ بِهِ مُتَقَاضِي
صَافِيًا مِنْ تَكَدَّرِ الْمَطْلِ يَجْرِي ... جَرْيَ مَاءٍ صَافٍ عَلَى رَضْرَاضِ
وَتَشَرَّفْتُ بِالجُلُوسِ لَدَيْهِ ... بِحَدِيثٍ يَلْتَذُّهُ مُسْتَفَاضِ
وَبَلَغْتُ الْمُنَى وَبَشَّرَنِي ال ... نَّاسُ بِثَوْبٍ مِنَ الْغِنَى فَضْفَاضِ
وَتَبَدَّلْتُ بالتَّذَلُّلِ عِزًّا ... آذَنَ الْهَمُّ عِنْدَهُ بِانْفْضَاضِ
وَاطْمَأَنَّ الْفِرَاشُ مِنْ بَعْدِ أَنْ جَا ... نَبَ جَنْيِ تَجَنُّبَ النُّهَّاضِ
واسْتَرَدَّ الْعَدُوُّ وُكْدِي وَعَادَتْ ... أَعْيُنُ السُّخْطِ وَهِيَ عَنِّيَ رَواضِي
لاَ أَرى مُزْعَجًا نَوَالِي وَإنْ ... أَبْطَأً عَنِّي جنَاهُ بالإِيْغاضِ
لاَ وَلاَ خَاطبًا بِذَمِّ زَمَانٍ ... أَتَشَكَّى مِنْهُ نُدُوبَ عِضاضِ
قَدْ كَفانِي الإِمَامُ مَا قَدْ عَنَانِي ... وانْتَضَانِي مِنْ خَلَّةِ الانْفَاضِ
واجْتَنَيْتُ الْغِنيَ بِمَدْحِيَ غَضًّا ... مِنْ أَيَادٍ لَهُ رِطَابٍ غِضَاضِ
1 / 12
لَم أَجُبْ نَحْوَهُ الْفَلاَةَ وَلاَ أَقْ ... بَلْتُ نِقْضًا أَهْوَى عَلَى أَنْقَاضِ
تَتَرَامَى بِيَ الْمَفَاقِرُ طَوْرًا ... واعْتِراضًا كَرَمْيَةِ الْمِعْرَاضِ
بَعْدَ أَنْ حَلَّتِ النُّحُوسُ مَحَلِّي ... وَهَوَى نَجْمُ أَسْعُدِي لانِقِضَاضِ
فَتَكَ الْيَأْسِ بِي فأَهْدَى صُدُودًا ... مِنْ وَصُول كَفَتْكَةِ البْرَّاضِ
وَأَرانِي تَحَيُّفُ الْهَجْرِ لِلطَّيْ ... رِ بِمَا نَسَّي تَحَيُّف الْمِقَراضِ
واقْتَضَانِي دَيْنَ الشَّبَابِ مَشِيبٌ ... فِيهِ عَسْفٌ لَهُ وقُبْحُ تَقَاضِي
عَجَبي لَهُ كَيْفَ أَوْجَبَ ذَنْبًا ... لَمْ يَكُنْ عَنْ تَسَلُّفٍ واقْتِراَضِ
ظَالِمٌ مُنْصِفٌ سَرِيعٌ بَطيءٌ ... سَابِقٌ رَكْضُهُ بِغَيْرِ ارْتِكَاضِ
فَتَسَوَّدْتُ بِالْبَيَاضِ وَعُذ ... تُ بِهِ عَنْ وصَالِ بِيَضٍ بِضَاضِ
وَاكْتَسَيْتُ الْوقَارَ بالْكُرهِ مِنِّي ... وَنَضَتْ بِشْرَتِي لَيَالٍ نَوَاضِي
وأَتَتْنِي قَوَارِضٌ مِنْ أُنَاسٍ ... مِثْلُ وَقْعِ الشِّهَابِ فِي الأَغْراضِ
1 / 13
كُلِّ وَاهِي الْقُوَى نَؤُومٍ إِذَا مَا ... نَهَضَ النَّاسُ للْعُلَى رَبَّاضِ
تَرَكَتْنِي لِمَا أُحَاذُرِ مِنْهَا ... حَرَضًا هَالِكًا مِنَ الأَحْرَاضِ
عَلَم اللهُ مَا الَّذي كُنْتُ أَلْقَى ... فيكُمُ مِنْ تَأَلُّمٍ وَامْتِعَاضِ
لَمْ أَذُقْ مُذْ رَكبْتُ رَاحِلَةْ الْ ... خَوْفِ إلىَ لَذَّةَ إِلإِغْمَاضِ
لاَ أُطِيقُ الدِّفَاعَ عَنْكَ وَلاَ ... أَمْلِكُ غَيْرَ الْهُمُومِ والإِرْتِمَاضِ
زَأَرَتْنِي أُسُودُ حِقْدٍ عَلَيْكُمُ ... لَمْ تُغَيِّبْ بِغَابَةٍ وَغِياضِ
وَفَرَانِي الزَّمَانُ مِنْهُ بِنَابٍ ... بَعْدَكُمْ مُرْهَفِ الشَّبَّا عَضَّاضِ
وَانْتَحَى آكِلًا لِلَحْمِي وَرَضَّ الْ ... عَظْمِ مِنِّي بِكَلْكَلٍ رَضَّاضِ
واكْتَحَلْتُ السُّهَاد والْحَذَرَ ال ... دَّائِمَ خَوْفًا بِمَرْوَدٍ مَضَّاضِ
مِنْ حَسُودٍ مُنَافِسٍ لِي عَلَيْكُمْ ... لِبِحَارِ أَغتِيابِكُمْ خَوَّاضِ
مُبْغِضٍ لِي لَما أُسَيِّرُ فِيكُمْ ... مِنْ مَدِيحٍ عَلَى الأَذى حَضَّاضِ
فأَرَانِي الإِلهُ مَا كُنْتُ أَرْجُو ... هُ وعُوِّضْتُ أَحْسَنَ الإِعْتياضِ
يَا إِمَامَ الْهُدَى اسْتَمِعْ لِوَلِيٍّ ... سَائِرٍ فِي مَديحِكُمْ رَكَّاضِ
بَذْلُ النَّفْسِ وَاجِبٌ لَكَ مَحْضُ ال ... نُّصْحِ مِنْ أُسْرَةٍ لَكُمْ أَمْحَاضِ
كُلُّ عَاصٍ بِجِلْدَتِهِ العُ ... رُّ هَانِئُوهُ بِالخَضْخَاضِ
1 / 14
يَفْضُلُ النَّاسِ في الشَّجَاعَةِ وَالْبأْ ... سِ كَفَضْلِ الدَّيْسِ لابْنِ مَخَاضِ
قِبْلَةُ الْحَرْبِ حينَ تَجْتَنَبُ الْحَرْ ... بُ وَتَرْدَى خُيَولهُهَا في الْعِرَاضِ
عَضَّدَ الْمُلْكَ فيهِ بالأَيِّدِ الْ ... عَالِمِ شَافِي الْمَحْلِ بالإِحْمَاضِ
بَاذِلُ الرَّأْي سَالِكٍ شَعْبَ عَزْمٍ ... مَا الْمَصَاعِيبُ فِيهِ كالأَحْفَاضِ
أَخْصَبَتْ أَرْبُعُ الْوَرَى بإِمَامٍ ... قَاتِلِ الْمَحَلِ جَابِرِ الْمُنْهَاضِ
عَرَفَ النَّاسُ فَضْلَهُ مِثْلَ مَا يُعْ ... رَفُ قَصْدُ السِّهَامِ بالأَنْبَاضِ
مَنْ رأَى حُبَّهُ كَنَافِلَةِ الْ ... فَرْضِ فَإِنِّي أَرَاهُ كالإفْتِرَاضِ
أَيَّدَ اللهُ مُلْكَهُ بِوَزِيرٍ ... مُسْتَقِلٍّ برَأْيِهِ نَهَّاضِ
عَالم بِالزَّمَانِ قَدْ رَاض مِنْهُ ... جَامِحًا آبيًا عَلَى الرُّوَّاضِ
لَمْ يَطُفْ بِالْيَقِينِ مِنْ ظَنِّهِ ال ... شَّكُّ وَلاَ حَالَ دُونَهُ بِاعْتِرَاضِ
ضَرَبٌ في لُهَى وَلِيِّكَ مَاضٍ ... وسَهُادٌ عَلَى عَدُوِّكَ قَاضِي
نَاصِحٌ لَمْ يَخُضْ ضَحَاضِحَ غِشِّ ... فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي مَعَ الْخُوَّاضِ
مَوَّلَ اللهُ بَيْتَ مَالِكَ مِنْهُ ... باجْتِمَاعٍ مِنْهُ لاَ بارْفِضَاضِ
غَيْرَ مَا حَافِلٍ إِذَا انْتَحَلَ النُّصْ ... حَ بِشَكْوَى مُغَاضِبٍ أَوْ مُرَاضِي
مِنْ أُنَاسٍ أَقَلاَمُهُمْ أَسْهُمُ الْمُلْ ... كِ وَلَكِنَّهَا بِغَيْرِ وِفاضِ
1 / 15
جَامعَاتٍ لِلأَمْرِ بَعْدَ افْتِراقٍ ... جَابِرَاتٍ لِلْعَظْمِ بَعْدَ انْهِيَاضِ
مَا رَأْتْ سَاعيًا على الْبَيْنِ إِلاَّ ... قَيَّدَتْ سَعْيَهُ بِغَيْرِ الاْيَاضِ
نَفَثَتْ بِالْمِدَادِ سُمًّا عَلَيْه ... نَفْثَ أَنْيَابِ حَيَّةٍ نَبنَاضِ
فَابْقَ يَا سَيِّدَ الْمُلُوكِ لَهُ تُبْ ... رِمُ بِالرَّأْي مِنْهُ كُلَّ انِتْقَاضِ
وَتَمَلَّ النَّيْرُوزَ تِسْعِينَ عَامًا ... سَامِيًا والْعَدُوِّ ذُوِ إِعْضَاضِ
فقال - وكان عالمًا بالشعر ناقدًا -: ما أعرف مثل هذه الضادية لقديم ولا محدث وإنها لحُمَتُكَ رميت بها كما كانت - قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإِلهُ فَجُبْرِ - حمة العجاج رمى بها فقلت له يبقى الله سيدنا وها هنا حماةَ مثلها كثيرة.
وكان من أول ما خاطبنا به أَن قال: والله لقد جاءني هذا الأمر وما شرعت فيه ولا أحببته، ولا علم الله ذاك مني في سر ولا علانية، لا جهلًا مني ما فيه من الشرف والجلالة لكني لتغير الأحوال وقلة الأموال وكلب الجند وخاب الدنيا وإنه يستصحبني من الغم والأسف والغيظ والاهتمام أكثر مما يؤمل من السرور واللذة، فما أجد في زماني مياسير من الكتاب والتجار بحمل بمثلهم الملك ويلجأ المهم إليهم مثل ابن الجصاص في التجار ومن يقاربه، وأرجو أن يعينني الله
1 / 16
بجميل نيتي، فقد ضقت ذرعا بما دفعت إليه فقلت له إذن يعينك الله يا أمير المؤمنين، ويوفقك بشهادة من رسول الله صلى الله عليه بذلك ووعد به قال وكيف ذاك؟ قلت: حدثنا إبراهيم بن عبد الله النميري قال حدثنا حجاج بن منهال عن المبارك بن فضالة عن الحسن بن أبي الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أَعطيتها عن مسئلة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسئلة أعنت عليها. فقال لي: قد والله سرني الله بهذا الحديث ولست أشك الآن في عون الله وتوفيقه إياي.
ثم قطع المجلس، قطعه ما لقيه من إعنات القاهر له وخوفه لقتله أباه في ليله ونهاره وما دفع إليه من مداراة من لا تعرف طريقته ولا يوثق بدينه، ولا بعقله ولا تؤمن بوائقه، ولا ترضى خلائقه. إلى أن قال أليس بابن المعتضد؟ وأخ المقتدر وعم لنا؟ هذا والله عار لا يرحض وعيب لا يزال ثم نبهتنا سهامة.
فقلت قد أزال الله عن سيدنا كل عيب وألحق به كل حسن، وله في رسول الله صلى الله عليه أسوة حسنة هذا عمه أبو لهب أنزل الله عن وجل فيه وفي امرأته سورة من القرآن يعرفها كل إنسان ويلفظ بها كل لسان فما ألحقه عاره وقد ولده جد رسول الله عبد المطلب، وهذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه
1 / 17
كان يهجوه قبل إسلامه ثم أسلم وشهد حنينا مع رسول الله صلى الله عليه وحسن أثره وما زال محمودًا مرضيًا إلى أن توفي ويقول له حسان بن ثابت وكان كافرًا:
أَبُوكَ أَبٌ حُرٌّ وأُمُّكَ حُرَّةٌ ... وَقَدْ يلِدُ الْحُرَّانِ غَيْرَ نَجِيبِ
فَلاَ يَعْجَبَنَّ النَّاسُ مِنْكَ ومِنْهُمَا ... فَما خَبَثٌ مِنْ فِضَّة بعَجِيبِ
فقال لي قد والله سرني جميع ما جرى وأراني طريق المسلاة واعتقني من هم كان قد ملكني وغلب علي. أعلمت أن الناس يظنون أن هذا من قول حسان، إنما هو لأبي سفيان صخر بن حرب. وأنا قد كنت أظن ذلك حتى عرفتنيه فقلت له. إن حسان هجاه بقصيدة فيها بيت يقال إنه ما سمع بهجاء قط أنصف منه، وهو قوله:
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعَنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتُ لَهُ بِمِثلٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِداءُ
هذا أَنصف بيت قيل قط من هجاء قال الصولي: وما حكيت من ألفاظه التي مرت، وما أحكيه من كلامه بعد فهو كما أحيكه أو شبهه أو مقارب، إذ كنت لا أقدر على أن أحفظ لفظه على حروفه وأنا أحفظ معناه.
وكان والله إذا جمع نفسه وأحضر خاطره كأنه ينطق بلسان المنصور
1 / 18
إذا أراد الكلام في معنى من المعاني، كذلك خيل إلى. أو المأمون من بلاغته وحسن سلوكه سبل المعاني وما أخطأه من شيء فلن يخطئه أن يكون أحسن الناس علمًا، بالشعر ونقدًا له كما ينقده العلماء به، وإنه من أطبع ملوك بني العباس في الشعر وأكثرهم شعرًا وأكرمهم عشرة لجلسائه وما رأيت ولا سمعت بخليفة أحسن منه أخلاقًا ولا أسمح بكل شيءِ بالمالِ والطعام حتى يفرط، وبالثياب والطيب ما بخل بشيء قط ولا تعاظمه شيءِ يهبه ولولا إتباعه لشهوته كثيرًا، عالماَ بما في ذلك من العيب محتملًا له على بصيرة لظننت أنه لا يقدم أحد عليه.
فكنا بين يديه في ذلك اليوم ثلاث ساعات من الليل نشرب وكان هو لا يشرب، قد ترك النبيذ جملة ثم انصرفنا وكان النوروز في تلك الأيام فجلس على بركة مرصصة الجوانب والمجاري حسنة قد عملها وأحضرنا فجلسنا حول البركة وملئت ماء وأمر فرمى فيها بمثقلات كافور كبار وصغار، ثم قال لنا كل من وقف بين يديه مثقلة فهي له فوقفت بين يدي بعضنا مثقلة وقدام بعضنا مثقلتان أنا منهم وقفت لي صغيرة وكبيرة باعهما لي ابن خزابة بثلاثة آلاف درهم ودفع إلينا ندا كثيرًا وعنبرًا، ووصل الجماعة بصلات مختلفة على أقدارهم عنده.
ثم واصل الجلوس بعد ذلك إلى أن كثر شغب الحجرية والساجية في طلب المال فقطع الجلوس معنا مدة لئلا يقولوا إنه مشغول بلذاته. ولما قبض على القاهر حبس في بيت وطولب بأموال
1 / 19
فلم يقر بشيء وكأنه عرف ماله عند الراضي لسوء ما كان يعامله به فعذب عذابًا شديدًا فما أنعم بشيء فأمر بعض الناس فكحله فأعماه وتردد المكروه عليه فما أقر بشيء ووجد له مال يسير وآلة فأخذت وحسن وفاء زيرك له فأعجب ذلك للراضي فاصطنعه وحسنت خدمته له فتمكنت عنده حاله وغلب عليه فأحسن إليه إحسانًا كثيرًا وأقطعه البستان المعروف بالشفيعي ووهب له من أنواع الطيب ما كان أمله يقصر عن مثله، وكذا من الجواهر والبلور وآلة الذهب والفضة - وما رأيت البلور عند ملك أكثر منه عند الراضي، ولا عمل ملك منه ما عمل ولا بذل في أثمانه ما بذل حتى اجتمع منه له ما لم يجتمع لملك قط.
وعظم في أول أيام الراضي أمر مرداويج السلمي بأصبهان، وتحدث الناس عنه أنه يريد تشعيث الدولة وقصد بغداد وأنه لمساهم لصاحب البحرين مجتمع معه على ما يحاوله، ثم ورد الخبر بأن غلمانه قتلوه وأن رئيس الغلمان غلام يعرف ببجكم، وأنه خرج عن أَصبهان ومعه جماعة من الأتراك قد رضوا به صاحبًا لهم ورئيسًا عليهم، فزعم ابن ياقوت أنه هو الذي دبر ذلك وكاتب فيه الغلمان ووجه برسل إليهم يحضهم على ذلك ويرغبهم في حسن الفائدة عليهم في العاجل من جهة الخليفة، وفي الثواب بطاعتهم للخليفة ونفذت كتبه إلي بحكم
1 / 20