فإنه في أوصاف مولانا - أدام الله ملكه - صدق وحق، وفي مدائح غيره من الملوك زور ومذق، ولسنا نطلق هذا الحكم خاليًا من شاهد يصححه، ولا عاطلًا من قياس يبينه ويوضحه. فنقول: إن كل خلة شريفة، وكل فضيلة لملك أو خليقة، مما يتداول بالروايات، ويتناقل بالأخبار والحكايات، مثل ما اشتهر من عدل كسرى أنوشروان، وانتشر من ورع عمر بن عبد العزيز بن مروان، ومثل ما ذكر من حزامة الجعدي، وشكر من سماحة المهدي، ووصف من صبر المعتمد، وعرف من سياسة المعتضد، إلى غير ذلك من الفضائل التي شهدت لهم بحسن الأثر، وتضمنها ما ثبت من أخبارهم في التواريخ والسير، ولم نعلم أحدًا اشتهر بالعفو اشتهار المأمون حتى كأن هذه المنقبة عليه موقوفة، وكأن الأمة مدفوعة عنها مصروفة. وأبهر ما حوته من آياته، وأكثر ما تضمنته من معجزاته، عفوه عن إبراهيم بن المهدي عمه، وتكرمه في تجرع غيظه منه وكظمه، وقد شاع ذلك عنه وذاع، وملأ ذكره ووصفه الأسماع، وإنما هو شخص مفرد، ورجل واحد، وصنو لأبيه. وكل عم أب ووالد. وقد كان استشار فيه من ثبت عنده عقله وفهمه، فقال: يا أمير المؤمنين، أكره أن يقال يومًا: أخوه، ويومًا: عمه. وهذا كلام يرفع القلب له حجابه، ويعلم سامعه صحته وصوابه. فلم انتقم منه لظاهر بالقساوة والعقوق، ولو شفى غيظه لجاهر بالإضاعة للحقوق، وأيضًا فإنه وصل إلى بغداد عقيب استخفاء إبراهيم واستتاره، واستقر بها بعد خمول ذكره وخمود ناره، فما ظفر به حتى انكسرت مغائظه، وتناقصت حقوده وحفائظه، وتمكن له من السلطان ما ترفع معه أن يأتي الانتقام، وحصل له من الاقتدار ما رغبه في ثناء إذا تقضت الأيام ثبت وأقام، ومع ذلك فما كان يقين إبراهيم بعفو المأمون حسنًا، ولا اعتقاده في صفحة قويًا من قلبه ولا متمكنًا، ومن دلائل ذلك أنه كان عند وثوبه اقترض مالًا كثيرًا من التجار، وكان فيه لعبد الملك الزيات والد محمد عشرة آلاف دينار، فلما لم يتم أمره لواهم أموالهم، فعمل محمد بن عبد الملك الزيات قصيدة يخاطب بها المأمون، وقال فيها عند ذكر إبراهيم بن المهدي:
ووالله ما من توبة نزعت به ... إليك ولا حب نواه ولا ود
فلا تتركن للناس موضع شبهة ... فإنك مجزي بحسب الذي تسدي
فكم غلط للناس في نصب مثله ... بمن ليس للمنصور بابن ولا المهدي
فكيف بمن قد بايع الناس فالتقت ... ببيعته الركبان غورا إلى نجد
ومن صك تسليم الخلافة سمعه ... ينادى به بين السماطين من بعد
وأي امرئ سمى بها قط نفسه ... ففارقها حتى يغيب في اللحد
فإن قلت قد رام الخلافة غيره ... فلم يؤت فيما كان حاول من جد
فلم أجزه ... إذ خيب الله سعيه
على خطأ قد كان منه ولا عمد
ولم أرض بعد العفو حتى رفدته ... وللعم أولى بالتغمد والرفد
فليس سواء خارجي رمى به ... إليك سفاه الرأي والرأي قد يردي
وآخر في بيت الخلافة تلتقي ... به وبك الآباء في ذروة المجد
وعرضها على إبراهيم، ولم يكن محمد حينئذ من أهل النباهة، ولا من أرباب الوجاهة، فسأله إبراهيم كتمانها، واستحلفه على ذلك، وأدى مال أبيه دون مال جميع التجار. فلو كان واثقًا بعفو المأمون لما التفت إلى هذا الإغراء، ولا عرج على هذا الافتراء، وكيف يثق به وهو لم يخل في أيامه من الترويع، ولا سلم من مخاوف التعنيف والتقريع؟! لا جرم أنه ما أمن حتى قضى المأمون نحبه، ولا اطمأن إلى أن مضى ورضوه ... حتى قال أحدهم في بعض ما خدم به من القصائد:
فإن تعف عنهم فانفهم عن ديارهم ... وإن تنتقم فاضرب مناط القلائد
فخالف - خلد الله ملكه - من أتى بهذا القول مشيرًا، وشملهم من العفو بما بدل ناعيهم بشيرًا. على أنا ما علمنا ملكًا حرض على محرم فعف، ولا خليفة حمل على مكروه مسيء فتأخر عنه ولا كف. هذا سديف بن ميمون دخل على أبي العباس السفاح وعنده سليمان بن هشام فأنشده:
لا يغرنك ما ترى من أناس ... إن بين الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوقها ظهرها (أمويا)
1 / 3