واعترتني من الزمان خطوب تتبارى في هتكة المستور نفس صبرا لحادثات الليالي كل شيء يذل للمقدور
فقال: ويحك! ما أطرف هذا المسكين، وما أحرق هذا الأنين، ونحن في ذلك إذ مرت بنا جارية ما
رمقت عيني لها شبيها، وعليها جوب وفي يدها دخنة تدخن بها. فقال لها المتوكل: تعالي يا جارية.
فأقبلت بحسن أدب وكمال. فقال للراهب: من هذه؟ فقال: ابنتي. قال: وما اسمها؟ قال: سعانين. قال
المتوكل: اسقيني ماء. فقالت له: يا سيدي ماؤنا ها هنا من ماء الغدران، ولست أستنظف لك آنية
الرهبان، ولو كانت حياتي ترويك لجدت بها لك. ثم أسرعت فجاءت بكوز من فضة فيه ماء، فأومى
إلي أن أشربه، فشربته. واشتد عجبه بها وشهوته لها. فقال لها: يا سعانين! إن هويتك تسعديني.
فتنفست وقالت: أما الآن فأنا عبدتك، وأما إذا عرفت صحة حبك، وتمكنت من قلبك، فما أخوفني من
حدوث الطغيان عند تمكن السلطان. أما سمعت قول الشاعر:
كنت لي في أوائل الأمر عبدا ثم لما ملكت صرت عدوا
أين ذاك السرور عند التلاقي صار مني تجنبا ونبوا
فطرب المتوكل وكاد يشق قميصه. ثم قال لها: فهبي لي نفسك اليوم حتى نشرب أنا وأنت، فإنيضيفك. قالت له: بالرحب والسعة. ثم أصعدت بنا إلى علية مشرفة على تلك الكنائس كلها، فرأينا
منظرا حسنا. ثم مضت فجاءت بآدام نظاف ورقاق، وكأن المتوكل عافها لعزة الخلافة، فاستأذنها في
إحضار طعام، فأذنت. فجيء بخروف وسنبوسج وأشياء قريبة المأخذ من طعام مثله. فاستظرفت ما
جيء به، واستهولت الآلة، ففطنت لأمر المتوكل فقامت قائمة بين يديه تخدمه وتكفر له. فمنعها. ثم
جاء أبوها بشراب من بيت القربان، ذكر المتوكل أنه لم ير مثله قط. فشرب وشربت معه، واستعفيته
من أجل حمى كانت لحقتني في تلك الليلة. فأعفاني. وسر بها وبظرفها، وحلاوة منطقها، سرورا تاما.
صفحة ٢٠