الأَعْلامُ العَلِيَّة
فِي مَناقِبِ شَيْخِ الإسْلامِ ابن تيميّة
تأليف
الشيخ أبي حفص عمر بن علي البزار
ت (٧٤٩)
تحقيق
علي بن محمد العمران
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
1 / 729
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذا كتاب «الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية» للإمام أبي حفص عُمر بن علي البزّار (ت ٧٤٩)، وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمهما الله تعالى.
وقد رأينا ضمّه إلى هذه السلسلة المباركة إن شاء الله تعالى من آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال، لتكون ضمن تراجم شيخ الإسلام التي اضطلع المشروع بطباعتها، وهي:
١ - الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون [*].
٢ - تكملة الجامع .. [*]
٣ - ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية لابن عبدالهادي، المعروف بـ «العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية».
٤ - ورابعها هذا الكتاب: الأعلام العليّة في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية.
فبهذه الأربعة يكتمل عقد التراجم المنثورة في كتب التواريخ والتراجم ونحوها، مع أهم كتابين في التراجم المفردة لابن تيمية.
وقد كان بادئ الرأي أن تُلْتَقط الفوائد والزوائد التي يضيفها البزّار في كتابه هذا، وتضاف إلى حواشي «العقود الدرية»، أسوةَ بقيّةِ التراجم المفردة الأخرى، لكنّي رأيت ذلك قد يطيل الحواشي؛ إذ فيه معلومات جيدة، وزوائد
_________
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: وفي طبعة الأخيرة، ضُمت التكملة إلى الجامع، في مجلد واحد
1 / 731
كثيرة، ومشاهدات مباشرة. فكان من صائب الرأي أن يُطبع ملحقًا بالعقود الدرية، ليقف القارئ عليه بتمامه، ولا يفوت شيء من فوائده.
* ترجمة المؤلف (^١):
قال الحافظ ابن رجب: عمر بن علي بن موسى بن الخليل البغدادي، الأزَجيّ، البزَّار، الفقيه، المحدِّث، سراج الدين، أبو حفص.
ولد سنة ثمان وثمانين وستمائة تقريبًا.
وسمع من إسماعيل بن الطبَّال، وعلي بن أبي القاسم أخي الرشيد، وابن الدواليبي، وجماعة، وعُني بالحديث، وقرأ الكثير، ورحل إلى دمشق وقرأ بها «صحيح البخاري» على الحجَّار بـ «الحنبلية»، وحضر قراءته الشيخ تقيّ الدينّ ابن تيمية وخلق كثير (^٢)، وجالس الشيخ تقيَّ الدين، وأخذ عنه (^٣).
وتلا ببغداد ختمةً لأبي عَمرو، على شيخنا عبد الله بن عبد المؤمن الواسطي، وقرأ عليه بعضَ تصانيفه في القراءات، وحجَّ مرارًا، وأعاد
_________
(^١) من كتاب «الذيل على طبقات الحنابلة»: (٥/ ١٤٦ - ١٤٨ - تحقيق العثيمين) لابن رجب. وهو من تلاميذه.
وله ترجمة في «المنتقى من شيوخ شهاب الدين ابن رجب» (ص ٧٥ - ٧٧)، و«الرد الوافر» (ص ٢١٠ - ٢١١)، و«الدرر الكامنة»: (٣/ ١٨٠)، و«المقصد الأرشد»: (٢/ ٣٠٤)، و«المنهج الأحمد»: (٥/ ٨٦ - ٨٧)، و«شذرات الذهب»: (٦/ ١٦٣).
(^٢) ذكر المؤلف هذه القراءة في كتابه هذا (ص ٦٣٧). وذكر الشهاب ابن رجب: أنه حضر هذه القراءة المزي والبرزالي وشيوخ الشام.
(^٣) ذكر الشهاب ابن رجب: أنه قرأ المحرر على شيخ الإسلام ابن تيمية، وأذن له بالفتيا.
1 / 732
بـ «المستنصرية». وولي إمامة «جامع الخليفة» ببغداد مدةً يسيرة، ثم أقام بدمشق مدة، وأمَّ بها بـ «الضيائية».
وكان حَسَن القراءة للقرآن والحديث، ذا عبادة وتهجّد.
وصنَّف كثيرًا في الحديث وعلومه، وفي الفقه والرقائق (^١).
وقَدِم في آخر عمره إلى بغداد، فأقام بها يسيرًا، ثم توجَّه إلى الحجّ سنة تسع وأربعين. وحججت أنا تلك السنة أيضًا مع والدي، فقرأت على شيخنا أبي حفص عمر «ثلاثيات البخاري» بالحِلّة المزيدية.
ثم توفي ﵀ قبل وصوله إلى مكة بمنزلة حاجر، صبيحة يوم الثلاثاء حادي عشري ذي القَعْدة سنة تسعٍ وأربعين وسبعمائة، ويُقال: إنه كان نوى الإحرام، وذلك قبل الوصولِ إلى الميقات. ودُفِن بتلك المنزلة، ومعه نحوٌ من خمسين نفسًا بالطاعون، رحمهم الله تعالى.
* نبذة عن الكتاب:
١ - إثبات نسبته للمؤلف:
ذكر هذا الكتاب ابن ناصر الدين الدمشقي (ت ٨٤٢) في «الرد الوافر» (ص ٢١١) قال: «وجمع له ترجمةً مفردةً سماها: الأعلام العلية في مناقب
_________
(^١) ذكر شهاب الدين ابن رجب في «المنتقى» أنه قرأ عليه من مصنفاته «الكفاية في الجرح والتعديل»، و«الفنون [وفي طبعة أخرى: العيون] في علم الحديث» قال: وهو أكمل من كتاب ابن الصلاح. و«الرياض الناضرات» مجالس. و«ناسخ الحديث ومنسوخه»، وبعض مصنف له في الفقه.
1 / 733
الإمام ابن تيمية» ثم نَقَل فقرة منه تتعلّق برجوع بعض العلماء عن مذهب المتكلمين بعد وقوفهم على بحوث الشيخ ﵀ (^١).
وذكره الشيخ مرعي الكرمي (ت ١٠٣٣) في كتابه «الكواكب الدرية» (ص ٥١) وجعله من الكتب التي اعتمد عليها في كتابه، ونقل جلّ مباحثه. وذكره أيضًا في كتابه «الشهادة الزكية» (ص ٦٨).
وأشار إليه إسماعيل البغدادي في «إيضاح المكنون»: (١/ ١٠٣)، و«هدية العارفين»: (١/ ٧٩٠).
٢ - نسخ الكتاب الخطية:
- النسخة الأولى: نسخة المنجد:
وهي نسخة خاصة من مقتنيات الدكتور صلاح الدين المنجد. قال في وصفها: «وكنت اقتنيت من هذا الكتاب نسخة قديمة، ضمن مجموع قديم من القرن الثامن الهجري، فيه رسائل كثيرة لشيخ الإسلام، بعضها غير معروف ولا منشور ...
ومخطوطتنا هي الرسالة السابعة في المجموع الذي أشرتُ إليه. وعدد ورقاتها ٢٣ ورقة. في كل ورقة عشرون سطرًا. كتبت بخط نسخي مملوكي جميل. وهي نسخة تغلب عليها الصحة، إلا أن ناسخها كان يُهمل بعض الإعجام. وقد جاء في الورقة الأولى منها: (كتاب الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية للإمام الحافظ أبي حفص البزّار ﵀.
_________
(^١) وهذا الموضع في كتابنا (ص ٦٢٢).
1 / 734
وجاء في آخرها: «علّقه لنفسه فقير رحمة ربه محمد بن علي البعلي ثم الدمشقي الحنبلي لطف الله تعالى به في الدارين، ووافق تمامه غرّة المحرم سنة ست وخمسين وسبعمئة بالمدرسة الحنبلية بباطن دمشق حرسها الله».
يلي الكتاب بخط الناسخ نفسه ذيل في أسماء أصحاب شيخ الإسلام ومحبّبيه وأعوانه. ويبدو أن الكاتب جعله تذكرة لنفسه ليجمع فيه في ورقتين أسماء كثيرة، وترك بياضًا ليُضيف إليها، لكنه لم يستوف فيما ذكر أسماء المحبّين ولا المعترضين.
ولم أجد ترجمة لناسخ الكتاب. على أنه يبدو أنه كان من فقهاء طلَبة المدرسة الحنبلية بدمشق. وهي المدرسة التي وقفها شرف الإسلام عبد الوهاب بن أبي الفرج الحنبلي سنة ٥٣٦ بدمشق». انتهى كلام المنجد (^١).
- النسخة الثانية: نسخة ليدن:
نسخة في مكتبة جامعة ليدن في هولندا. رقمها ١١٢٦، وهي نسخة متأخرة، ليس عليها تاريخ ولا اسم الناسخ، ولعلها من مخطوطات القرن العاشر، وهي مليئة بالأخطاء تصحيفًا وتحريفًا بخطٍّ عادي.
على الورقة الأولى من النسخة: (كتاب الأعلام العليّة في مناقب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن الحليم (كذا) بن عبد السلام ابن تيمية قدس الله روحه ونوّر ضريحه تأليف الشيخ الإمام العالم العامل الفاضل الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن موسى البزّار رحمة الله تعالى عليه
_________
(^١) مقدمته للأعلام العلية (ص ٧ - ٩).
1 / 735
وغفر له بمنه وكرمه ولجميع المؤمنين آمين) (^١).
وقد سقطت منها كلمات كثيرة، ووجد فيها عبارات الزائدة على نسخة الأصل، مما يدل على أنها ليست منقولة منها، وأن أصلهما مختلف. وقد أشرنا إلى بعض ذلك في الحواشي، وقد رمزنا إليها بحرف (ل).
- النسخة الثالثة: نسخة الكويت:
نسخة محفوظة في مكتبة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت رقم (٢/ ٣١٧)، في ٥٣ ورقة ضمن مجموع (ق ٦ - ٥٨)، وهي نسخة متأخرة كتبت سنة ١٣٧٧ هـ. وليس عليها اسم الناسخ.
٣ - طبعات الكتاب:
١ - طبعة دار الكتاب الجديد، تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجّد، ط. الأولى ١٣٩٦ هـ، وقد اعتمد على نسختين، واحدة كان يملكها وسبق وصفها من كلامه، والثانية نسخة ليدن (ل).
٢ - طبعة المكتب الإسلامي ببيروت، تحقيق الشيخ محمد زهير الشاويش، وقد طبع سنة ١٣٩٤ هـ ثم أعيد عدة مرات.
٣ - طبعة دار الكتب العلمية ببيروت، تحقيق الدكتور يحيى مراد، طبعت سنة ١٤٢٦ هـ، ضمن مجموع يضم خمسة كتب. وقد سقطت منها مقدّمة المؤلف بتمامها!! ولعلها أُخذت من بعض مواقع الشبكة الإلكترونية، إذ وجَدْتُه في بعضها بلا مقدمة!
_________
(^١) انظر مقدمة المنجد (ص ٩ ــ ١٠).
1 / 736
٤ - منهج التحقيق:
- اعتمدت في إثبات نص الكتاب على طبعتي المنجد والشاويش، واستفدت من ذكر فروق النسخ في هوامشها. وكان من المفترض أن تكون نسخ الكتاب بين أيدينا، ولكن عذرنا أن بعض نُسَخه خاصة وليست في مكتبات عامة، ونسخة ليدن حاولت الحصول عليها جاهدًا، ولكن لم أتمكّن من ذلك، مع كونها متأخرة ومليئة بالأخطاء.
- قارنت نصوص الكتاب بالمصادر الناقلة، وبكتب التاريخ، وصححتُ كثيرًا من الأوهام الواقعة في الطبعات.
- علقت على النص بما يزيل الإشكال، أو بما فيه استدراك على المؤلف في بعض ما ذكره، وذلك من مصادر ترجمة الشيخ، أو كتب الشيخ نفسه.
وكتب
علي بن محمد العمران
1 / 737
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه أستعين
قال الشيخ الإمام العالم الورع الفقيه المحدّث سراجُ الدين أبو حفص عمر بن علي بن موسى البغداديّ البزّار ــ ﵀ وأثابه الجنّة ــ:
الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم.
أمّا بعد، فإنّي لما بلغني خبرُ حبر الأمة وربّانيها، الإمام المجتهد المجاهد، ناصر الشريعة الحنيفية، والذابّ عن السنّة المحمدية، شيخ الإسلام تقيّ الدين أبي العبّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، قدّس الله روحه، قال لي جماعةٌ من أهل العلم والدين، ومحبيّ الخير لكافة المسلمين: إنّك قد رأيت الشيخ وصحبته، ووقفت على أحواله وعرفته، فلو أمليت شيئًا منها وسطّرته، ممّا شاهدته وخبرته، لينتفع به من يقف عليه من هذه الأمة، إذ عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة.
فأجبتهم: أني إنما صحبته أيامًا معدودة قلائل، فليس ما أعرفه بالنسبة إلى مناقبه بطائل. لكن لمّا رأيت حُسن قصدهم ونيّتهم، وما دلّ من ظاهرهم على صلاح طويتهم، وأنّ الذي طلبوه مني علَيّ حقًّا واجبًا، إذ يلزم العالم بما فيه نُصْح المسلمين أن يكون على نشره مواظبًا= فذكرتُ
1 / 739
نبذةً مختصرة من مناقبه وطُرَفِه (^١)، تدلّ العاقل المنصف على فضائله وشرَفه.
وقد رتّبتها فصولًا، لتكون لمتأملها دليلًا. وذكرت في كلّ فصلٍ منها ما حضرني ممّا يليق بذكره فيه؛ من ذكر مولده، ومنشئه، وتوفيق الله تعالى له مدة عمره من أوله إلى آخره، وحرصه على العلوم واجتهاده، وكثرة سماعه الأحاديث وازدياده، وغزارة علومه ومؤلفاته ومصنفاته، وسعة نقله في فتاويه ودروسه البديهية ومنصوصاته، وثاقب بصره بأنواع أجناس المذكور والمقول والمنقول، والمتصوّر والمفهوم والمعقول، وذكر تعبّده وورعه، وزهده وتجرّده، وخلوّه عن الدنيا وتبعّده، وإيثاره مع فقره وتواضعه، وكرامته وفراسته، وثباته وكرمه، وشجاعته وصبره في ذات الله ومِحَنِه، وحِفْظ الله تعالى ورعايته له، مع تحاشد أعدائه وحُسّده، وذكر وفاته، وكثرة من صلى عليه ومشيّعي جنازته، وما ألقى الله تعالى في قلوب الخاصة والعامّة في حياته وبعد وفاته، وانتشار فضله وفضائله، وعلمه ومسائله في البلاد والآفاق. فأقول وبالله التوفيق والرشاد:
الفصل الأول: في ذكر مولده ومنشئه، ومدة عمره ﵁ وأرضاه.
الفصل الثاني: في غزارة علومه ومؤلفاته ومصنفاته، وسَعَة نقله في دروسه وعلومه البديهية ومنصوصاته.
الفصل الثالث: في ذكر معرفته أنواع أجناس المذكور والمقول والمنقول، والمتصوَّر والمفهوم والمعقول.
_________
(^١) (ط): «طُرْفة». وما أثبته أصح.
1 / 740
الفصل الرابع: في ذكر تعبّده.
الفصل الخامس: في ذكر بعض ورعه.
الفصل السادس: في ذكر بعض زُهده وتجرّده، وتقاعده عن الدنيا وتبعّده.
الفصل السابع: في إيثاره مع فقره وتواضعه.
الفصل الثامن: في هيئته ولباسه.
الفصل التاسع: في ذكر بعض كراماته وفراسته.
الفصل العاشر: في ذكر كرمه.
الفصل الحادي عشر: في ذكر قوّة قلبه وشجاعته.
الفصل الثاني عشر: في ذكر قوّته في مرضاة الله تعالى وصبره على الشدائد واحتماله إيّاها لله، وثبوته على الحق إلى أن توفّاه الله على ذلك.
الفصل الثالث عشر: في ذكر أن الله تعالى جعله حجّة في عصره، ومعيارًا للحق والباطل، مريدًا الآجل، وغير مؤثر العاجل.
الفصل الرابع عشر: في ذكر وفاته، وكثرة من صلّى عليه وشيَّعه. ﵁ وأرضاه (^١).
_________
(^١) ينبه هنا إلى أن سياقات بعض عناوين الفصول بداخل الكتاب تختلف قليلًا عما هنا بالزيادة أو بالنقص.
1 / 741
الفصل الأول
في ذكر منشئه وعمره ومدّة عمره ﵁ وأرضاه
أمّا مولده فكما أخبرني به غيرُ واحد من الحُفاظ أنه ولد بحرّان في عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مائة. وبقي بها إلى أن بلغ سبع سنين، ثم انتقل به والده ــ ﵀ ــ إلى دمشق المحروسة، فنشأ بها أتمَّ إنشاءٍ وأزكاه، وأنبته الله أحسن النبات وأوفاه.
وكانت مخايل النجابة عليه في صغره لائحة، ودلائل العناية فيه واضحة. أخبرني من أثق به عن جدّته أنّ الشيخ ﵁ في حال صغره، كان إذا أراد المضيّ إلى المكتب، يعترضه يهوديٌّ كان منزله بطريقه، بمسائل يسأله عنها لما يلوح عليه من الذكاء والفطنة. وكان يجيبه عنها سريعًا، حتى تعجّب منه. ثم إنه صار كلّما اجتاز يُخبره بأشياء مما يدلّ على بُطلان ما هو عليه، فلم يلبث أن أسلم وحسن إسلامه. وكان ذلك ببركة الشيخ على صغر سنّه.
ولم يزل منذ أيام صغره مستغرق الأوقات في الجدّ والاجتهاد. وخَتَم القرآن صغيرًا، ثم اشتغل بحفظ الحديث والفقه والعربية حتى برع في ذلك، مع ملازمته مجالس الذِّكر وسماع الأحاديث والآثار. ولقد سمع غير كتابٍ على غير شيخ من ذوي الروايات الصحيحة العالية.
أمّا دواوين الإسلام الكبار، كـ «مسند أحمد»، و«صحيح البخاري»، ومسلم، و«جامع الترمذي»، و«سنن أبي داود السجستاني»، والنسائي،
1 / 742
وابن ماجه، والدارقطني؛ فإنه سمع كل واحد منها مرّات عدّة. وأول كتاب حفظه في الحديث «الجمع بين الصحيحين» للإمام الحُمَيدي.
وقلّ كتاب من فنون العلم إلّا وقف عليه. كأنّ الله قد خصّه بسرعة الحفظ وإبطاء النسيان. لم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء غالبًا إلا ويبقى على خاطره، إمّا بلفظه أو معناه.
وكان العلم كأنّه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره، فإنه لم يكن له مستعارًا، بل كان له شِعارًا ودثارًا. لم يزل آباؤه أهل الدراية التامة والنقد، والقدم الراسخة في الفضل. لكن جمع الله له ما خرق بمثله العادة، ووفقه في جميع عمره لأعلام السعادة، وجعل مآثره لإمامته أكبر شهادة، حتى اتفق كلُّ ذي عقل سليم أنّه ممن عنى نبينا ﷺ بقوله: «إنّ الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدِّد لهذه الأمة أمرَ دينها» (^١). فلقد أحيا الله به ما كان قد دَرَس من شرائع الدين، وجعله حجة على أهل عصره أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
_________
(^١) أخرجه أبو داود (٤٢٩١)، والحاكم: (٤/ ٥٢٢) وصححه من حديث أبي هريرة ﵁. وانظر «المقاصد الحسنة» (ص ١٢١).
1 / 743
الفصل الثاني
في غزارة علومه ومؤلفاته ومصنفاته، وسَعَة نقله في فتاويه ودروسه البديهية ومنصوصاته
أمّا غزارة علومه فمنها: ذكر معرفته بعلوم القرآن المجيد واستنباطه لدقائقه، ونقله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله، وما أودعه الله تعالى فيه من عجائبه، وفنون حكمه، وغرائب نوادره، وباهر فصاحته، وظاهر ملاحته، فإنه فيه الغاية التي يُنتهى إليها، والنهاية التي يُعوَّل عليها. ولقد كان إذا قُرئ في مجلسه آياتٌ من القرآن العظيم يشرع في تفسيرها، فينقضي المجلس بجملته، والدرس بزمنه، وهو في تفسير بعض آيةٍ منها.
وكان مجلسه في وقت مقدَّر بقدر ربع النهار. يفعل ذلك بديهةً من غير أن يكون له قارئٌ مُعيَّن يقرأ له شيئًا معيّنًا يُبَيّته (^١) ليستعدّ لتفسيره، بل كان من حضر يقرأ ما تيسّر، ويأخذ هو في القول على تفسيره. وكان غالبًا لا يقطع إلا ويفهم السامعون أنه لولا مضيّ الزمن المعتاد لأورد أشياء أُخر في معنى ما هو فيه من التفسير، لكن يقطع نظرًا في مصالح الحاضرين.
ولقد أملى في تفسير ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ مجلّدًا كبيرًا. وقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ نحو خمس وثلاثين كرّاسة.
ولقد بلغني أنّه شرع في جمع تفسير لو أتمّه لبلغ خمسين مجلدًا.
_________
(^١) (ط): «ببيته يستعد» والمثبت من (ك).
1 / 744
أمّا معرفته وبصره بسنّة رسول الله ﷺ وأقواله وأفعاله وقضاياه ووقائعه وغزواته، وسراياه وبعوثه، وما خصّه الله تعالى من كراماته ومعجزاته، ومعرفته بصحيح المنقول عنه وسقيمه، والمنقول عن الصحابة ﵃ في أقوالهم وأفعالهم وقضاياهم وفتاويهم وأحوالهم، وأحوال مجاهداتهم في دين الله، وما خُصوا به من بين الأمة= فإنه كان ــ ﵁ ــ من أضبط الناس لذلك، وأعرفهم فيه، وأسرعهم استحضارًا لما يريده منه.
فإنه قلّ أن ذَكَر حديثًا في مصنّفٍ وفتوى، أو استشهد به، أو استدلّ به، إلا عزاه في أيّ دواوين الإسلام هو، ومن أيّ قسم من الصحيح أو الحسن أو غيرها. وذَكَر اسم راويه من الصحابة. وقلّ أن يُسأل عن أثرٍ إلا وبيّن في الحال حاله، وحال أمره (^١) وذكره.
ومن أعجب الأشياء في ذلك: أنه في محنته الأولى بمصر (^٢) لمّا أُخِذَ وسُجن، وحيل بينه وبين كتبه، صنف عدّة كتب صغارًا وكبارًا، وذكر فيها ما احتاج إلى ذكره من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء وأسماء المحدِّثين والمؤلفين ومؤلفاتهم، وعزا كلَّ شيء من ذلك إلى ناقليه وقائليه بأسمائهم، وذكر أسماء الكتب التي ذلك فيها، وفي أي موضع هو منها. كلُّ ذلك بديهة من حفظه؛ لأنّه لم يكن عنده حينئذٍ كتاب يُطالعه. ونُقِّبَت (^٣)
_________
(^١) كذا، ولعلها: «راويه» أو نحوه.
(^٢) سنة (٧٠٥).
(^٣) في (ل): «نقيت» وفي (ط المنجد): «نُفِيت».
1 / 745
واعْتُبِرَت فلم يوجد فيها بحمد الله خلل ولا تغيّر. ومن جملتها كتاب «الصارم المسلول على شاتم الرسول» (^١)، وهذا من الفضل الذي خصَّه الله تعالى به.
ومنها ما منحه الله تعالى من معرفة اختلاف العلماء ونصوصهم، وكثرة أقوالهم واجتهادهم في المسائل، وما رُوي عن كلٍّ منهم من راجح ومرجوح، ومقبول ومردود، في كل زمان ومكان وعصر، من الصحيح الثاقب الصائب للحقّ مما قالوه ونقلوه، وعَزْوه ذلك إلى الأماكن التي بها أودعوه، حتى كان إذا سئل عن شيء من ذلك كأنّ جميع المنقول عن الرسول ﷺ وأصحابه والعلماء فيه من الأولين والآخرين متصوَّر مسطور بإزائه. يقول ما شاء الله، ويذكر (^٢) ما يشاء. وهذا قد اتفق عليه كلّ من رآه، أو وقف على شيء من علمه، ممن لم يُغلِظ عقلَه الجهلُ والهوى.
وأمّا مؤلفاته ومصنفاته فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها، أو يحضرني جملة أسمائها، بل هذا لا يقدر عليه غالبًا أحد؛ لأنّها كثيرة جدًّا، كبارًا وصغارًا. وهي منشورة في البلدان. فقلَّ بلدٌ نزلتُه إلا ورأيت فيه من تصانيفه.
_________
(^١) الراجح أن تأليف كتاب الصارم .. كان في الشام قبل سفر الشيخ إلى مصر بمدة طويلة، عقب حادثة عسَّاف النصراني، سنة (٦٩٣). انظر «الجامع لسيرة شيخ الإسلام» (ص ٤٠٦ - ٤٠٧). وقد ألف الشيخ في مصر عددًا من الكتب من أهمها «منهاج السنة النبوية»، و«جواب الاعتراضات المصرية»، و«الرد على البكري»، وفتاوى جمعت فكانت نحو ست مجلدات كبار. وغير ذلك.
(^٢) لعلها: «ويترك».
1 / 746
- فمنها ما يُبلغ اثنى عشر مجلدًا، كتخليص (^١) التلبيس على أساس التقديس وغيره.
- ومنها ما يبلغ سبع مجلدات، كالجمع بين العقل والنقل.
- ومنها ما يبلغ خمس مجلّدات، ومنها منهاجُ الاستقامة والاعتدال ونحوه.
- ومنها ما يبلغ ثلاث مجلّدات، كالرَّد على النصارى وشِبْهه.
- ومنها مجلدان، كنكاح المحلّل، وإبطال الحيل (^٢)، وشرح العقيدة الأصبهانية.
- ومنها مجلّد ودون ذلك. وهذان القِسْمان من مؤلفاته فهي كثيرة جدًّا لا يمكنني استقصاؤها، لكن أذكر بعضها استئناسًا:
- كتاب تفسير سورة الإخلاص، مجلد.
- كتاب الكلام على قوله ﷿: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾.
- كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول، مجلد.
- كتاب الفرق المبين بين الطلاق واليمين.
- كتاب الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
- كتاب اقتضاء الصراط المستقيم.
- كتاب الكلم الطّيب.
_________
(^١) (ط، ك): «كتلخيص ...» وسيأتي (ص ٧٥٥) كما أثبتّ، ولعله الصواب.
(^٢) «نكاح المحلل، وإبطال الحيل» كتاب واحد، وهو المسمى «بيان الدليل على بطلان التحليل» مطبوع في مجلد واحد. وسيعيده المؤلف على أنه مجلد واحد.
1 / 747
- كتاب إثبات الكمال (^١).
- كتاب الردّ على تأسيس التقديس (^٢).
- كتاب نقض أقوال المبتدعين.
- كتاب الردّ على النصارى (^٣).
- كتاب إبطال الحيل ونكاح المحلّل (^٤).
- كتاب شرح العقيدة الأصبهانية.
- كتاب الفتاوى.
- كتاب الدرّ الملتقط.
- كتاب أحكام الطلاق.
- كتاب الرسالة (^٥).
- كتاب اعتقاد الفرقة الناجية.
- كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام.
- كتاب تقرير مسائل التوحيد.
- كتاب الاستغاثة والتوسّل.
_________
(^١) كذا في (ط)، ولعل صوابه: «إثبات الكرامات». انظر «العقود الدرية» (ص ٦٢).
(^٢) هو الذي سبق عنده باسم «تلخيص التلبيس على أساس التقديس». في اثني عشر مجلدًا، إلا إن وقع تصحيف في الاسم.
(^٣) سبق للمؤلف أنه ثلاثة مجلدات.
(^٤) سبق للمؤلف أنه والذي يليه مجلدان.
(^٥) كذا! ولم يبيِّن أي رسالة أراد.
1 / 748
- كتاب المسائل (^١) الحموية.
- كتاب المسائل الجزرية.
- كتاب المسائل المفردة.
ولا يليقُ هذا المختصر بأكثر من هذا القَدْر من مؤلفاته، وإلاّ فيمكن تعداد ما ينيفُ على المائتَين، لكن لم نَرَ الإطالة بذكره.
وأما فتاويه ونصوصه وأجوبته على المسائل، فهي أكثر من أن أقدر على إحصائها، لكن دُوِّن بمصر منها على أبواب الفقه سبعة عشر مجلّدًا. وهذا ظاهر مشهور. وجمع أصحابه أكثر من أربعين ألف مسألة. وقلَّ أن وَقَعَتْ واقعةٌ وسُئل عنها، إلّا وأجابَ فيها بديهةً بما بَهَرَ واشتهر. وصار ذلك الجواب كالمصنّف الذي يحتاج فيه غيره إلى زمن طويل ومطالعة كُتُب، وقد لا يقدر مع ذلك على إبراز مثله.
أخبرني الشيخ الصالح تاج الدين محمد المعروف بابن الدوري، أنّه حضر مجلس الشيخ ﵁، وقد سأله يهوديٌّ عن مسألة في القَدَر قد نظمها شعرًا في ثمانية أبيات، فلما وقف عليها فكّر لحظة يسيرة وأنشأ يكتب جوابها، وجعل يكتب ونحن نظنّ أنه يكتب نثرًا. فلما فرغ تأمّله من حضر من أصحابه، وإذا هو نظم في بحر أبيات السؤال وقافيتها، تقرب من مائة وأربعة وثمانين بيتًا (^٢). وقد أبرز فيها من العلوم ما لو شُرح بشرح لجاء
_________
(^١) كذا بالجمع، والمعروف: المسألة. وكذلك الذي يليه.
(^٢) انظرها في «مجموع الفتاوى»: (٨/ ٢٤٥ - ٢٥٥). وعددها فيهما مائة وخمسة وعشرون بيتًا. وهي ملحقة ببعض نسخ «العقود الدرية» وعددها هناك مئة وخمسة أبيات. وذكر الحافظ في «الدرر» أنها مائة وتسعة عشر بيتًا. انظر «شرح التائية» (ص ١١٤) لمحمد الحمد.
1 / 749
شرحه مجلّدين كبيرين. هذا من جملة بواهره. وكم من جواب فتوى لم يُسبق إلى مثله.
وأمّا ذكر دروسه؛ فقد كنت في حال إقامتي بدمشق لا أفوّتها. وكان لا يهيئ شيئًا من العلم ليُلقيه ويورده، بل يجلس بعد أن يصلي ركعتين فيحمد الله ويثني عليه، ويصلّي على رسوله ﷺ، على صفة مستحسنة مستعذبة لم أسمعها من غيره. ثم يشرع فيفتح الله عليه إيراد علوم وغوامض، ولطائف ودقائق، وفنون ونقول، واستدلالات بآياتٍ وأحاديث، وأقوال العلماء، ونصر (^١) بعضها وتبيين صحته، أو تزييف بعضها وإيضاح (^٢) حجّته، واستشهادٍ بأشعار العرب، وربّما ذكر ناظمها. وهو مع ذلك يجري كما يجري السيل، ويفيض كما يفيض البحر، ويصير منذ يتكلم إلى أن يفرغ، كالغائب عن الحاضرين، مغمضًا عينيه، وذلك كله مع عدم فكره فيه ورَوِيَّته (^٣)، من غير تعجرف ولا توقف ولا لحن، بل فيضٌ إلهيّ، حتى يبهر كل سامع وناظر، فلا يزالُ كذلك إلى أن يصمت. وكنتُ أراه حينئذٍ كأنّه قد صار بحضرة من يشغله عن غيره، ويقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يُرعد القلوب ويحيّر الأبصار والعقول.
_________
(^١) في نسخة: «ونقد».
(^٢) كذا، ولعلها: «وإدحاض» أو نحوها.
(^٣) (ط): «وروايته» خطأ، والمثبت من (ل) و(ك): «فكر فيه ورويّة».
1 / 750