قال: «قد عرفت صدقك من إنذارك إيانا في صباح هذا اليوم، ولم يسعدنا الحظ بالاطلاع على الحقيقة إلا بعد فوات الفرصة، فأخذوا أخي الإمام إبراهيم أسيرا، ولا ندري ماذا يكون مصيره، غير أننا لا نرجو بقاءه. وقد أنبأنا هو بذلك، وأوصانا وصية تتعلق بالبيعة.»
فقطع صالح كلامه وقال: «البيعة لك.» لعلمه أن تلك البشارة أفضل ما يتقرب به الناس من هؤلاء الأشراف.
فقال: «وما أدراك أنها لي؟ فقد بويع بها أخي أبو العباس الليلة.»
قال صالح: «بل هي لك، إن لم يكن عاجلا فآجلا.» قال ذلك خداعا للمنصور؛ لعلمه أن قوله يجتذب قلبه نحوه، وما ضره لو لم تصح نبوءته وقد أجل وقوعها لوقت لم يحدده؟!
وكان المنصور من أهل الذكاء والدهاء، ولكنه سبق إلى اعتقاده صدق صالح من أول نبوءة، وتوسم الولاية في وجهه بما شاهده من بلاهته، فقال له: «إنما جئتك لهذه الغاية، وقد تحققت من صدقك منذ ناديتني بصاحب القباء الأصفر.»
ولم يكن صالح قد قال ذلك لغرض، ولكن اتفق أن لهذه العبارة حكاية أخذ المنصور يقصها عليه؛ فقال وهو يشير إلى قبائه: «إن هذا القباء يشهد بصدقك؛ فقد اجتمع بنو هاشم منذ مدة في المدينة وأنا معهم للنظر في أمر البيعة لمن تكون بعد ذهاب دولة بني أمية، وكان الإمام جعفر الصادق حاضرا فقال: «لا ينال الخلافة إلا صاحب القباء الأصفر.» وكنت لابسا هذا القباء، فوعدت نفسي بهذا الأمر، ورتبت العمال من تلك الساعة.»
1
ففرح صالح لهذه المصادفة وأخذ يستخدم دهاءه لإتمام الحيلة فقال: «ألم أقل لك ذلك؟»
قال: «نعم، ولكن الواقع خلاف ما ذكرت؛ فقد بايعوا قبلي لأخي إبراهيم، ولما ساقوه اليوم إلى السجن بايع لأخي أبي العباس، وأوصانا أن نذهب إلى شيعتنا في الكوفة.»
فقطع صالح كلامه كأنه لا يريد أن يسمع قوله وقال: «لا، لا، بل أنت الخليفة. هذا الذي أعرفه ولو بويع بها كل أهلك، فإنها صائرة إليك. أبشر بها من الآن، وسترى ونرى إن شاء الله.» قال ذلك ووقف كأنه يريد أن يصرف جليسه، فلم يعبأ المنصور بتدلله؛ لعلمه أن أهل الكرامة يغلب فيهم غرابة الطباع، فوقف وهو يقول: «ما بالك؟»
صفحة غير معروفة