تقديم:
هذا الكتاب عمل جاد، يسعى لإحياء قطعة ثمينة من تراثنا الثقافي، غيبها الزمن، وضاعت أصولها فيما ضاع من كنوزنا التراثية الغالية، هي كتاب أخبار المدينة، لمحمد بن الحسن بن زبالة، المتوفى سنة 199ه.
ذلك أنك ما تقرأ كتابا من الكتب المؤلفة عن المدينة المنورة عبر العصور الماضية إلا وتجده ينقل عن ابن زبالة، بل وتجد رواياته موزعة في معظم الموضوعات التي كتبوها عن المدينة؛ تاريخها في الجاهلية والإسلام، أسماؤها وفضائلها، وحدود حرمها، وأهم معالمها، والمسجد النبوي، وتاريخ بنائه، وتفصيلات محتوياته، حتى لتظن أن من ينقل عنه إنما ينهج نهجه في كتابه الغائب.
وقد بذل المؤلف جهودا كبيرة في جمع مادة الكتاب من المصادر الكثيرة التي أوردها في حواشيه ومراجعه، ونسقها وفق موضوعاتها، واجتهد في أن يقدم لنا صورة حية للكتاب بالنصوص التي أوردها النقلة عنه.
ومهما يكن القول في عدالة ابن زبالة في رواياته في الحديث الشريف، فإن المؤرخين الذين أخذوا من كتابه قبلوا رواياته التاريخية، واعتمدوا عليها في تاريخ المدينة ووصف معالمها القديمة.
صفحة ٣
ولا شك أن كتاب ابن زبالة رائد في ميدانه، فهو أسبق الكتب عن المدينة المنورة زمانا، وأكثرها تأثيرا في مناهج الكتب المشابهة في تراثنا، بدءا من ابن شبة، ووصولا إلى السمهودي، فهؤلاء جميعا على ما يبدو من الروايات التي نقلوها عنه في أبواب كتبهم وفصولها حذو حذوه في الجمع بين الحديث عن تاريخ المدينة المنورة ومعالمها وفضائلها وأسمائها، حتى ليصح أن تقول إن التأثر الأكبر بكتاب ابن زبالة ربما يكون في منهجية كتب المدينة المنورة التراثية، وفي تحديد الأبواب والفصول الرئيسة فيها.
ويسر مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة أن ينشر هذا البحث
القيم، وهو في أصله رسالة جامعية لنيل درجة الماجستير، من فرع جامعة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة، وأن يقدم من خلاله ما تبقى من أول كتاب في تاريخ المدينة المنورة، ويقدم في الوقت نفسه دراسة منهجية مركزة عنه.
والمركز الذي جعل هدفه الأول تتبع التراث الحضاري للمدينة المنورة وجمعه ودراسته ونشره، ليعد هذا الكتاب أيضا رسالة إلى الباحثين الذين كتبوا عن المدينة المنورة، والذين سيكتبون عنها، بأنه يفتح أبوابه واسعة لكل عمل منهجي في هذا الميدان.
والله ولي التوفيق.
د. عبد الباسط بدر
مدير عام مركز بحوث ودراسات
المدينة المنورة
صفحة ٤
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:
لقد خص الله تعالى المدينة النبوية بفضل عظيم حيث جعلها ثانية الحرمين ودار هجرة نبيه (وحصن نصرته ومنطلق نور الإيمان إلى مختلف نواحي الأرض، وكان مسجدها ثاني المساجد التي تشد إليها الرحال، فيه الروضة المطهرة التي هي من رياض الجنة.
وقد بدأ اشتغال مؤرخي المسلمين بكتابة سيرة الرسول صلوات الله عليه وسلامه، وحولها تفجرت ينابيع أفكارهم فقدمت مادة تاريخية غزيرة عن المدينة المنورة مهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامه.
وتجلت هذه المادة التاريخية في وصف الأماكن والأحداث التي كانت لها علاقة بالرسول الكريم (في المدينة، وكذلك الحال بالنسبة لكتب المغازي فقد وردت فيها أخبار عن بعض الأماكن التي مر عليها بجيش الإسلام في طريقه إلى غزواته.
وعندما ازدهرت الحركة العلمية عند المسلمين في القرن الثاني الهجري ظهر نوع جديد من الكتابة التاريخية، وهو التأريخ للمدن الإسلامية، ومكة والمدينة أقدسها عندهم فكانت عنايتهم بمكة المكرمة والمدينة المنورة فائقة، واهتم بها المؤرخون من حجازيين وغيرهم.
وقد كانت عناية المؤرخين بالمدينة المنورة كبيرة بداية من القرن الثاني الهجري، وكيف لا يكون ذلك وهي طيبة المختارة معقل الإسلام والمسلمين، ومنها انتشرت دعوة الله - عز وجل - في جميع البلاد فكان لها فخر نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ونشر دينه مما جعل تاريخها حافلا بالمكرمات، حيث كان للنبي (أثر في كل بقعة منها.
صفحة ٥
ولأسباب أخرى اهتم المؤرخون المسلمون بالكتابة عن تاريخ المدينة المنورة فظهرت عدة مؤلفات عن المدينة إبان القرنين الثاني والثالث الهجريين فكان من أشهرهم محمد بن الحسن بن زبالة، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وعلي المدائني، والزبير بن بكار، وعمر بن شبة، ويحيى العلوي، وغيرهم ممن تفرقت أخبارهم في المصادر .
وكان للمؤرخين المذكورين شرف السبق في تناول تاريخ طيبة في كتب مفردة لهذا الفرض مما جعل لهذه المؤلفات أهمية كبيرة لدى المؤرخين الذين جاؤوا بعد العصور الأولى فكانت كتبهم تلك هي المصادر التي اعتمدها المؤرخون اللاحقون وأصبحت عمدة مؤلفاتهم، غير أنه لا يوجد غير كتاب واحد بقي منها متوافرا بين يدي الباحثين وهو كتاب تاريخ المدينة لابن شبة الذي عثر الباحثون على نسخة منه وطبع محققا، أما بقية تلك الكتب المؤلفة في المرحلة الأولى فلم تعرف منها نسخ مخطوطة ولم تجمع متفرقات أخبارها في كتب أو رسائل، وحيث إن ابن زبالة أول من صنف كتابا شاملا في أخبار المدينة - حسبما توصلت إليه - ويعد رائدا في التاريخ المحلي للمدينة المنورة، وأحد المؤرخين المسلمين البارزين الذين اعتمد عليه من جاء بعده واتبعوا منهجه في الكتابة التاريخية للمدينة، وبما أن كتابه مفقود، فقد كان ذلك دافعا لي في جمع نصوص هذا الكتاب وتقديم ترجمة لصاحبه تبين مدى جهوده العلمية وآثاره وإسهامه في الكتابة التاريخية عن المدينة وأثره فيما جاء بعده، ودراسة منهجه دراسة علمية دقيقة، حيث لم يسبق أن جمعت نصوص ابن زبالة سوى ماقدمه أحد المستشرقين من نصوص لابن زبالة قبل قرن من الزمان جمعها من كتاب السمهودي فقط وسمى كتابه ((تاريخ المدينة لابن زبالة)) وهو المستشرق الألماني ((فستنفيلد)) كما لم يحظ ابن زبالة بترجمة أكاديمية سوى ماقدمه الدكتور أكرم ضياء العمري في كتاب منتخب من كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من ترجمة طويلة.
صفحة ٦
أما عن أهم الصعوبات التي واجهتني أثناء بحث هذا الموضوع فهي قلة المصادر التي قدمت ترجمة وافية لحياة ابن زبالة ووفاته.
أيضا من الصعوبات التي واجهتني، عدم وجود نسخة لكتاب ابن زبالة أستطيع من خلالها تحليل شخصيته ودراسة منهجه؛ إذ لا يخفى على أحد صعوبة تقديم دراسة منهجية لمجموعة من النصوص المتفرقة في الكتب التاريخية.
وعلى أي حال فقد بذلت في دراسة هذا الموضوع ما استطعت من جهد وأمضيت فيه وقتا كبيرا، فإن كان فيه شيء من التوفيق لبلوغ القصد فمن الله سبحانه وتعالى، وإن قصر عن ذلك فهي طبيعة الجهد البشري وخاصة لإنسان مثلي في بداية خطواته نحو الطريق العلمي.
هذا وقد قسمت هذه الرسالة إلى مقدمة وتمهيد وأربعة فصول وخاتمة تضمنت أهم النتائج التي توصل إليها البحث:
أما المقدمة: فقد بينت فيها أهمية الموضوع وسبب اختياره بالإضافة إلى عرض موجز لأهم المصادر التي أفادت البحث.
التمهيد: واشتمل على دوافع التأليف التاريخي عند المسلمين، وارتباط التاريخ بالحديث، والتأريخ للمدينة المنورة، وبيان أشهر المؤلفات الشفهية والمكتوبة عن المدينة إبان القرنين الثاني والثالث الهجريين.
الفصل الأول: وقد تناول حياة ابن زبالة وعصره، ويندرج تحته عدة مباحث فرعية تحدثت فيها عن اسمه ونسبه ونشأته، ثم تكلمت عن بيئته وعصره فتناولت بالحديث فيه عن سقوط الدولة الأموية، ثم المدينة في عهد العباسيين، ثم الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية والعمرانية للمدينة في حياة ابن زبالة.
كما تحدثت في هذا الفصل عن الدراسات السابقة لترجمته، وأبرز شيوخه وتلامذته، ومؤلفاته، وأقوال النقاد فيه، ثم اختتمت الفصل بالحديث عن وفاته.
صفحة ٧
الفصل الثاني: وقد جمع فيه نصوص ابن زبالة المتعلقة بالحديث عن المسجد النبوي الشريف وما يتعلق به من أمور، وغيره من مساجد المدينة وما حولها، وقد اشتمل على هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأخذه لموضع مسجده الشريف بها وكيفية بنائه، وذرعه وما يتعلق به من أمور كتحويل القبلة، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم ، وما كان من خبر الجذع والمنبر الذي كان يقف عليه (، والحجرة الشريفة، وأساطين المسجد النبوي وأبوابه. كما اشتمل هذا الفصل على بحث موضوع توسعة المسجد النبوي والزيادة فيه وما أحدثه عمر بن عبد العزيز فيه أثناء توسعته بأمر الوليد بن عبد الملك. وما كان حوله من دور ومنازل، وما ينبغي على المسلم التأدب به فيه، واختتمت هذا الفصل بجمع نصوص ابن زبالة المتعلقة بمساجد المدينة وما حولها ومصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأعياد.
الفصل الثالث: وقد جمع فيه النصوص الباقية من كتاب أخبار المدينة لابن زبالة وتتناول هذه النصوص سكان المدينة من عماليق ويهود وعرب، وذكر منازلهم وآطامهم ثم أسماء المدينة وتحديد حرمها وأحكامه، وذكر فضائلها وما يؤول إليه أمرها، كما تتناول هذه النصوص موضوع البقيع ومقابر المدينة ومن دفن فيها من الصحابة وأهل البيت، ثم تتناول آبار المدينة وأوديتها وصدقات النبي صلى الله عليه وسلم وبقاعها وسوقها.
وقد حاولت في هذين الفصلين (الثاني والثالث) التعريف قدر الإمكان بالأماكن غير المعروفة والمصطلحات الغريبة الواردة في النصوص من المصادر والمراجع ذات العلاقة.
كما أني كنت أذكر ما يتفق من نصوص ابن زبالة مع بعض الأحاديث الواردة في كتب الصحاح والثقات.
صفحة ٨
أما الفصل الرابع: فقد درست فيه منهج ابن زبالة في كتابه أخبار المدينة وأسلوبه، وتناولت فيه بالدراسة كلا من كتابه أخبار المدينة وموضوعاته والمنهج الذي اتبعه في كتاباته عن المدينة، كما تناولت مصادره المختلفة من رواية شفهية أو مشاهداته وملاحظاته. وذكر طريقته في استخدامه الإسناد، وكيف أن تساهله في جمع الرواية وسع آفاق المعرفة عنده، وقمت بسرد بعض الأبيات الشعرية التي نقلها في نصوصه ليدعم بها رواياته أو يثبت بها حادثة معينة. كما ألقيت الضوء على أهم المآخذ عليه، وقيمة كتابه العلمية وأثره فيمن جاء بعده.
أما الخاتمة: فقد اشتملت على أهم ما توصل إليه البحث من نتائج تلاه ثبت للمصادر والمراجع والفهارس.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أشكر الله عز وجل الذي أعانني على إنجاز هذا البحث، ثم أتقدم بجزيل الشكر وخالص الثناء والعرفان لأستاذي المشرف على هذه الرسالة الدكتور: فواز علي بن جنيدب الدهاس. الذي لم يأل جهدا في التوجيه وتذليل الصعاب مع رحابة الصدر والحرص على المتابعة فجزاه الله عني خير الجزاء.
كما أشكر أستاذي المشرف السابق على الرسالة الأستاذ الدكتور محمد الحبيب الهيله.
كما أتقدم بالشكر لفضيلة عميد كلية الشريعة وعميد الدراسات العليا ورئيس قسم الدراسات العليا التاريخية والحضارية على ما يبذلونه من جهود في سبيل تذليل ما يواجه الدارسين من عقبات، كما أقدم خالص الشكر والتقدير لأساتذتي أعضاء قسم الدراسات العليا التاريخية والحضارية وكل من مد لي يد العون في هذه الرسالة.
كما أشكر الأساتذة الكرام الذين تفضلوا بقبول مناقشة هذه الرسالة وتقويمها.
كما لا يفوتني أن أزجي خالص شكري وعرفاني لكل من والدي وزوجتي على ما بذلوه من جهد ودعم خلال مراحل إعداد هذه الرسالة.
صفحة ٩
وأخيرا لا يسعني إلا أن أتوجه إلى المولى العلي القدير بالدعاء أن أكون قد وفقت فيما قدمت.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين فهو نعم المولى ونعم المعين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
صفحة ١٠
مصادر الرسالة
اعتمدت على مصادر كثيرة ومتنوعة، غير أني سأركز حديثي في هذا البحث عن أهم المصادر والمراجع التي كانت ذات قيمة أساسية لموضوع بحثي؛ إذ تعد المصادر التاريخية التي اهتمت بتاريخ المدينة، وعلى الرغم من قلتها وقلة ما ورد بها من معلومات تفيد البحث، من أهم المصادر التي اعتمدت عليها، ومن أقدم هذه المصادر:
- كتاب ((متنخب من كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم )) لمحمد بن الحسن بن زبالة برواية الزبير بن بكار، وتحقيق الدكتور أكرم ضياء العمري وقد استفدت من الترجمة التي قدمها المحقق عن ابن زبالة.
كما أفادني في تكوين صورة عن منهج ابن زبالة وأسلوبه في عرض الروايات.
- وكتاب ((تاريخ المدينة)) لأبي زيد عمر بن شبة (ت 262ه) يقع في أربعة أجزاء، فقد أمدني بمعلومات غزيرة عن خطط المدينة المنورة وعمارة المسجد النبوي الشريف ومقارنتها مع ما ورد من نصوص عن ابن زبالة. كما استفدت منه في معرفة منهج المؤرخين المعاصرين لابن زبالة.
- أما كتاب ((المناسك)) وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة للإمام أبي إسحاق الحربي (285ه) فقد أفدت منه في ترجمة بعض تلاميذ ابن زبالة ومعرفة بعض نصوص ابن زبالة ومقارنتها بما جاء عند غيره من المؤرخين.
صفحة ١١
- أما كتاب ((الفهرست)) لابن النديم (385ه) والذي كان كتابا لإحصاء ما ألف الناس إلى آخر القرن الرابع الهجري، فقد أفدت منه في معرفة ما ألف عن المدينة من كتب، كما أمدني بمعلومات قيمة عن ابن زبالة وبعض شيوخه وتلاميذه.
- أما كتاب ((ميزان الاعتدال في نقد الرجال)) للعلامة أبي عبد الله محمد ابن أحمد الذهبي فقد أفادني في ترجمة ابن زبالة وكثير من شيوخه وتلاميذه.
- أما كتاب ((الفهرست)) لابن النديم (385ه) والذي كان كتابا لإحصاء ما ألف الناس إلى آخر القرن الرابع الهجري، فقد أفدت منه في معرفة ما ألف عن المدينة من كتب، كما أمدني بمعلومات قيمة عن ابن زبالة وبعض شيوخه وتلاميذه.
- أما كتاب ((ميزان الاعتدال في نقد الرجال)) للعلامة أبي عبد الله محمد ابن أحمد الذهبي فقد أفادني في ترجمة ابن زبالة وكثير من شيوخه وتلاميذه.- أيضا كتاب ((تهذيب الكمال في أسماء الرجال)) لجمال الدين المزي أفادني في ترجمة ابن زبالة وبعض شيوخه وتلاميذه.
- أما كتاب ((أخبار مدينة الرسول)) المعروف بالدرة الثمينة للإمام محمد ابن محمود بن النجار (643ه) فيعد من أهم المصادر التاريخية حول المدينة والذي أفدت منه كثيرا في كتابة نصوص ابن زبالة، فقد نقل ابن النجار عنه كثيرا من النصوص حول مواضيع مختلفة من تاريخ المدينة نقلها بالسند الكامل عن ابن زبالة. كما أفدت من هذا الكتاب في مقارنة نصوص ابن زبالة فيه مع غيره من الكتب التاريخية التي نقلت عنه وذلك لتأكيد صحة النص المنقول من مختلف الكتب التاريخية.
- وكتاب (التعريف بما آنست الهجرة من معالم دار الهجرة) للإمام جمال الدين محمد بن أحمد المطري والذي نقلت عنه أكثر من خمسين نصا نقلها عن ابن زبالة بالإضافة إلى استفادتي من هذا الكتاب في توثيق كثير من النصوص الأخرى التي رواها السمهودي عن ابن زبالة.
صفحة ١٢
- ومن أهم مصادر تاريخ المدينة المنورة التي اعتمدت عليها في هذا البحث ونقلت منها كثيرا من نصوص ابن زبالة كتاب ((تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة)) للإمام زين الدين المراغي (816ه) والذي انفرد بنقل بعض نصوص ابن زبالة كما نقل نصوصا أخرى نقلها غيره من المؤرخين وقد نقلت عنه أكثر من ثلاثة وتسعين نصا لابن زبالة حول تاريخ المدينة المنورة ومسجدها الشريف.
- أما كتاب ((التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة)) لشمس الدين السخاوي
(902ه) والذي يقع في جزئين، فقد أفدت منه في ترجمة ابن زبالة وكثير من شيوخه وتلاميذه. كما أمدني بمعلومات عن أسماء من ألف عن المدينة في عصر ابن زبالة.
- أما كتاب ((وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى)) لنور الدين السمهودي (911ه). وأصله من سمهود بصعيد مصر والذي حج وأقام في المدينة واشتغل بالتدريس، فقد جمع في هذا الكتاب كل ما أمكنه الوقوف عليه من تاريخ المدينة وما عاينه من أمور لم يظفر بها غيره، وقد أفادني في معرفة نظام الزراعة بالمدينة وطرق الري، كما يعد أكثر من نقل عن ابن زبالة حتى يكاد يكون ما ورد فيه من نصوص لابن زبالة تلخيصا للكتاب الأصلي المفقود، حيث نقل عنه أكثر من ستمائة وثلاثين نصا، ولا يكاد يخلو موضوع من موضوعات السمهودي من نص لابن زبالة، كما أفدت منه في معرفة منهج ابن زبالة حيث أمدني بمعلومات عن تنظيم كتابه. كما أفدت منه في معرفة أثر ابن زبالة فيمن جاء بعده من المؤرخين.
- ومن مصادر تاريخ المدينة في القرن العاشر كتاب ((عمدة الأخبار في مدينة المختار)) للشيخ أحمد العباسي المتوفى في القرن العاشر، وقد أفدت منه في تعريف كثير من بقاع المدينة، كما أفدت منه في مقارنة نصوص ابن زبالة عنده مع ما جاء في كتاب ((وفاء الوفا)) للسمهودي. كما أمدني بمعلومات أفدت منها في منهج ابن زبالة وأثره فيمن جاء بعده.
صفحة ١٣
تمهيد: تاريخ المدينة في مؤلفات القرن الثاني والثالث
الهجريين:
كان القرن الثاني الهجري هو بداية ازدهار الحركة العلمية عند المسلمين وظهور الكتابة التاريخية حيث برز الاهتمام بتاريخ المدن الإسلامية وهو ما أطلق عليه فيما بعد التاريخ المحلي، فظهرت عناية المؤرخين بالمدينة المنورة لمكانتها الدينية والسياسية في ذلك الوقت فكتبت عدة مؤلفات عن المدينة، وكان لمؤلفيها شرف السبق في تناول تاريخ طيبة في كتب مفردة مما جعل لهذه المؤلفات أهمية كبيرة لدى المؤرخين الذين جاؤوا بعد العصور الأولى فكانت كتبهم تلك هي المصادر التي اعتمدها المؤرخون اللاحقون وأصبحت عمدة مؤلفاتهم.
وقبل أن نتعرف على تلك المؤلفات التي وضعت في تاريخ المدينة إبان القرنين الثاني والثالث الهجريين، يجب أن نلقي الضوء على بداية الكتابة التاريخية عند المسلمين، ودوافع التأليف التاريخي وارتباط التاريخ بالحديث، ثم كيف وصل المؤرخون لهذا النوع الجديد من الكتابة التاريخية وهو التأريخ المحلي للمدن وعلى الأخص التأليف عن تاريخ المدينة المنورة.
دوافع التأليف التاريخي عند المسلمين:
إن فطرة الناس تلح عليهم أن يتركوا وراءهم تاريخا، وإن هذه الأحداث الضخمة التي هزت العالم، وغيرت ميزان القوى تدعو لأن يضمها تاريخ.
ولكن لم يكن هذا وحده ما دفع إلى كتابة التاريخ الإسلامي، وما أعان على كتابة هذا التاريخ، فقد كان بجوار هذين الدافعين القويين دوافع أخرى، فخصائص الأمة العربية في فكرها وثقافتها كانت تعين على ظهور التاريخ، فهي أمة تميزت بالحفظ والرواية، وبالبلاغة والشعر، وبالحرص على الأنساب والفخر بها (1).
صفحة ١٤
والعلوم الإسلامية كان لها أثرها في دفع المسلمين قدما نحو كتابة التاريخ، والقرآن الكريم هو المصدر الأول لدراسة علم التاريخ عند العرب، ويليه الحديث والسنة، وكانت بداية التأليف العلمي في التاريخ وثيقة الصلة بهذين المصدرين.
ارتباط التاريخ بالحديث:
كان علم التاريخ العربي الإسلامي عند نشأته يقوم على دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والاهتمام بها وأخبار الغزوات ومن أسهم فيها من الصحابة رضوان الله عليهم، وكان مركز النشاط في هذه الحركة التاريخية يتمثل في مكة والمدينة، وكان المؤرخون الأول من المسلمين يعتمدون فيه على الروايات الشفهية؛ شأنهم في ذلك شأن رواة الحديث، فكان كل جيل منهم يستمد أخباره من الجيل السابق، وكان الخبر التاريخي يستمد من السماع عن الحفاظ الموثوق بهم وهو ما يعرف بالأسانيد، وهي وسيلة للإجماع على صحة الخبر، وهي نفس الوسيلة التي اتبعها المحدثون في روايتهم للحديث، مما يدل على أن التاريخ العربي عند نشأته سلك نفس الطريقة التي سلكها الحديث.
صفحة ١٥
وأقدم الكتب التاريخية التي تجمع بين الحديث والتاريخ هي كتب المغازي والسير (1)، فقد دفع اهتمام المسلمين بأقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله للاهتداء بها والاعتماد عليها في التشريع الإسلامي، وفي النظم الإدارية، الكتابة في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي مغازيه ومغازي الصحابة (1).
ولاشك أن عمل هؤلاء الكتاب - المحدثين - الأفاضل، وما جمعوه من أحاديث متضمنة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وجهاده ومغازيه مؤيدة بالسند كان خطوة ممهدة لمولد علم التاريخ، والمحور الذي يدور حوله حركة التدوين التاريخي، بل إنها البوابة العريضة الهامة التي دخل منها المسلمون إلى دراسة التاريخ وتدوينه عموما.
وكان من الطبيعي أن تتألق هذه الحركة في المدينة باعتبارها دار هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ودار السنة التي عاش فيها الصحابة وسمعوا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ورووها بدورهم إلى التابعين.
التاريخ للمدينة:
لقد كان من الطبيعي ونتيجة لما تقدم أن يبدأ الاهتمام بالبحث في تاريخ المدينتين المقدستين اللتين عاش فيهما الرسول الكريم ((مكة المكرمة والمدينة المنورة)، وذلك لارتباطهما الوثيق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فمكة هي التي ولد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ونشأ فيها وعاش فيها طفولته وشبابه وبعثته، والمدينة دار هجرته (خصها الله تعالى بفضل عظيم حيث جعلها ثانية الحرمين وحصن نصرة نبيه (ومنطلق نور الإيمان إلى مختلف نواحي الجزيرة العربية.
وكان مسجدها ثاني المساجد التي تشد إليها الرحال، فيه الروضة المطهرة التي هي من رياض الجنة ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)) (2).
صفحة ١٦
لذا بدأ اشتغال مؤرخي المسلمين بكتابة سيرة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وحولها تفجرت ينابيع أفكارهم فقدمت مادة تاريخية غزيرة عن المدينة المنورة مهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامه ومنطلق دعوته.
وتجلت هذه المادة التاريخية في وصف الأماكن والأحداث التي كانت لها علاقة بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكذلك الحال بالنسبة لكتب المغازي فقد وردت فيها أخبار عن بعض الأماكن التي مر عليها بجيش الإسلام في طريقه إلى غزواته (1).
وعندما ازدهرت الحركة العلمية عند المسلمين في القرن الثاني الهجري ظهر نوع جديد من الكتابة التاريخية وهو التأريخ للمدن الإسلامية ، ومكة والمدينة أقدسها عندهم فكانت عنايتهم بمكة المكرمة والمدينة المنورة فائقة واهتم بها المؤرخون من حجازيين وغيرهم.
وقد كانت عناية المؤرخين بالمدينة الشريفة كبيرة بداية من القرن الثاني الهجري، وكيف لا يكون ذلك وهي طيبة المختارة معقل الإسلام والمسلمين ومنها انتشرت دعوة الله عزوجل في جميع البلاد فكان لها فخر نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ونشر دينه مما جعل تاريخها حافلا بالمكرمات، حيث كان للنبي (أثر في كل بقعة منها.
صفحة ١٧
لذا اهتم المؤرخون المسلمون بالكتابة عن تاريخ المدينة المنورة فظهرت في البداية روايات شفهية قبل ظهور المؤلفات المكتوبة، فكان من أهم وأشهر هذه الروايات الشفهية ما وصل إلينا من روايات عبد العزيز بن عمران الزهري، (ت197) الذي كانت له طائفة من الروايات حول تاريخ المدينة، نقلها عنه تلاميذه، وهم: ابنه سليمان، وعلى بن محمد المدائني (ت 225)، وأبو غسان محمد بن يحيى الكتاني، وأبو حذافة أحمد بن إسماعيل السهمي (ت 259)، وإبراهيم بن المنذر الحزامي (ت 236)، وأبو مصعب الزهري (ت 242)، وقد أشار إليهم ابن حجر (1)، ويلاحظ أنهم جميعا ممن لهم عناية برواية أخبار المدينة، ورووا طائفة منها عن شيخهم عبد العزيز بن عمران.
وروى عنهم بعض من صنف في تاريخ المدينة، مثل: ابن شبة (2) الذي روى عن شيخه أبي غسان محمد بن يحيى الكتاني المدني في مواطن عديدة من كتابه تاريخ المدينة، وأبو غسان هذا من الثقات ولا نعرف له مصنفا في التاريخ سوى ما روى من أخبار حولها نقلها تلميذه ابن شبة، ويبدو من هذه النقولات أن أبا غسان كان يلتزم الدقة في تحديد المواقع ويذكر مساحتها.
وإلى جانب أبي غسان نجد إبراهيم بن المنذر الحزامي الأسدي القرشي المدني وأبي مصعب الزهري أحمد بن أبي بكر بن الحارث، وكلاهما من العلماء البارزين والرواة الثقات عند علماء الجرح والتعديل، ولهما روايات شفهية حول تاريخ المدينة نقلها عنهما تلميذهما الزبير بن بكار (ت256) الذي صنف في تاريخ المدينة.
ولا بد من الإشارة إلى أن شيخهما عبد العزيز بن عمران قد انتقد من علماء الجرح والتعديل وخاصة من تلميذه أبي حذافة أحمد بن إسماعيل السهمي المدني (ت259ه) غير أنه كان ذا عناية واهتمام كبير بتاريخ المدينة (3).
كان ذلك عن أهم وأشهر من روى لنا روايات شفهية عن المدينة، أما بالنسبة إلى المؤلفات المكتوبة عن المدينة إبان القرنين الثاني والثالث الهجريين فكان من أشهرها:
صفحة ١٨
1 - الحجة على أهل المدينة، لأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني (ت189ه) (1).
2 - أخبار المدينة لمحمد بن الحسن بن زبالة ت بعد 199ه (2).
3 - حرب الأوس والخزرج لأبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي، (ت 207ه) (3).
4 - وقعة الحرة لمحمد بن عمر الواقدي، (ت 207ه) (4).
5 - الأوس والخزرج لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت210ه) (5).
6 - الحرات لأبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي (ت210ه) (6).
صفحة ١٩
7 - حرة واقم (وهي من حرار المدينة الشرقية)، لأبي الحسن علي بن محمد بن عبد الله المدائني (ت 225ه) (1).
8 - قضاة أهل المدينة لأبي الحسن علي بن محمد بن عبد الله المدائني، (ت 225ه) (2).
9 - حمى المدينة وجبالها وأوديتها لأبي الحسن علي بن محمد المدائني (3).
10 - كتاب المدينة لأبي الحسن المدائني أيضا (4).
11 - نسب الأنصار لعبد الله بن محمد بن عمارة، المعروف بابن القداح المدني الأنصاري كان موجودا قبل سنة 236ه (5).
12 - نسب الأوس لعبد الله بن عمارة أيضا (6).
13 - أخبار المدينة النبوية لأبي زيد عمر بن شبة النميري البصري، ت262 (7).
صفحة ٢٠
14 - أمراء المدينة لأبي زيد عمر بن شبة أيضا، ت 262ه (1).
15 - أخبار الأوس والخزرج للزبير بن بكار، أبو عبد الله، (ت 265ه) (2).
16 - نوادر المدنيين للزبير بن بكار أيضا (3).
17 - أخبار المدينة للزبير بن بكار (4).
18 - أخبار المدينة لأبي طاهر يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله الأعرج الحسين العلوي ت 277ه وقيل 287ه (5).
19 - بين المسجدين لعلي بن أحمد بن علي بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب العقيقي كان حيا عام 298 ه (6).
20 - المدينة لعلي بن أحمد العقيقي أيضا (7).
صفحة ٢١
وبالنظر إلى تلك المؤلفات التاريخية، فإننا لا نجد غير كتاب واحد بقي منها متوافرا بين يدي الباحثين وهو كتاب تاريخ المدينة لابن شبه الذي عثر على نسخة منه وطبع محققا. أما بقية تلك الكتب المؤلفة في المرحلة الأولى فلم تعرف منها نسخ مخطوطة ولم تجمع متفرقات أخبارها في كتب أو رسائل وذلك حسب ما توصلت إليه. وحيث إن ابن زبالة أول من صنف كتابا شاملا في أخبار المدينة ويعد رائدا في التاريخ المحلي للمدينة المنورة، وبما أن كتابه مفقود، فقد كان ذلك دافعا لي في جمع نصوص هذا الكتاب ودراسته دراسة علمية.
صفحة ٢٢