وعند الاستقرار لا توجد تلك البدعة الغير السيئة في العبادات البدنية المحضة؛ كالصلاة والصوم وقراءة القرآن، وأوظاف كل منها، بل لا تكون البدعة فيها إلا سيئة؛ لأن عدم وقوع الفعل في الصدر الأول ليس إلا لعدم الحاجة إليه، أو لوجود مانع منه، أو لعدم التنبه له، أو التكاسل عنه، أو لكراهته وعدم مشروعيته.
والأولان منتفيان في العبادات البدنية المحضة؛ لأن الحاجة إلى التقرب إلى الله بالعبادة لا تنقطع، وبعد ظهور الإسلام وغلبة أهله لم يكن منها مانع، وكذا عدم التنبه لها، والتكاسل عنها منتف أيضا، إذ لا يجوز أن يظن ذلك بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجميع أصحابه، فلم يبق إلا كونها بدعة مكروهة، غير مشروعة. انتهى.
وفيه أيضا: ربما لا يفرق كثير من الناس بين الحسنة والسيئة، فيظنون أن كل ما استحسنه نفوسهم ومال إليه طباعهم يكون حسنا، فيعدون السيئة من الحسنة، فقد خبطوا خبطا كخبط عشواء.
والضابط في هذا أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئا إلا أنهم يرونه مصلحة، إذ لو اعتقدوا فيه مفسدة لم يحدثوه، فما رآه الناس مصلحة ينظر في السبب، فإن كان السبب أمرا قد حدث بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فحينئذ يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه؛ كنظم الدلائل، فإن السبب الداعي إليه ظهور الفرق الضالة، فإنهم لما لم يظهروا في عهده عليه السلام لم يحتج إليه.
وإن كان المقتضى لفعله موجودا في عصره لكن ترك لعارض زال بموته، فكذلك يجوز إحداثه كجمع القرآن، فإن المانع في حياته صلى الله عليه وعلى آله وسلم كون الوحي لا يزال ينزل فيغير الله ما يشاء، فزال ذلك المانع بموته.
صفحة ١١٧